تقديم
إن الكتابة عن يوم عاشوراء يعني الكتابة عن الزمن والألفة بين المكان كربلاء، وبين الزمان عاشوراء وهو ارتباط وثيق بين الزمان والأرض؛ فنحن نرى أن كل الشهور الهجرية القمرية والميلادية الشمسية بها يوم العاشر من هذا الشهر أو ذاك؛ ولكنه لا يسمى عاشوراء، فلا أحد ادعاه ولا فرضه سلطان؛ وانفرد يوم عاشوراء بشهر المحرم، ويأتي مرة كل عام، ليظل الخلود ليوم مصارعة الظلم والقهر والحرمان.
إن مصطلح عاشوراء، حسب قواعد اللغة العربية؛ هو صيغة مبالغة[1]، لتظهر ملامحه المقدسة لذلك اليوم الكربلائي.
لقد ارتبطت عاشوراء بيوم العاشر من محرم الحرام لأسباب مثالية؛ فشهر محرم الحرام شهر مقدس وارتبط كما ذكرنا بأرض كربلاء، ثم باستشهاد الإمام الحسين؛ وشهرة شعار (الموت بعزة خير من الحياة بذلة)[2]…
من وحي كربلاء.
عاشوراء هو مصطلح يشير إلى الأفكار والمفاهيم والأحاسيس، التي تستلهم من أحداث واقعة الطف بكربلاء، وخاصة استشهاد الإمام (ع)، واستلهام المعاني من القيم والمبادئ التي تجسدت في تلك الواقعة، مثل التضحية، والصبر، والوفاء، والعدالة، والحرية، ومقاومة الظلم.
والمدهش العجيب أن يمنح عاشوراء قيمة للكتّاب والمؤرخين في استلهام المعاني الكامنة في كربلاء وعاشوراء؛ ولذلك ارتبط هذا المصطلح العاشورائي بالأعمال الأدبية القديمة والمعاصرة، والأعمال الفنية، والمحاضرات، والمجالس التي تتناول هذه الأحداث، وتسعى لاستخلاص العبر والدروس المستفادة منها.
كما أنه يشمل المواقف الحياتية، التي يعكس فيها الفرد قيمه ومبادئه المستمدة من كربلاء، سواء كانت في مواجهة الظلم، أو في الدفاع عن الحق، أو في التمسك بالقيم الإنسانية النبيلة.
بمعنى آخر، “من وحي كربلاء” هو استلهام لقيم ومبادئ إنسانية خالدة تجسدت في ملحمة كربلاء، واستمرارًا لتلك القيم في حياتنا اليومية، سواء في الأقوال أو الأفعال.
التنافس الشريف على الرأس المقدس.
من الأمور المرتبطة بروح كربلاء وقداسة عاشوراء هو تنافس المسلمين حول مكان وجود الرأس الحسيني الشريف؛ وهو تنافس شريف محمود؛ ففي حين يرى شيعة أهل البيت (ع) أن الرأس الشريف مدفون مع الجسد الحسيني في كربلاء؛ يرى المسلمون في الشام أن الرأس موجود في مشهد الرأس في زاوية من زوايا الجامع الكبير بدمشق؛ ولكن الإخوة في مصر يصرون على أن الرأس المقدس مدفون في مشهد الإمام الحسين المشهور بالقاهرة؛ ولا يرون له بديلًا. وفي أماكن أخرى توجد مدافن يجزم المحيطون بها أن رأس الحسين فيها.
هذا نراه تنافسًا إيجابيًّا لا ضرر منه؛ فسيرة الحسين مرتبطة بالضمير الإسلامي النبوي المنشأ الإلهي المصدر؛ وصدق الشاعر الذي قال:[3]
لا تطلبوا رأس الحسين بشرق أرض أو بغرب
ودعوا الجميع وعرجوا نحوي فمشهده بقلبي
نعم مشهده موجود في قلوب كل المسلمين؛ وسيرته فواحة في ضمائر كل البشر.
ونكتب قليلًا حول فلسفة عاشوراء وأنماط الحياة.
أولًا: فلسفة عاشوراء.
لا يكون عاشوراء إلا بوجود كربلاء؛ وليست كربلاء مجرد بقعة من الأرض محددة في أرض العراق؛ ولكنها قيمة إنسانية في أي مكان يتعرض فيه الضعفاء والمظلومون للقتل والتعذيب والنفي[4].
وكما يوجد أئمة ومصلحون عبر التاريخ؛ يوجد مثل يزيد؛ وحيثما يوجد يزيد وابن زياد؛ لا بدّ من وجود ثوار يتصدون ضد المناخ اليزيدي؛ وهنا تصدق مقولة الإمام جعفر الصادق (ع): “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء”[5]؛ بصرف النظر عن القلة المؤمنة والكثرة الظالمة المتكبرة؛ كما قال أمير المؤمنين (ع) لأبي ذر وهو يودعه عندما تم نفيه من مدينة الرسول (ص) إلى أرض الربذة: “ولا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه”[6]… وقلة عدد السالكين لا يدل على عدم اليقين، ولا بدّ من دفاع القلة من أجل قهر الظلم، لأنه كما قال أمير المؤمنين أيضًا: “الحياة في موتكم قاهرين والموت في حياتكم مقهورين”[7]… وهي عبارة تدل على عدم اليأس، ولا بدّ من عدم لجوء القلة إلى أساليب تماثل أساليب الأغلبية التي تكون ظالمة، حتى لو من أجل النصر[8].
أبعاد عاشوراء الفلسفية.
تدور فلسفة عاشوراء حول قيم التضحية والفداء والنهوض ضد الظلم والفساد، حيث تجسد معركة كربلاء صراع الحق والباطل، والانتصار لقيم الإنسانية والعدل، وتأكيد على أهمية الإصلاح والتغيير الاجتماعي.
تدور جوانب فلسفة عاشوراء في عدة أبعاد:
- التضحية والفداء حيث تجسد معركة كربلاء قمة التضحية والفداء، من قبل الإمام الحسين (ع) وأصحابه في سبيل الدفاع عن الحق والعدل.
- النهوض ضد الظلم، فتمثل عاشوراء ثورة على الظلم والاستبداد، ورفضًا للخضوع للطغاة والظالمين.
- الإصلاح والتغيير الاجتماعي؛ لأن عاشوراء تهدف إلى إحداث تغيير إيجابي في المجتمع من خلال إحياء قيم الحق والعدل، ومحاربة الفساد والانحراف.
- التمسك بالقيم الإنسانية، حيث تعكس عاشوراء تمسّكًا بالقيم الإنسانية السامية، مثل الشجاعة، والإخلاص، والوفاء، والحرية.
- الاستمرار في طريق الحق، وتؤكد عاشوراء على أهمية الاستمرار في طريق الحق والعدل، مهما كانت التضحيات، وأن معركة كربلاء لم تنتهِ بفصلها التاريخي، بل هي مستمرة في كل زمان ومكان[9].
باختصار، فلسفة عاشوراء تدعو إلى التمسك بالحق، ومواجهة الظلم، والسعي للإصلاح والتغيير الإيجابي في المجتمع، والتضحية في سبيل القيم الإنسانية النبيلة.
ثانيًا: نمط الحياة في القرآن ومن وحي عاشوراء.
تعتبر عاشوراء رمزًا للحق والحياة الأريحية والإيمان والتقوى؛ ضد الباطل والخذلان والعمى؛ في مقابل الوفاء والفداء والتضحية[10].
لقد علمتنا واقعة الحسين معرفة الجبناء والحذر من الركون إليهم، وكذلك علمتنا كيف تصنع الأموال في تقليب أحوال الرجال.
إن نمط الحياة هو السلوك الفردي والجماعي؛ السلوك الإيجابي والسلوك السلبي؛ ونمط الحياة يعبر عن الهوية.
وفي كل الأحوال نزاحم ونقول: يوجد نمطان في الحياة: نمط الباطل، ونمط الحق؛ وبينهما نمط يختلط فيه الحق بالباطل وهو ما نراه نمط الحياة، كمال قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[11]، وهؤلاء يمكن أن يستمعوا لقول الحق والعمل به، بخلاف من يتدثرون بثياب الباطل.
نمط الباطل: يشير نمط الباطل إلى الأسلوب أو الطريقة التي يسير بها الباطل، أو الصفات التي تميزه.
الباطل هو ما لا أصل له ولا يعتد به، وهو نقيض الحق، ويدخل فيه الكذب والفساد والخطأ والعدم والاستبداد الفردي والحكومي.
أما في الاستخدام العام، قد يشير إلى أي شيء زائف أو غير صحيح أو غير مقبول، وسلوك الباطل يتنافى مع الفطرة الإنسانية، التي فطر الله الناس عليها، وأيضًا سلوك الباطل يمنع التفكير في الحق، طالما فقد المتمسك بالباطل فريضة التقوى.
نمط الحياة: يعرف بنمط العيش؛ وهو البيئة التي يختارها الإنسان ليعيش فيها، وكيفية تعامله معها كل حسب مقدرته ووضعه في المجتمع وقناعاته الشخصية.
فنمط الحياة يختلف من فرد إلى آخر ومن جماعة لجماعة أخرى.
النمط هنا هو الأسلوب الحياتي، أو الطريقة التي يعيش بها الفرد في الجوانب المختلفة من حياته، مثل الغذاء والرياضة، والصحة النفسية، والعلاقات الاجتماعية والمالية والعملية.
ويحدد الأسلوب الحياتي الممارسات اليومية التي يتبعها الفرد وسلوكياته، والتي تؤثر على جودة حياته وصحته، لذلك، يعتبر الأسلوب الحياتي من العوامل المهمة التي تؤثر على صحة الفرد وسعادته؛ لأن جميع البشر على مر التاريخ يحتاجون، بالإضافة إلى الحاجات الدنيوية والمادية، إلى الحاجات المعنوية والروحية.
وطرق الوصول إلى الحاجات المعنوية، ليست كطرق الوصول إلى الحاجات المادية، بل هي طرق معنوية جعلها الله تبارك وتعالى للناس حتى يسلكوها ويصلوا إلى الدرجة العليا، ونجد أن نمط الحياة في القرآن الكريم يشمل منهجًا شاملًا للحياة، يوجه المسلمين في جميع جوانبها، من خلال مبادئ وأحكام تضمن لهم السعادة في الدنيا والآخرة.
يركز القرآن على أهمية الإيمان والتقوى، وينظم العلاقات الاجتماعية والأسرية، ويدعو إلى العمل الصالح والاجتهاد في طلب الرزق، مع التمسك بالقيم والأخلاق الحميدة؛ نستشف ذلك من الآية الكريمة ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[12]؛ فالتقوى تشمل كل الأنماط الإيجابية، وتشمل المؤمنين من أصحاب الذنوب، الذين يتوبون عندما يعرفون الحق فيتبعونه.
باختصار، يمثل القرآن الكريم منهجًا عاشورائيًّا متكاملًا للحياة، يهدف إلى تحقيق السعادة والنجاح في الدنيا والآخرة، من خلال التمسك بتعاليم الإسلام وتنفيذ أحكامه في جميع جوانب الحياة؛ والله تبارك وتعالى بعث أنبياء وأئمة حتى يستفيد البشر من وجودهم، وتصل بهم إلى الدرجات العالية والكمالات الراقية.
ثم تأتي قضية سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وواقعة كربلاء من أهم الوقائع والأحداث التي وقعت في حياة المعصومين، وهي الفيصل في الحكم على أنماط البشر، لكي نفرق بين الحق والباطل على أسس إيمانية روحية، تستمد العزم من يوم عاشوراء والأمل من أرض كربلاء، فنحن نستطيع أن نتعلم كيفية الوصول إلى الحياة السعيدة والعيش الحقيقي في هذه الدنيا من خلال التأمل في كلمات سيد الشهداء (ع) وأفعاله وتصرفاته مع عائلته وأقربائه وأصحابه وأعدائه..
نعم كل أرض كربلاء وكل يوم عاشوراء…
[1] معجم مختار الصحاح، بغداد، مكتبة المتنبي، 1987، الصفحة 398.
[2] شعار الموت بعزة خير من الحياة بذلة مشهور ومعروف عن سيد الشهداء. انظر على أبو الخير، في رحاب كربلاء، القاهرة، مركز يافا للدراسات، 2001، الصفحة 7.
[3] البيتان من الشعر نحفظهما منذ كتبها الشاعر غير المعروف على وجه التحديد.
[4] عباس محمود العقاد، سيد الشهداء الحسين بن علي، القاهرة، مكتبة الأسرة، بتصرف من صفحات الكتاب.
[5] العبارة منسوبة إلى أكثر من إمام، لكن المشهور هو للإمام الصادق (ع). انظر، في رحاب كربلاء، مصدر سابق، الصفحة 132.
[6] الإمام علي، نهج البلاغة، مكتبة نور الإلكترونية، 3/243.
[7] نهج البلاغة، مصدر سابق، 3/256.
8 بدون اسم كاتب، موقع الكتروني https://www.google.com/search?q=%D9%81%D9%84
[9]بدون اسم كاتب، موقع الكتروني، مصدر سابق،
https://www.google.com/search?q=%D9%81%D9%84
[10] عباس العقاد، سيد الشهداء، مصدر سابق، الصفحة 14.
[11] سورة التوبة، الآية 102.
[12] سورة الطلاق، الآية 2.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.