في التاريخ والحاضر الإسلامييْن
تمهيد حول ذكرى عاشوراء.
هذه ليست دراسة مقارنة حول كربلاء؛ ولكنها تأملات من وحي عاشوراء.
فلقد جرت العادة ومنذ أكثر من ألف عام تقريبًا، أن ينشأ الخلاف بين جموع المسلمين في الفترة من بداية محرم وحتى العشرين من صفر، حيث تحل ذكرى عاشوراء التي شهدت استشهاد الإمام الحسين (ع)، وأهل بيته الطاهرين في كربلاء وذكرى الأربعين.
في هذه الفترة يشتعل الجدل حول أكثر من تفصيلة تتعلق بهذه الذكرى، وتطرح العديد من التساؤلات، وهي تبدأ من مشروعية الاحتفال بهذا اليوم، وتمتد إلى أن حقيقة الاحتفال مختلفة تمامًا ولا علاقة لذكرى الحسين (ع) بها، وتنتهي حول مشروعية بعض الأحداث ومظاهر الاحتفال واستحضار هذه المأساة.
هل الاحتفال بعاشوراء من أجل الحسين (ع)؟
ربما يكون التساؤل الأول الذي يطرح نفسه هنا، هل تبجيل المسلمين ليوم عاشوراء يعود لاستشهاد الإمام الحسين وأهل بيته (ع)، أم لسبب آخر سابق عليه؟ وهذا التساؤل يؤدي إلى حالة من التلاسن بين الشيعة والسنة، حيث يرى أهل السنة في معظمهم أن النبي (ص) احتفل بيوم عاشوراء وصامه، وذكرت مدوناتهم الحديثية العديد من المرويات في فضل هذا اليوم، لكنها اختلفت في سبب صيام النبي (ص) له، وذكرت في هذا الشأن سببين:
السبب الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة أنها قالت: “كان يوم عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله (ص) يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه، فلما فرض رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه”. وقد روى البخاري ومسلم كذلك رواية مقاربة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب تفيد نفس المعنى.
السبب الثاني: هو ما رواه البخاري ومسلم كذلك عن ابن عباس قال: “قدم النبي (ص) المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه”.
والواقع أن كلا السببين مثّل إشكالًا كبيرًا من الناحية الإسلامية، حيث يتهم الحديث المنسوب للسيدة عائشة النبي (ص) باتباع شعائر وثنية سابقة على الإسلام، وهو ما لا يمكن قبوله، واضطر الحافظ بن حجر العسقلاني، للخروج من هذه الورطة، أن يضع تفسيرًا هو في الواقع تخمين لا يثبت على الإطلاق بقوله: “وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك”، ثم يضع تفسيرًا آخر محتملًا، من وجهة نظره، أكثر غموضًا من الأول نقله عن عكرمة قائلًا: “عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبًا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك”.
وخلال محاولات ابن حجر للخلاص من هذا المأزق لم يبحث في تفسيره الأول عن الكيفية التي تلقت بها قريش الوثنية شعيرة صوم عاشوراء؟ ولا كيف كانوا يصومونه بالأساس؟ والتساؤل الأهم هو إلى أي مدى كان القريشيين الوثنيين يتبعون هذا الشرع لدرجة الحفاظ على شعيرة صوم عاشوراء طوال هذه المدة دون وجود أي كتاب مدون لديهم يحوي هذه الشرائع؟ ويبدو التفسير الثاني غير قابل لطرح التساؤلات، فكل قبيلة قريش ارتكبت ذنبًا لا يعرف ما هو، وسألت شخصًا مجهولًا غير معروف كذلك، فنصحهم بصيام عاشوراء لتكفير الذنب دون أن نعرف من أي مصدر أو ديانة استقى الشخص المجهول هذه الشعيرة، وما علاقته بالذنب المجهول، والأهم أن قريشًا حافظت عليها بعد أن نسيت الذنب الذي ارتكبته ونسيت من اقترح عليها هذه الوسيلة للتكفير عن ذنبها!
الحديث الثاني هو خطأ، بكل تأكيد، من ثلاث نواح:
الناحية الأولى: أن يوم عاشوراء لدى اليهود لا علاقة له بنجاة موسى وبني إسرائيل من فرعون؛ فالمقصود هنا هو عيد الفصح غير المتشابه مع يوم عاشوراء على الإطلاق، حيث يبدأ من مساء الرابع عشر من شهر أبيب (نيسان)، وينتهي في الحادي والعشرين من الشهر ولا يتضمن هذا العيد أي نوع من الصيام، أما يوم العاشر من تشري (الشهر السابع في السنة اليهودية) الذي يصومه اليهود وهو يوم الكفارة (كيبور)، فقد ذكر سفر اللاويين في العهد القديم أنه كان على اليهود – ما عدا المرضى والشيوخ والأولاد – أن يصوموا ذلك اليوم من المساء إلى المساء؛ أي من الغروب إلى الغروب. كان عليهم أن يمتنعوا عن الطعام والشراب والاغتسال، ودهن الرأس ولبس الأحذية والعلاقات الزوجية. وكل نفس لا تنقطع فيه للعبادة والتذلل والصوم تقطع من الشعب، وكل نفس تعمل عملًا تباد تلك النفس، وكل من أكل أو شرب سهوًا يقدم ذبيحة خطية، أما من فعل ذلك عمدًا فيقطع. (لاويين 23: 29، 30). وبالتالي لا علاقة على الإطلاق بين الصومين.
الناحية الثانية: أن المروية تعمدت هذا الربط الخطأ بين يوم عاشوراء ويوم الفصح اليهودي (الذي لا يوجد به أي صوم) نظرًا لكون عيد الفصح يأتي في الشهر الأول من السنة اليهودية، وهو ما يقابل شهر محرم في السنة الهجرية العربية بعد إقرارها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، بما يعني أن هذه المرويات حول علاقة عاشوراء باليهود تمت صياغتها لاحقًا، لكن القائم بهذا الربط تناسى أن النبي (ص) هاجر إلى المدينة بحسب أغلب المرويات في شهر ربيع الأول وليس في شهر محرم.
الناحية الثالثة: أن هذه المرويات تنسب إلى النبي (ص) نقل بعض الشعائر عن اليهود، وهو ما استفز بعض علماء السلف، حيث نقل الإمام النووي عن المازري: “خبر اليهود غير مقبول، فيُحتمل أن النبي (ص) أوحي إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به”، والواقع أن رفض المازري للخبر يمثل بعض الوعي لديه بخطورته، لكن تبريره كذلك لا يمكن قبوله بسبب كون الخبر خطأ من الأساس.
من الواضح إذن، أن كل هذه المرويات والتبريرات المتناقضة تسعى للتعمية، وإثارة الغبار فقط على كون يوم عاشوراء مرتبطًا بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع)، حتى لو كان ذلك على حساب النبي (ص) ومحاولة اتهامه بالنقل من التشريعات الوثنية أو اليهودية.
هل كان خروج الحسين شرعيًّا؟
هناك تساؤل آخر يطرحه أبناء التيار السلفي من أهل السنة هو شرعية خروج الإمام الحسين (ع) لمواجهة السلطة القائمة الممثلة في يزيد بن معاوية، ويدخل بعضهم كأبو بكر بن العربي، ووحيد الدين خان في مقارنة غريبة للغاية لإثبات أن الإمام الحسن (ع) أفضل من الإمام الحسين (ع)، وبالتالي فإن تصرف الإمام الحسن بالصلح مع معاوية أفضل من تصرف الإمام الحسين بالثورة على يزيد، إلى درجة أن يقول ابن العربي المالكي في العواصم من القواصم: “وما خرج إليه أحد إلا بتأويل، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل”. أما وحيد الدين خان فذكر في كتابه الحسن والحسين: “إن الموقف الذي واجهة الحسين في حياته مع يزيد، هو نفس الموقف الذي واجهه أخوه الحسن في حياته مع معاوية، لكن الحسن قد اتخذ رد فعل مناقضًا لما اتخذه الحسين في حياته”، ويصل في النهاية إلى نتيجة المقارنة: “إن ما فعله الحسن لم يكن أمرًا عفويًّا أو مصادفة، بل هو مبني على تعاليم الشريعة الواضحة، فقد ألهم الله نبيه بوقوع اختلافات سياسية في أوساط المسلمين بعده. لذلك أدلى النبي بتوجيهات واضحة صريحة تمنع من الدخول في حروب مع المسلمين باسم الصالح. كما تنص على الاهتمام بأداء المسؤوليات الشخصية”.
ولا أعتقد أن هناك مجال للمناقشة مع كاتب سلفي حول أن كلا الموقفين غير متشابهين على الإطلاق، فالإمام الحسن (ع) كان في السلطة بالفعل، وكان معاوية هو الخارج عليه، وتمكّن الحسن (ع) من وضع عدة شروط ألزم بها معاوية بن أبي سفيان لتقييد سلطته على اعتبار أن هذه السلطة سوف ترد للحسن (ع) عقب وفاة معاوية، أو للحسين (ع) إذا توفي الحسن (ع)، وهو ما يطرح شرعية أخرى للثورة لعدم التزام الأمويين بشروط هذه المعاهدة.كما لا يمكن لهذا الكاتب أن يعترف بأن العدل ورفض الظلم هو أصل من أصول الدين الإسلامي، كما أنها أمر قرآني: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ﴾ [سورة هود، الآية 113]. بينما هو يقول بنفس كتابه في تحليله لأسباب ظلم الحكام: “إن الحكام المسلمين الذين نعدهم في عداد الظالمين والمستبدين إنما صاروا كذلك حين تحدى الناس سلطتهم وسيطرتهم”، فظلم الحاكم، حسب رأي وحيد الدين خان، هو رد فعل على ثورة الناس، وليست الثورة هي رد فعل على الظلم. وبمثل هذا التبرير الذي يعتمد على منطق وضع العربة أمام الثور، يسعى معظم السلفيين لتبرير رفضهم للحزن على الإمام الحسين وتمسكهم بالترضي على يزيد.
لقد وجهت اتهامات كثيرة للسلفيين بأنهم يعبرون عن سطوة السلطة، لكن الواقع أنهم يعبرون عن سطوة الطبقة الإقطاعية الأموية التي سيطرت على الواقع والتي قامت بجهد كبير لتحريف النصوص الدينية من أجل خدمة مصالحها واستقرارها السلطوي، ومع كون السلفيين هم المنحدرين من تيار الحشوية الذي نما في رعاية الأمويين، وتولى مهمة إنجاز هذا التحريف، فهم يعبرون عن هذه المصالح الطبقية حتى الآن مع بعض التطور الظاهري والسطحي في الاستدلال، وربما كان الدليل على هذا الاستنتاج أن الانتقادات التي يوجهونها للإمام الحسين (ع) لقيامه بالثورة ضد الأمويين لم يتم توجيهها لعبد الله بن الزبير الذي خرج في السنة التالية، ثم استولى على السلطة لخمس عشرة سنة سيطر فيها على كل أقاليم الدولة إلا الشام، ولم توجه لعبد الملك بن مروان الذي خاض حربًا ضد عبد الله بن الزبير حتى هزمه وقام الحجاج بن يوسف بسلخه وصلبه قرب الكعبة، فكلا الحزبين الزبيريين والأمويين كانا معبّرين عن مصالح طبقية متشابهة، بينما كان الحسين (ع) معبّرًا في ثورته على مصالح الكادحين الطامحين للعدل كما لمسوه في خلافة علي (ع).
هل الشعائر الحسينية بدعة شيعية؟
يعتقد بعض الشيعة أن أهل السنة، وبدرجة أخص السلفيين منهم، يوجهون نقدهم لبعض الممارسات التي تمارس في عاشوراء مثل التطبير، والواقع أن الانتقاد يشمل فكرة الحزن على الحسين بشكل عام سواء من ناحية البكاء أو اللطم والتي يرى بعض السنة أنها بدعة شيعية، بحسب بيان وزارة الأوقاف المصرية مؤخرًا.
لقد اعتاد أهل البيت (ع) الحزن على الحسين (ع) كل عام في هذه الذكرى، كما اعتاد الشيعة بمختلف الطوائف القيام بمواكب اللطم والبكاء خاصة في العهد العباسي، وتحول لاحتفال رسمي خلال سيطرة البويهيين على الدولة العباسية، والسيطرة الفاطمية على شمال أفريقيا والشام، كون الدولتين كانتا تدينان بالتشيع؛ لكن مراسم عاشوراء بمظهرها الحالي والتي تشمل الاحتفال الضخم والمراثي الشعرية ثم أداء مشهد تمثيلي للواقعة، وإنشاد اللطميات لم تبدأ على يد الشيعة كما يعتقد هؤلاء، وإنما بدأها أهل السنة (المالكية) في الأندلس وخاصة في شرق الأندلس بمدينة مرسية (ينسب إليها أبو العباس المرسي)، يقول الدكتور صلاح فضل في مقدمته على كتاب المغازي الموريسكية: “وكانت هذه القصائد تلقى في محفل رهيب يقام بمرسية وشرق الأندلس بمناسبة ذكرى مقتل الحسين ليلة عاشوراء من كل سنة، ومن مراسيم هذه الذكرى مشهد جنائزي يشخص المأساة بطريقة تمثيلية، كما تشعل الأضواء ويوقد البخور ويحضر القراء المحسنون والمنشدون البارعون، وتقدم الموائد والأطعمة، وترتفع الأصوات منشدة المراثي الحسينية. وقد ظلت هذه العادات الإنشادية الجماعية إلى عهد ابن الخطيب في أواخر الدولة الأندلسية”.
وبالتالي يجب أن يتمهل من يتهمون الشيعة بالابتداع في تعبيرهم عن حبهم للإمام الحسين (ع) وأهل البيت والحزن عليهم، فالأمر، بحسب التاريخ، لم يقتصر على الشيعة وحدهم بكل حال، وإنما كان لأهل السنة إبداعهم الخاص في التعبير عن هذه العاطفة الإنسانية العامة، التي لا يمكن أن يعرفها السلفيون، اتجاه مظلومية أهل البيت.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.