﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَ بِالْحَقِّ﴾[1].

غلبة الحق وبقاؤه وصموده من السنن الإلهية.

أدرك الإمام الخميني (قده) ببصيرته العرفانية الاجتماعية فلسفة كربلاء، فهو بحثها في سياق التحول في المسار الاجتماعي الذي يضبط هذا المسار باتجاه الحق، وفي حديث صحفي نشره محمد حسنين هيكل حول مقابلة مع الإمام بعد الثورة الإسلامية على غرار مقابلاته مع الزعماء الكبار أمثال عبد الناصر وغيرهم من الساسة، وعن سؤاله: “هل تعتقد أن الأبطال هم من يغيّرون مجرى التاريخ؟ تمهيدًا للتأكيد، بأن الأبطال الكبار هم الذين يغيرون حركة التاريخ، وهو يقصد بأن الإمام هو من هؤلاء الأبطال الذين غيّروا مجرى التاريخ، إلّا أن الإمام الخميني لم يوافقه الرأي وأجابه إجابة عميقة: “بل الشهداء هم من يصححون حركة التاريخ.[2] نستشف من هذه الإجابة دلالات عدة: فالإمام لم ينفِ دور الأبطال، لكنه أراد أن يبيّن أن الشهادة ليست حدثًا عابرًا، بل هي فعلٌ تصحيحي لحركة التاريخ عندما تنحرف عن قيم العدالة والحق، كما في فلسفة الإمام، الشهيد ليس ضحية، بل قائد لمسار تاريخي، يروي بدمه الطريق ويمنح للناس البوصلة.

فلسفة عاشوراء في فكر القائد.

بتحليل السيد القائد لثورة الإمام الحسين(ع)، يرى بأن قضية فلسفة ومبررات استشهاد الإمام (ع) لا تعود كما يظن البعض لإقامة الحكومة، وحين لم يتمكن الإمام (ع) من ذلك أراد الرجوع، ولا كما يتصور البعض الآخر بأنه جاء (ع) من أجل الشهادة فقط، بل يرى بأنه نهض لإقامة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، “ألا ترون بأن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه”[3]. وتصور شيعته الذين عاصروه بأن الإمام الحسين(ع) يعمل على توفير مناخ إسلامي لإقامة الحق[4]. ويربط السيد القائد استراتيجية صناعة الخواص التي كانت من مهام الإمام الحسن (ع) بعد معاهدة الصلح، حيث اقتدت ظروف المرحلة بإعدادهم في تنظيم سرّي، فالإمام الحسن (ع) غيّر ساحة الكفاح بين الحق والباطل من العلن إلى السر لصالح تحقيق أهداف الثورة بإعداد تنظيم سرّي، وهذا التنظيم السرّي “هو عبارة عن قائد مشخص هو الإمام المعصوم وعدد من الخواص يفهمون كلامه، وكتلٌ من الشيعة تسمعه وتنجز ما يقوله”[5]، وبين واقعة كربلاء التي لا تمثل مفصلًا تحوليًّا في استراتيجيات أو سياسة الأئمة (ع) الارتكازية لكل المراحل اللاحقة فحسب، بفعل الشهادة نفسها، فقد استشهد الأمير المعصوم (ع) في محرابه مدرّج بدمه، بل هي أنهت مرحلة صناعة الاستشهاديين بتقديم شخص المعصوم (ع) فداءًا للإصلاح في الدين ليبقى دين محمدي أصيل، ولا يتحول إلى سلطات دنيوية بلبوس الدين، وفي هذا السياق يرى الشيخ آل ياسين، والسيد عبد الحسين شرف الدين بأن الإمام المجتبى (ع) هو بطل كربلاء الأول، والإمام الحسين(ع) هو بطلها الثاني، فالحسن (ع) هو من صنع ساحة كربلاء.

وفي مقاربة للبيئة الاجتماعية السياسية لواقعة كربلاء نتوقف عند أبرز النواتج المجتمعية التي أفضت إلى لزوم تقديم المعصوم (ع) وأسرته وعشيرته وكل مقدراته وإمكاناته للاستشهاد في نصرة الحق، لفهم فلسفة هذه الأبعاد المجتمعية، ودوره في تصحيح حركة التاريخ واستشراف المستقبل.

مقاربة البيئة المجتمعية الكربلائية.

 وصلت الأمة قبيل معركة كربلاء، إلى بروز نواتج مجتمعية،كان لمرتكزين مجتمعيين، منها تهديد مباشر لبقاء الدين المحمدي الأصيل:

المرتكز الأول: هو تجاهر “يزيد” بالفسق والفجور، حيث إن السلطات التي تعاقبت في مرحلة الخلفاء الراشدين، مع وجود الأمير(ع) في جهاده بالصبر التوثيبي، كما يصفه السيد القائد (ع)، بأن يتصدى لحماية مرتكزات الحكم السياسي في الإسلام التي تقوم على القرآن والسنة، حتى عملت مرحلة الحكم الأموي لإسقاط هذه المرتكزات والعودة إلى الملك العضوض التي تمظهرت ليس بترك هذه المرتكزات فحسب، بل بالتجاهر بالفسق والفجور، ما يُجرّئ بغاة القوم على أن يتحول الفساد والظلم والجور إلى مزاج مجتمعي عام، قد لا يصلحه بعثات عدد كبير من الأنبياء(ع)، من هنا نفهم البعد المجتمعي لحديث الرسول (ص) “حسين مني وأنا من حسين”. فبيئة المجتمع الإسلامي في المدينة، وفي الكوفة وغيرها من الأمصار، ورسائل النصرة من أهل الكوفة التي أوّجت خروج الإمام لنصرتهم، يدلّل على أنهم كانوا يعرفون الحق وأهله لم يكونوا يمكرون له، هم يريدون وصول أهل البيت (ع) للحكم بعد تفشي الظلم والفساد والباطل من السلطات القائمة، فلم تكن الإشكالية معرفة الحق وأهله، ومهام المعصوم (ع) تنحصر في التبيين لتختار الأمة، بل الإشكالية تكمن في تحول المجتمع الإسلامي بتعويم ثقافة الاستسلام لحفظ النفس، إلى مزاج مجتمعي عام غير حاضر على تقديم نفسه في سبيل الدين، وبوصفه (ع) في آخر رسالته لأخيه “محمد بن الحنفية” ولأهل المدينة “الناس عبيد الدنيا”، فضلًا عن المعنى العام، نجد فيها إشارة خصوصية إلى صفة مجتمعية اتسم بها مجتمع تلك المرحلة وهو الاستسلام للذلة، وذلك لحفظ النفس.

المرتكز الثاني: هو انهزام الأمة واستسلامها أمام الطغاة لأجل المحافظة على النفس والمقدرات المادية، ففي مقاربة رسائل الإمام الحسين (ع) للخواص قبل العوام، نجد شبه إجماع عند الخواص بدعوته للرجوع عن الذهاب إلى الكوفة، بقراءتهم للمعطيات، وعمى بصيرتهم عن رؤية تداعي ركائز الحكم الإسلامي باستمرار حكم يزيد، أفضى إلى تقديرهم بأن نجاتهم بالبقاء على قيد الحياة ونجاة شخص الإمام (ع) وعشيرته هو الضمانة لبقاء الدين. هنا نلحظ في دعوات الإمام (ع) لمجموعة خاصة من الخواص، ومن لا يقدم نفسه، يقول له (ع) لا حاجة لنا بفرسك وسيفك، ما يدلّل بأن المرحلة وصلت إلى حد الخيار بين السلة والذلة، “فإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام”[6]. فعند هذا الخيار تسقط كل الحسابات (مقومات القوة والضعف)، والمعطيات التي ترتكز عليها الخسارة والربح الميدانية، فالموقف يحتاج إلى الاستشهاد بالأنفس والأبناء والرضع والبنات والتشرد، والسبي والجوع، والتعب، وكل معاناة قد تقع عليه الإنسانية في سابقة مجتمعية لتكون مدرسة تؤسس للعزة والكرامة الإنسانية، والسيادة المجتمعية في مواجهة الظلم والاسكتبار الذي تنتصر به “بالدم على السيف”، بإرادة الفرد والمجتمع، صبره الأسطوري، شجاعته على تحدي أكبر أسطول استكباري متفوق عسكريًّا وتقنيًّا. هذا الناتج المجتمعي أسس عليه الإمام الخميني في فلسفة عاشوراء، حيث يقول: “كل ما لدينا هو من عاشوراء”، أي من تلك الشهادة التي لم تُغيّر مجرى المعركة فقط، بل صحّحت انحراف الأمة بأكملها.

من هنا، إن فهم استراتيجية صناعة الخواص تساعدنا في فهم فلسفة عاشوراء، حين نشخص الحق وندركه، وتشخيص الحق لا يدركه إلا المعصوم (ع) وأهله من الخواص، هؤلاء الخواص لم يتمكنوا من صناعة حشود موثوقة متحمسة للإمام الحسن(ع)، أمثال حجر بن عدي الذي عرف الحق واستشهد في مواجهته لمعاوية، وهو لم ينهض لوحده، بل نهض معه عدد من الرجال كرشيد الهجري، وعمر الخزاعي، وزوجته وغيرهم، تصرف الإمام الحسن (ع) باستدعاء هؤلاء واحدًا واحدًا، وهو ينيط بكل واحد منهم مسؤولية بلغة الصمت، ولغة القرآن، ولغة التاريخ، حتى أخيرًا أشار إلى الإمام الحسين(ع) بقوله: “لا يوم كيومك يا أبا عبد الله”[7]، فيوم الإمام الحسين(ع) هو مفصلي ومحدد يؤسس لكل مرحلة وزمن يفرض فيه الطاغية الاستسلام أو المواجهة، وهو يوم الحق المبين لوضوح الحق فيه مقابل وضوح الباطل، وبدماء المعصومَين(ع) أصبحت كربلاء مشعلًا لكل مرحلة تاريخية نستمد منها وضوح الحق ونُشخِّصَه.

إذًا، أتت كربلاء الثورة التغيّرية المنسجمة مع الفطرة الإنسانية بكل ما نملك بعد فلسفة الصمت التي كانت استراتيجية عمل بها الأئمة (ع) للإعداد والتجهز للمواجهة، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[8]، يقول فيه الإمام علي (ع): “الصمت روضة الفكر”[9]، فالصمت المدروس يؤدي إلى بصيرة أعمق، وهنا كان الصمت قرارًا استراتيجيًّا مدروسًا، كما فعل أمير المؤمنين(ع)، عندما قال: “كن صموتًا من غير عي، فإن الصمت زينة العالم وستر الجاهل”[10]؛ ما يعني بأنه اختيار مقصود بناءً على المعرفة والفهم العميق للموقف. وهذا البعد الفلسفي الاجتماعي السياسي هو الذي يساهم في فهمنا للصبر الاستراتيجي التي عملت فيه الجمهورية الإسلامية لمدة قاربت 45 سنة، وخرجت عنه اليوم للمواجهة المباشرة بعد أن وضعها الاستكبار العالمي أمام خيار واحد وهو الاستسلام باتفاق مذل، فهذا الاستسلام يمثل انكسار الحق كله أمام وحشية الاستكبار كله، فإيران تواجه بمفردها عن كل الدول، فارتدادات النصر أو الهزيمة لا تقتصر على إيران كدولة، بل على كل دولة تطالب بحقها في العيش والتقدم السلمي خارج الهيمنة الأمريكية المستكبرة. بالتالي الصبر الاستراتيجي للإمام الحسن (ع) خرج عنه بالمواجهة مع الإمام الحسين(ع) ليهيئ للأمة مناخًا إسلاميًّا يخولها خوض المواجهة.

فلسفة الحزن والعزاء المجتمعية.

في لغة القرآن نحتاج لأطروحات لفهم كنه الحزن، يكفينا في هذا المضمار دعوة الأمير(ع): “ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه، إن فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة، وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلمتكم”[11]، وفي لغة التاريخ نستخلص سننه التاريخية بعبرها ودروسها، لفهم كيفية تأثيرها في ضبط مسار البشرية باتجاه الحق. من هذا المنطلق، نخوض في فلسفة عاشوراء، ببحث ركيزة الحزن والعزاء، التي ارتكزت عليها مهام الأئمة (ع) مرحلة ما بعد كربلاء من خلال إعداد الشعائر الحسينية التي تختزن الكثير من المشاعر والعواطف، وجاءت بشكل مباشر ضمن مهام الولي الإمام زين العابدين(ع) ومسؤولياته في تهيئة البيئة المناسبة لإقامة العزاء. ففي المدينة، طلب الإمام زين العابدين(ع) من “بِشر” بنعي الإمام الحسين(ع) لأهل المدينة المنورة بأبيات من الشعر، ولعل أولى المهام الملقاة على العقيلة (ع)، والرديفة لمسؤوليتها الإعلامية في جهاد التبيين، كانت إقامة العزاء، التي تعتبر من الخطوات التمهيدية في تنميط المجتمع باتجاه المجتمع العاشورائي الكربلائي.. حيث يعد الحزن جوهر إدامة الذكر الحسيني عبر الأجيال. وبربط الحزن على الإمام الحسين (ع) بالقيم النبيلة التي أمر بها الله تعالى، فواقعة كربلاء وحدها تختزن أرقى وأرفع القيم الاجتماعية تتخطى الزمان والمكان، لا يسعنا التوسع بها، والحزن على الإمام الحسين (ع) الذي يطهر القلب من شوائب حب الدنيا، بحسب بعض الروايات، يجعل الإنسان أقرب إلى القيم الكربلائية، وتدفعه باتجاه تنميط المجتمع بهذه القيم.

وخلال بحثنا في سيرة النبي (ص) نجد أنه كان يبدأ بتحريك العواطف والأحاسيس الصادقة والسليمة لأنها تحمل المنطق والاستدلال في ذاتها. فلكل من العاطفة والاستدلال دوره ومكانته، ولا يلغي طرف دور الطرف الآخر، إلّا أن العاطفة الصادقة تمهد لاستبصار العقل. واستنادًا إلى لغة القرآن الاجتماعية، يؤكد القرآن في قصة يعقوب (ع) الذي بكى على فراق يوسف (ع) حتى ابيضت عيناه. على أن الحزن العميق والتعبير عنه هو جزء من الفطرة والغريزة الإنسانية. وورد عن الإمام علي بن الحسين (ع): “إن الله يحب كل قلب حزين”[12]. وهذا يدل على المكانة الروحية للحزن في سبيل الله. وقد أمر الله تعالى النبي محمدًا (ص) بقصّ قصة ابني آدم (قابيل وهابيل) على الناس، رغم أن هذه الفاجعة حدثت قبل آلاف السنين. هذا الأمر الإلهي بتلاوة وتذكر الأحداث المأساوية القديمة يؤكد أن تفعيل الاستعدادات النفسية مع سماع الحوادث المأساوية يخلدها بمرور الزمن، كما أن إشارة القرآن إلى “ذبح عظيم” الذي تم تأجيله لجيل لاحق، فُسّر على أنه تضحية الإمام الحسين (ع) وأهل بيته في كربلاء، ما يمكننا ربط تضحية الإمام الحسين (ع) بالوعد الإلهي بتخليد ذكر الإمام الحسين(ع)، وفهم سر الحديث الشريف “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبدًا”[13].   

 هذه الحرارة المتوهجة بالحزن، التي يتم استحضارها كل عام، كما يُروى بأن الإمام السجاد(ع) كان يستأجر الناس للبكاء في المآتم، حتى تحول البكاء على كل مصيبة هو بكاء على الإمام الحسين(ع) الذي هو أولى بالبكاء والعزاء.

فمراسم العزاء جعلت الذكر الحسيني حركة حية وديناميكية تتجاوز الحادثة التاريخية، إلى مدخلٍ لفهم رسالة الإمام الحسين (ع) الأساسية، وهي محاربة الظلم والطغيان. وبتجدد الحزن والتذكير، تتجدد هذه الرسالة وتنتقل من جيل إلى جيل، ليُبقي اسم الإمام الحسين (ع) الثورة المتجددة في كل المجالات، تتصدر بنقائها وإنسانيتها كمدرسة في الاحتجاج العالمي للمضطهدين ضد الظلم.

التبيين العاشورائي.

إن تثبيت الرواية الصادقة للسيدة زينب(ع) حول ملاحم كربلاء، قد عُدّت من مهام إقامة مآتم العزاء، ويدخل في إطار جهاد التبيين، الذي تحتاجه المجتمعات في كل زمان لتصحيح المسار وتحديد الموقف، فاستحضار ما جرى من ظلم واضطهاد، والتفاعل معها بالعواطف الصادقة حول فاجعة جاءت نتيجة لثورة إنسان عظيم ومعصوم، إنسان لا يمكن التشكيك بمقدار ذرة في شخصيته المتسامية، ويقر جميع المنصفين في العالم بتعالي هدفه وهو “إنقاذ المجتمع من براثن الظلم والاستعباد”. ثورة لا مثيل لها وسابقة في التاريخ، تنطوي في طبيعتها وذاتها على بحر زاخر من العواطف الصادقة، لاستمرار البيان وحفظه من التحريف ليؤدي وظيفة بيانية لمئات الأجيال، دعا الإمام السجاد إلى النعي بالشعر الذي يروي حقائق ما جرى، لأن الشعر سهل الحفظ والنقل والانتشار، ويُحفظ في الذاكرة الجمعية للمجتمعات، ويُستحضر عند الحاجة.

إضافة إلى بعد نفسي مشهدي ينطوي عليه الشعر في قدرته على تبيين صورة مشهدية ترتسم في العقل فتؤدي وظيفة استحضار المصيبة بمشهدية خيالية، وبنمط إقامة مجالس العزاء الحسينية، واستحضار مصيبة أهل البيت(ع) عند صاحب الفقد والمصيبة، يستصغر ما هو فيه أمام فاجعة كربلاء، فتهون في نظره مصيبته، ويستحضر الإرادة والصلابة، التي أبدتها العقيلة (ع) ليتجاوز فيها المصائب والتحديات.

تنميط المجتمع العاشورائي.

في إقامة العزاء وإحياء المراسم العاشورائية التي تتوسع وتتمايز مع كل جيل، لا يحكم عليها التقليد فيدفنها في الذاكرة الوجدانية للمجتمعات كذكرى مأساوية، بل تتنمط هذه القيم العاشورائية بقيم المجتمع فتدفع به إلى الإيثار في الإطعام على حب الحسين(ع) والضيافة، والخدمة في مختلف المجالات، وقيل في ثواب إطعام الطعام في محبة الحسين (ع): “ما من عبد أنفق من ماله في محبة ابن بنت نبيه طعامًا وغير ذلك درهمًا إلا وباركت له في دار الدنيا الدرهم بسبعين درهمًا”[14]، ومن حديث مناجاة نبي الله موسى مع الله …قال موسى: “يا رب وما العاشوراء؟ قال البكاء والتباكي على سبط محمد صلى الله عليه وآله والمرثية والعزاء على مصيبة ولد المصطفى، يا موسى ما من عبد من عبيدي في ذلك الزمان بكى أو تباكى وتعزى على ولد المصطفى صلى الله عليه وآله إلا وكانت له الجنة ثابتًا فيها، وما من عبد أنفق من ماله في محبة ابن بنت نبيه طعامًا وغير ذلك درهمًا إلا وباركت له في دار الدنيا الدرهم بسبعين درهمًا وكان معافًا في الجنة وغفرت له ذنوبه، وعزتي وجلالي ما من رجل أو امرأة سال دمع عينيه في يوم عاشوراء وغيره قطرة واحدة إلا وكتب له أجر مائة شهيد”[15]. فهذا البكاء والتباكي وسيلة لتنميط المجتمعات على محبة أهل البيت (ع) لترسيخ الحق وأهله.

وقد تميز التنميط السياسي لعاشوراء مع الإمام الخميني الذي حول عاشوراء إلى نبض الأمة المتجدد نحو الإصلاح ورفض الظلم في كل المجالات.

فتحولت مراسم العزاء مع شعائرها التي حاكت متطلبات كل زمن وتطورت معه إلى نمط مجتمعي يتم استحضاره في كل عام، ليقوم بدور وظيفي في المجتمع بتوليد المشاعر الصادقة اتجاه قضية لا تقبل النقاش والجدل حول أحقيتها. وقد أعلن الإمام الحسين(ع) عن هذا الهدف بوضوح عندما قال: “أيها الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطانًا جائرًا مستحلًّا لحرم الله ناكثًا لعهد الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ولم يغيّر عليه بقول ولا بفعل كان حقًّا على الله أن يُدخله مَدخله”[16].

فقد يتم سلب قوة الإرادة والشجاعة في مواجهة الظلم، إلّا أنه يصعب على الظلمة محو العاطفة والمحبة لأهل البيت(ع) من الوجدان المجتمعي للشيعة بعد تحويله إلى نمط مجتمعي يتم استحضاره مع كل مصيبة خاصة أو عامة، فبالبكاء والعاطفة تثبت حضور هذه الواقعة في الوجدان الجمعي الشيعي التي تحاكي الفطرة الإنسانية السليمة لتوجه أنظار الإنسان إلى ما يعيشه المجتمع من ظلم واضطهاد وتمايز طبقي، وما يمارسه أنداد الله من البشر “شياطين الأنس” من ضغط وإرهاب ضد أبناء ذلك المجتمع. فما يعيشه المجتمع مع الحق الكربلائي يحول قوة العاطفة السليمة والصادقة إلى إرادة وعزيمة تحضر مع كل تحدٍّ يتواجه فيها الحق والباطل.

يبقى ثمة تمايز ما بين تفسير الزهد اليوم، والزهد الذي عمل على تثبيته الإمام السجاد (ع)  كقيمة مجتمعية، التي كانت من مهامه (ع) بعد واقعة كربلاء في تربية وتثقيف المجتمع على الزهد الذي يعبّر عن ثقافة كربلاء، أشار إليه السيد القائد في كتابه “الحسين مسيرة متواصلة” طارحًا سؤالًا: لماذا ركّز الإمام السجاد (ع) على النمط الكربلائي في الزهد دون غيره؟

ينبّه الإمام السجاد الناس إلى الزهد: “أَوَلا حرّ يدع هذه اللماظة لأهلها”؟ فليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها بغيرها، فإنه من رضي من الله بالدنيا فقد رضي بالخسيس”[17]. كان الإمام يقف أمام الناس ويقول: ألا يوجد رجل حر يرمي هذا الماء العفن من فم الكلب أمام أهله؟ يقصد هنا الإمام أنني لا أريد هذه الدنيا المرفهة على حساب الهدف الإلهي الذي هو الحق، ﴿إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[18]. فالزهد الكربلائي الذي أراده الإمام زين العابدين(ع) هو الزهد بالنفس الذي هو الفيصل الذي يحدّد قيمة الإنسان. “وما لأنفسكم سوى ثمن وقيمة وسعر واحد فقط، فاحذروا أن تعطوا أرواحكم وأعماركم بأقل منها الذي هم الجنة”[19].

فكربلاء حية في ضمير أبناء الأمة بإقامة المراسم العاشورائية والشعائر الحسينية ومجالس العزاء التي تُذكر فيها المصائب التي جرت على أبي عبد الله (ع) وأهل بيته الأطهار، بتدفق نبع من المعنوية والمعارف الإسلامية في أذهان وقلوب محبي أهل البيت (ع)، وما زال ذلك النبع متدفقًا إلى اليوم، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله. والمنشأ لكل هذا الخير والبركة هو التذكير المتواصل بيوم عاشوراء لكي تبقى ذكرى عاشوراء ليست مجرد ذكر لبعض الخواطر والذكريات والأحداث فقط، وإنما هي تبيان لحادثة في غاية الأهمية، تختزن عددًا غير محدود من الأبعاد والجوانب التي تركت أعمق الآثار في حياة الأمة الإسلامية على مر التاريخ، وتحتاج إلى المزيد من البحث للصبر وتبيان أغوارها.

[1]  سورة الدخان، الآية 39.

[2] موقع al-imam-khomeini.ir الرسمي، يقدّم نصًّا من مقابلة أجراها محمد حسنين هيكل مع الإمام الخميني، ويتضمن جزءًا من الحوار الذي تشير إليه، حيث عرض هيكل على الإمام فكرة أن “البطولة تغيّر مجرى التاريخ”، فأجاب الإمام بأن “الشهداء يصحّحون حركة التاريخ”.

[3]  محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء 4، الصفحة 3590.

[4]  السيد علي خامنئي، الحسين مسيرة متواصلة، طهران، مؤسسة الثورة الإسلامية للثقافة والأبحاث، 2023، الصفحة 191.

[5]  المصدر نفسه، الصفحة 134.

[6]  الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين (ع)، الجزء 1، الصفحة 114.

[7] الحسين مسيرة متواصلة، مصدر سابق، الصفحة 136.

[8]  سورة الأنفال، الآية 60.

[9] ميزان الحكمة، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 1667.

[10] محمد الريشهري، العلم والحكمة في الكتاب والسنة، الصفحة 382.

[11]  الشيخ الكليني، الكافي، الجزء1، الصفحة 61.

[12]  ميزان الحكمة، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 505. 

[13]  الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، الجزء 10، الصفحة 318.

[14]  الشيخ علي النمازي الشاهرودي، مستدرك سفينة البحار، الجزء7، الصفحة 236.

[15]  مستدرك سفينة البحار، مصدر سابق، الجزء7، الصفحة 236.

[16] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 44، الصفحة 382.

[17] ابن شعبة الحراني، تحف العقول، الصفحة 391.

[18]  سورة التوبة، الآية 111.

[19] الحسين مسيرة متواصلة، مصدر سابق، الصفحة 160.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Leave A Comment

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.