الصَّومُ: تَربِيَةٌ وجِهَادٌ وَعِصمَةٌ

مُقدمةٌ
لم يُشرّع الله للإنسان أمرًا أو أمره بعبادةٍ أو نهاه عن شيءٍ إلَّا وكان الغرض منه الخير للإنسان والإنسانيَّة جمعاء. ومن هذه التَّشريعات والأوامر “الصَّوم” الذي جعله الله من أركان الإسلام، خاصةً صوم شهر رمضان، الذي خصَّه الله بكرامة نزول القرآن في أيامه المباركة فقال: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ …﴾ [سورة البقرة، الآية 185].
حُبُّ الله للإنسان، وإرادته في أن يكون الإنسان متكاملًا أو ساعيًا للكمال، جعله يضع التَّشريعات التي تُسهل عليه سلوك الطريق الأمثل للوصول إلى الكمال الذي يبتغيه الإنسان بفطرته، ويريده الله للإنسان بمحبته.
وجاء هذا المقال لتبيين كيف أوضح الله في كتابه الكريم السبيل للوُصول إلى تلك الكمالات، وكيف تمثَّلت هذه الكمالات في أقوال وأفعال آل البيت المعصومين (ع).
الصَّومُ تَربيةٌ: نعلم أنَّ الله تعالى قد غرس القوى الشهويَّة والغضبيَّة في الإنسان كي يحافظ على بقائه ويستطيع الدفاع من خلالها عن نفسه ضد المخاطر التي قد تواجهه، لكنَّ الإنسانَ في كثير من الأحيان يستخدم هذه القُوى في غير المراد منها، فإذا سيطرت عليه القوى الشهويَّة فهو يطلق نظره إلى المحرَّمات ويستخدم حواسه فيما حرَّمه الله تعالى، وكذلك في حال سيطرة القوى الغضبيَّة عليه فهو يظلم الضَّعيفَ ويستقوي على الصَّغير ويبطش بطشة الظالم، ولولا وجود القوى العقليَّة لتوجيه هذه القُوى إلى الاستخدام الصَّحيح المطلوب منها، لأصبحت الأرض غابةً ومجالًا لإطلاق الشهوات كافةً ولَحادَ الإنسانُ عن السَّبيل والهدف الذي خلقه الله من أجله، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً …﴾ [سورة البقرة، الآية 30]، ولصدَق الملائكة في رأيهم عن هذا المخلوق الجديد ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ …﴾ [سورة البقرة، الآية 30].
لذلك شرَّع الله الصوم لهذا الإنسان المُكرَّم المُنصَّب خليفة على هذه الأرض، كي يساعد القوى العقليَّة في موازنة القُوى الأخرى وسِياقتها نحو المطلوب الحقيقي منها. وهذا ما أكد عليه الرسول الأعظم (ص) في مجال تربية النَّفس وتهذيبها حين قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباه فليتزوج ومن لم يقدر فعليه بالصوم فإنه له وجاء”[1].
وفي فقه الرضا (ع): “… وقد جعل الله على كل جارحة حقًّا للصيام، فمن أدَّى حقها كان صائمًا، ومن ترك شيئًا منها نقص من فضل صيامه بحسب ما ترك منها”[2]. ويستمر أهل البيت المعصومون في الحثّ على الصيام الحقيقي المُعتبر من أجل تربية وتهذيب النفس، فتقول السيدة الزهراء (ع): “ما يصنع الصائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه”[3]. وبذلك تتضح لنا أهميَّة الصَّوم في تهذيب النَّفس، وضرورته التي أوضحها القرآن الكريم وكلمات المعصومين (ع) في ترقي هذا الإنسان وتكامله.
الصَّومُ جِهادٌ: عن أبي عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) أنَّ النَّبيَّ (ص) بعث سريَّةً، فلمَّا رجعوا قال: “مرحبًا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النَّفس”[4]. هكذا اعتبر الرسول الأكرم (ص) جهادَ النَّفس هو الجهاد الأكبر، الذي يعاني فيه الإنسان ويكابد فيه أكثر من الجهاد ضد الأعداء، فالجهاد ضدَّ عدو ظاهرٍ نهايته معروفة، فإمَّا نصرٌ وإمَّا شهادة وهذا الجهاد مكافأته حاليَّة وفوريَّة، أمَّا جهاد النَّفس، فهو جهاد ضدَّ حبيب وليس عدو، ولهذا تخفى عليك عيوبه ربَّما بالكِبر أو الغرور أو الرياء، أو غيرها من العيوب الخفيَّة، لذلك كانت مُجاهدة النَّفس أكبر وأشد صعوبة من جهاد الأعداء. ولكنَّ الله كما كان يبعث ملائكته لمساندة المؤمنين في القتال، كذلك أرسل لنا بتشريعاته كي يساندنا في جهادنا الأكبر ضد النَّفس الأمَّارة بالسُّوء. ومن جنده الذين يساندونا في جهادنا هذا الصَّوم.
فالصَّوم جهاد فيما أحلَّه الله، فالإنسان يجاهد عطشه وجوعه سواء في الحر أو في البرد تنفيذًا لأوامر الله وإبراءً للذمة، وتقرُّبًا ومحبَّة لله تعالى، وفي هذا الجهاد يقول الإمام الصادق (ع): “أفضل الجهاد الصَّوم في الحرّ”. ويستمر الإنسانُ في جهاده الأكبر: يجاهد كِبره وغروره، ويجاهد شهواته ويجاهد غضبَه وظُلمَه وبطشَه، ويجاهد كذبه وغيبته لإخوانه. وكل هذه المجاهدات يكون للصَّوم الدَّور الأكبر فيها، حيثُ يساهم الصَّومُ في كبح جماح كل هذه الذنوب والعيوب والموبقات، ويكون جنديًّا في مُقدمة الصفوف التي تجاهد كل تلك الشهوات. وكما يقول أمير المؤمنين (ع): “صوم النَّفس إمساك الحواس الخمس عن سائر المآثم، وخلو القلب عن جميع أسباب الشَّر”[5].
وكما أنَّ للصَّوم دورًا كبيرًا في الجهاد الأكبر، فكذلك كان له نفس الدور في الجهاد الأصغر، فنرى في غزوة بدرٍ الكبرى، إقدام النبي وأصحابه وثباتهم في مواجهة عدو حاقد يفوقهم عددًا وعُدة، رغم أنَّ هذا القتال كان في أيام شهر رمضان وكانت بداية تشريع صوم الشهر الكريم، ورغم صوم المسلمين وعطشهم في أجواء الجزيرة الحارة المحرقة، إلَّا أنَّ قبول المسلمين لهذا التشريع وتصميمهم على الالتزام به كان سببًا في صمودهم وثباتهم أمام جبروت وظلم أهل قريش.
وفي زمننا المُعاصر، لا ننسى كذلك بطولة الجيش المصري في العاشر من رمضان ضدَّ العدو الصُّهيوني وثباته والتزامه بالصَّوم وبأمر الله، حتى كتب الله لهم النصرَ على العدوّ الغاشم، لكنَّ السياسة فعلت بعد ذلك ما فعلته في اتفاق كامب ديفيد المشؤوم.
وأيضًا شاهدنا جميعًا بأعيننا ومباشرة، لحظات استشهاد القائد الكبير (يحيى السنوار) زعيم حركة حماس على يد العدو الصهيوني الجبان، الذي أثبت بنفسه بعد إجراء التَّحاليل على جسد القائد الشهيد أنَّ (السنوار) لم يتناول طعامًا منذ ثلاثة أيام.
وبهذا نرى التَّأثير الكبير للصَّوم على الفرد والجماعة، وكيف أنَّ تشريعًا إلهيًّا فرضه الله علينا يعطي مثل هذا التَّأثير المادي والمعنوي، ويُضفي جمالًا وجلالًا على الإنسان، ويساهم في صبره على الجهاد الأكبر والأصغر.
الصَّومُ عِصمَةٌ: صنع الله الإنسان على عينه، وغرس في فطرته البحثَ عن الكمال، لذلك منحه حق الاختيار في أن يرقى بنفسه ويصبح إنسانًا كاملًا، أو يتسافل باتباعه طريق الشيطان وفي ذلك يقول الإمام الصادق (ع) عندما سُئل هل الملائكة أفضل أم بني آدم؟: قال أمير المؤمنين (ع): “إنَّ الله ركب في الملائكة عقلًا بلا شهوةٍ، وركَّب في البهائم شهوةً بلا عقل، وركَّب في بني آدم كلتيهما. فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته عقله فهو شرٌّ من البهائم”[6].
ومعنى هذا أنَّه كما أنَّ الأنبياء والأئمة -وهم بشر مثلنا- قد استطاعوا أن يغلبوا شهوتهم ويتحصَّلوا العصمةَ كي يكونوا قدوةً لنا ويؤدوا رسالات ربهم دون خطأ أو سهو، فيمكننا نحن أيضًا الوصول لتلك العصمة باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
ربما تمنعنا الفروق الفرديَّة بيننا وبين الأنبياء والأئمة (ع)، من الوصول إلى درجة العصمة التي بلغوها، لكننا قد نصل إلى درجة أقرب للعصمة وهي “العدالة”. وستكون هذه عصمة على قدر جهدنا وصبرنا وعلمنا الذي من خلاله نستحق اللطف الإلهي، ولا ننسى أنَّ هذه الفروق ليست فقط بيننا وبين الأنبياء والأئمة (ع)، بل هذه الفروق موجودة بين الأنبياء والأئمة بعضهم البعض، لذلك كان هناك نبيٌّ أفضل من نبيّ، وإمامٌ أفضل من إمامٍ. كما قال الله تعالى في كتابه المبين: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [سورة البقرة، الآية 253].
وعن هشام بن سالم قال: “قلت للصادق جعفر بن محمد عليه السلام الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين …”[7].
ولا شكَّ أنَّ للصيام أثرًا كبيرًا جدًّا -كما قلنا سابقًا- على سيطرة الإنسان على قُواه الشهويَّة والغضبيَّة ومساعدة القُوى العقليَّة في كبح جماح القوى الأخرى. فالإنسان الصائم مثلما يصوم عن الأكل والشرب، وجب عليه أيضًا الصيام عن كل ما يُدنّس رُوحه. فهو لا يُطلق بصره وهو صائم، ولا يكذب وهو صائم، ولا يَنِمُّ ولا يغتاب، ولا يبطش أو يظلم. ويظل الإنسان هذا حاله في صيامه حتى تصير ملكاته تتجه إلى الحُسن وليس إلى القبح. وتتملَّكه هذه الروح النُّورانيَّة التي لا تستسيغ القُبحَ وتشتاق إلى الحُسن. فيتحوَّل هذا الحال إلى ملكة لا تغادره سواء كان صائمًا أو غير صائمٍ.
كيف يكون الصَّوم الآن؟
في ظل ما تعانيه الأمَّة الإسلاميَّة في هذا الوقت من ظُلم وبطش من العدو “الإسرائيلي” والغربي، خاصةً محور المقاومة (إيران – اليمن – لبنان – فلسطين – العراق)، وجب على كل مؤمن أن يكون صيامه مختلفًا هذا العام، وربَّما الأعوام القادمة، فلا يجعل صيامه مجرد إمساك عن الطعام والشراب، لكن لا بدّ أن يكون صيامُه مقرونًا بكل ما يدعم هذه المقاومة المباركة وذلك من خلال عدة نقاط:
1- الدُّعاء في كل وقتٍ لرجال المقاومة وقادتها.
2- الاستمرار في مُقاطعة كل المنتجات الواردة من الكيان الغاصب والغرب المتوحش.
3- مقاومة النَّزعة الاستهلاكية التي يُصدّرها لنا الغرب من خلال إعلامه وأفلامه وكتبه.
4- مُواجهة كل من يسعى للتَّقليل من إنجازات المقاومة ونجاحاتها.
5- تجنُّب الانخداع بالحركات التي ترتدي ثوب الإسلام لكنها بعيدة كل البعد عنه.
وباتباع هذه النقاط وربما غيرها، يكون صوم الإنسان المؤمن أكثر تكاملًا، وسعيه إلى رضا الله أشد حرصًا.
الخاتمة
حب الله للإنسان حبٌّ مطلقٌ كجميع صفات الله المطلقة، لذلك أوضح له كل السبل، وأرسل له الرسل، وحلَّاه بالعقل وخصَّه به ليستشعر الإنسان هذا الحب ويسعى دومًا لاتباع تلك السبل للقرب من هذا المحب الأعظم. وعلَّمنا أنَّه من هذه السبل “الصوم” الذي شرعه الله لنا وفرضه علينا كي نتكامل ونحقق الفطرة التي فطرنا الله علينا. ورأينا أنَّ الصَّوم تربية للجسد والروح، وأنَّ له الأثر الكبير في الجهاد الأكبر كما أنَّ له دورًا في الجهاد الأصغر كما بينَّا، كذلك هو أحد السبل للوصول إلى درجة العدالة التي هي جزء من العصمة. ورأينا كيف أنَّ هذا العام يجب أن يكون صيامنا مختلفًا، وكيف يكون جهادًا ماديًّا ومعنويًّا للكيان الغاصب والغرب المتوحش. فنرجو الله أن يعيننا في هذه الأيَّام على الصيام كما ينبغي وكما يحب ويرضى.
[1] حسين بن علي البروجردي، جامع أحاديث الشيعة، الجزء9، الصفحة 386.
[2] حسين النوري، مستدرك الوسائل، الجزء 7، الصفحة 366.
[3] المصدر نفسه، الجزء7، الصفحة 366.
[4] روح الله الخميني، الأربعون حديثًا، تر، محمد الغروي، الصفحة 22.
[5] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء2، الصفحة 1687.
[6] بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء57، الصفحة 299.
[7] بحار الأنوار، مصدر سابق، الجزء25، الصفحة 249.
المقالات المرتبطة
مصطلحات عرفانية | الجزء 27
دائم – دائم: (من الأسماء) ديمومة سرمدية محيطة بالدهرية والزمانية (شرح الأسماء، سبزواري، الصفحة 359). دليل – (من الأسماء) يدل
تلخيص كتاب روائع المناجاة – شرح المناجاة الشعبانيّة ومناجاة المريدين
لعلّ هذا الكتاب يكون زادًا أخرويًّا ومعينًا للسالكين على درب الحبيب، ورافدًا للمؤمنين في حركتهم في قوس الصعود من عالم الناسوت إلى عالم الملكوت، يشربون من كأس محبّة الله ولطفه، يشربون ولا يتروون.
الفلسفة في العالم العربي اليوم.. بين الواقع والمرتجى
حوار مع الدكتور أحمد عبد الحليم عطية