القائمة الرئيسة

الرجاء والأمل في البعدين الفلسفي والديني

الرجاء والأمل في البعدين الفلسفي والديني

تمهيد ما بين الرجاء والأمل.

هذا مقال حول الرجاء وعلاقته بالفلسفة؛ والرجاء يكون على مستوى الفرد ومستوى الجماعة؛ وعلى مستوى الدنيا والآخرة؛ على أرض الواقع وفي خيال التمني قبل الموت.

إن الرجاء مدلول إنساني يرتبط بالأمل، والأمل كاسم يشير إلى الرغبة أو توقع نتائج جيدة؛ والأمل كفعل يعني الثقة أو الثقة في شيء أو شخص ما[1].

أما الرجاء في اللغة هو الطمع فيما يمكن حصوله، والرجاء في الاصطلاح هو تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل[2] (تعريفات الجرجاني)؛ وقيل هو توقع الخير ممن بيده الخير، وهو عند أبي حامد الغزالي أحد مقامات التصوف التي تسمّى أحوالًا[3]؛ والرجاء موجود في الضمير وفي كافة الأديان.

في كل الأحوال فإن الأديان مليئة بالحث على وجود الأمل؛ ولأن الفلسفة لها وجود عملي عند الحضارات القديمة والحديثة؛ نشرح سريعًا نظرة الفلسفة للرجاء والأمل.

مفهوم الرجاء في الفلسفة والفكر.

إن عامة الناس يخلطون بين الأمل والرجاء؛ لذا كانت العودة إلى علم اشتقاق الألفاظ الفلسفية واجبة.

ففي اللغتين اللاتينية واليونانية تشيران إلى معاني الانتظار والترقب كأنهما قفزة الإنسان إلى ما يتجاوزه، وامتداد إلى آفاقٍ لا حدّ لها[4]

أما الأمل في الفلسفة فيشتمل على الإلمام بما هو ممكن وعلى معرفة الصعوبات لتحقيق النتيجة المرجوّة.

وقد يحفّز الأمل المرء على تكريس طاقته لتحقيق ما يصبو إليه، لكنه يدرك أن نتيجة عمله غير مؤكدة. هذا يعني أن الأمل والقلق متلازمان دائمًا.

هكذا فسّر رينيه ديكارت مفهوم الأمل حين حدّده كرغبة تحكم تصرّف النفس، فتقنعها بأن ما تتمناه سيتحقق، وعلى غرار ديكارت؛ عرّف الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا الأمل كشكلٍ من أشكال المتعة، ولو لم يكن للعقل دور فيها[5]؛ وقد اختلط الأمل كما يرى سبينوزا بالحزن بسبب شك الإنسان في قدرته على تحقيق ما يأمل به؛ لذا لفت الانتباه في كتابه المسمّى “رسالة في اللاهوت والسياسة” إلى قدرة الفرد أن يقرر مصيره حتى في حالات الشك والحزن؛ حتى لو اختلط الطمع بالأمل والرجاء[6].

والفلسفة أخيرًا كما يقول الأب سليم دكّاش اليسوعيّ، إن الفلسفة منذ أفلاطون وأرسطو، مقتنعة بأنّ الرجاء فضيلة ومفهوم لن يختفيَ أبدًا؛ إذ إنّه مرتبط بمصير البشريّة؛ فكلُّ إنسان يرجو دائمًا الخروج من أزمته، وفي كلّ مرّة يكونُ الموت فيها مهدِّدًا، فيأتي الرجاء للمساعدة؛ فيثبت أنّ لا شيء انتهى، وأنّ في الإنسان نشاطًا متحرّكًا من أصلٍ إلهيّ، يحوّلُ القُبحَ إلى جمال، والطرقات المسدودة إلى آفاق منفتحة[7]

إلى جانب الفلاسفة اليونانيّين، توجد نظريّات فلاسفة كثيرون ومفكّرين في الغرب الأوروبي، مثل إيمانويل كانْط وكارل ماركس وهيجل وشوبنهاور وهيجل وغيرهم، ممَّن كانت لهم آراء في المسألة المطروحة[8]؛ حيث يرون أن الفلسفة تنظر إلى الأمل والرجاء من رغبة في نتيجة ما، أو من إيمانٍ باحتمال وقوع حدث يتمنونه، مما حصرهما في إطار الاحتمالات والمعتقدات والأمنيات؛ ودور الأمل والرجاء في ما يتعلق بالدوافع البشرية أو المعتقدات الدينية أو السياسية[9].

الأمل وَالرجاء في الإسلام.

ورد مصطلح الأمل مرتين في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى:

 ﴿ذَرْهُمْ يَاكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْاَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[10].

 ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ اَمَلًا﴾[11].

إذا تأمّلنا الآيتين نجد أن الأمل منه ما هو إيماني صادق، وهو ما كان بانتظار ما عند الله من ثواب على صالح الأعمال، ومنه ما هو كاذب، وهو الذي يلهي الإنسان عن الطاعات بسبب تتبع صاحبه للملذات في الدنيا مع نسيان الآخرة.

وهذا النوع الثاني هو المذموم، وهو الذي وردت فيه أقوال للسلف تحذر منه، كما جاء عن الإمام علي (ع) أنه قال: “أخوف ما أخاف عليكم اثنان: طول الأمل، واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق”[12]؛ فالأمل نشاط له علاقة بالسلوك السلبي أو الإيجابي؛ والرجاء الإنساني في الإسلام فيه نوع من الخوف من الله تعالى إذا لم يلتزم بالسلوك الحسن.

الرجاء السياسي/الديني عند فلاسفة المسلمين.

ورد الرجاء كما ذكرنا في القرآن في كثير من الآيات؛ منها قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ﴾[13]؛ أي: يخافه، ومنها الآية ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾[14]، وغيرها العديد من الآيات القرآنية التي تشرح معاني الرجاء، حيث يؤمن الفلاسفة المسلمون في الرجاء والأمل، بما يؤمن به أتباع أهل المذاهب الإسلامية من شيوخ وفقهاء؛ وفي المقابل يرون أن الرجاء والأمل يكونان أيضًا في تغيير السلوك الجماعي، فلا يقتصر وحده، ويذهب أغلب الفلاسفة المسلمين إلى أن الرجاء منه ما هو فردي وما هو جمعي؛ لا ينكرون معنى الرجاء والأمل عند الفرد؛ ثم يرون الرجاء في معاني جماعية؛ تقترب من المفاهيم السياسية والدينية؛ مثل تحقيق العدل ونشر المعرفة.

ولا نذهب لكل فلاسفة المسلمين؛ فقط نركّز على قيم المشتركات في رؤيتهم للرجاء والأمل ونشر المعرفة؛ حيث يتفق كل من علماء الشيعة والمعتزلة وإخوان الصفا وابن سينا والفارابي وابن رشد وابن خلدون وصولًا إلى طه حسين والجابري وفرح أنطون ومحمد أركون وحسن حنفي وغيرهم، اتفقوا على أن الرجاء فيه نفحة إيمانية، وهذه النفحة تحيي الأمل في العقل والضمير.

لم يختلف فلاسفة المسلمين عمومًا عن نطاق التنزيل، ولكنهم اختلفوا في علم التأويل؛ وكلهم ينطلقون من محاولة التوفيق بين العقل والنقل .. بين أهل الدراية وأهل الرواية، أو بين المحافظين الأحرار أو بين اليمين واليسار كما يقول حسن حنفي[15].

كلهم نظروا للرجاء من زاوية العدل وأن رجاء البشرية يكمن في البحث عن العدل؛ ويرون أن الله عندما أنزل الرُّسل بالكتب السماوية أنزل معهم الميزان، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾[16]؛ أي معهم التوحيد والعدل؛ وهو ميزان معنوي للوصول بالعدل إلى منتهاه دون تطفيف، إذ لا قيمة للحياة دون العدل، ولا قيمة للعدل دون وجود سُلطة تُقيمه بالقسطاس، وتلك السُّلطة دومًا ما تنحرف بالميزان، لذلك ظلَّ معظم فترات التاريخ البشري مائلًا، والميل دومًا لليمين كما يرى حسن حنفي في كتابه “اليمين واليسار في الفكر الديني”، فاليمين يأخذ من الدِّين ما يراه صالحًا للحكم، ففي الدِّين الصبر على الأذى والمكروه وَالرجاء والأمل فيما عند الله في الآخرة.

الرجاء يكون أيضًا من خلال المعرفة الفلسفية؛ وهو ما أكّد عليه الوليد بن رشد عندما ربط الرجاء والأمل بالمعرفة فقال: إن المعرفة الإنسانية والعلم البشري أصلهما من الواقع: لأن “العلم اليقيني هو معرفة الشّيء على ما هو عليه؛ والعلم المخلوق فينا إنما هو أبدًا شيء تابع لطبيعة الموجود”[17]. فالواقع هو مصدر المعرفة والمؤثر فيها بمتغيراته؛ كما أن الواقع نفسه يعكس التّغيرات والتّطورات التي تطرأ على العلم والمعرفة؛ فكل علم معرفة، جزئيّة كانت أو كليّة، لا يمكن إلا أن تكون مرتبطة بالواقع، ونابعة منه؛ بل حتى القضايا الكليّة المجرّدة المؤلفة – بواسطة العمليات العقلية الذهنية المعقدة – من الجزئيات، هي موجودة في الواقع قبل أن توجد في الذّهن. يتمثل وجودها الواقعي في أشكالها الأولى، وجزئياتها التفصيلية، قبل أن تتبلور في الذّهن[18]، وكله يدفع المجتمع إلى نشر الوعي، ثم يأتي الرجاء لمنع الاستبداد والأمل في نجاح الفرد ووحدة المجتمع، ويظل الرجاء قائمًا طالما يوجد الأمل.

الرجاء ابن المعرفة؛ والمعرفة تحقق الأمل على أرض الواقع قبل الموت كما يرى ابن رشد؛ وهو ما لا يختلف عليه أحد؛ مثله مثل البحث عن كيفية تحقيق العدل؛ وهو بعد التوحيد من ركائز وأسس الإسلام.

والحقيقة أنه لا يوجد خلاف بين المذاهب الإسلامية حول قيم الرجاء والأمل والخوف من الخالق؛ فالرجاء والأمل مطلوبان من البشر في الحياة قبل الموت؛ وتبقى الفلسفة قائمة تفسر وتحلّل المصطلحات؛ من منطلق ديني/سياسي قبل كل شيء.

[1]  ابن منظور، لسان العرب، نسخة من الكمبيوتر، 1/167.

[2] علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية، 1983، الجزء1، الصفحة 121.

[3]  أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987، الجزء3، الصفحة 243.

[4]   الأب سليم دكّاش اليسوعيّ، نقلًا عن موقع المشرق https://al-machriq.com/

[5] المصدر نفسه.

[6] باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة حسن حنفي، ومراجعة فؤاد زكريا، القاهرة، دار الثقافة، 2007، بتصرف من صفحات الكتاب.

[7] الأب سليم دكّاش اليسوعيّ، نقلًا عن موقع المشرق، مصدر سابق، https://al-machriq.com/

[8] باروخ سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، مصدر سابق.

[9] المصدر نفسه.

[10]سورة الحجر، الآية 3.

[11]سورة الكهف، الآية 46.

[12] ابن ميثم البحراني، شرح كلمة أمير المؤمنين (ع)، نسخة من المكتبة الشاملة، الصفحتان 168-169 الإلكترونية.

[13]سورة العنكبوت، الآية 5.

[14] سورة النساء، الآية 104، ونلاحظ هذه الآية من ضمن شعار المقاومة الإسلامية في لبنان، ورفعه السيد الشهيد حسن نصر الله.

[15] علي أبو الخير، ثورة العقيدة وفلسفة العقل … دراسة عن فكر الدكتور حسن حنفي، بيروت، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2011، بتصرف من صفحات الكتاب.

[16] سورة الحديد، الآية 25.

[17]ابن رشد، تهافت التهافت، تحقيق الدكتور عاطف العراقي، القاهرة، مكتبة الأسرة، 2000، الصفحة 29.

[18] تهافت التهافت، مصدر سابق، الصفحة 37.



المقالات المرتبطة

ظهور الحداثة بوصفها جوهرًا ناقصًا

توخى هذه المقالة بلورة مقتضيات التأسيس لمنهج معرفيّ نقدي يتاخم المبادئ المؤسِّسة للنظام الأنطولوجيّ والثقافيّ للحداثة. وانطلاقًا من هذه الغاية، تبدو المباني التي افترضناها أصولًا جوهريّة للحضارة الغربية المعاصرة

الشيطان وتكامل الإنسان (1)

هذا خطاب من الله سبحانه يدعو فيه الإنسان إلى الحذر من الشيطان، ويحثّه على مقاومته واتخاذه عدوًّا. فهل عمل البشر بهذه الدعوة وقاموا في وجه هذا الكائن المدمّر؟

جاك دريدا ومغامرة الاختلاف الكتابة كفضاء للاختلاف

إن إحدى السمات الأساسية لما يقدمه ديريدا، هي زعزعة صرح نزعة التمركز الأوروبي

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<