السيدة خديجة الكبرى(ع) سيّدة الجهاد والنضال والتضحيات

نحاول في هذه المقالة أن نستحضر الماضي الجميل والتاريخ المشرق للسيدة خديجة (ع) تلك السيدة التي وهبت حبها وحنانها ومالها وكل ما تملك في سبيل مساندة النبيّ محمّد (ص)، وفي سبيل نشر الإسلام، ونأمل في تلك السطور القليلة أن نفيها القليل من حقها الواجب على كل المسلمين دون استثناء، لأنه بمالها قامت دعائم الإسلام وثبتت أركانه، وقد عبّر نبي الرحمة (ص) عن ذلك في أكثر من مورد حيث قال: “ما قام ولا استقام ديني إلا بشيئين: مال خديجة وسيف علي بن أبي طالب”[1].
فمن هي هذه المرأة الجليلة العظيمة التي يصف الرسول الأكرم علاقته بها فيقول: “لقد رزقت حبها؟”[2]؛ هذا الحب الذي سكن قلب وفؤاد كل من السيدة خديجة (ع) والرسول الأكرم (ص) هو رزق من الله، وليس كأي حب نسمع به. هو حب الروح المعنوية المترفعة عن كل ما هو مادّي، حيث تكاملت السيدة خديجة بزواجها من النبي محمد (ص)، ووصلت إلى مراتب معنوية وروحية عالية، لم تكن لتصلها لولا هذا الارتباط بنبي الرحمة (ص).
من هي هذه السيدة الجليلة التي ينزل جبرائيل الأمين في دارها ويقرئها السلام من رب العباد؟ كيف وصلت إلى تلك المراتب العالية والكمالات الرفيعة لتنال رضا الله ورسوله ولتكون الزوجة الأولى المدخرة من قبل الله لنبي الإسلام؟ ما هي درجاتها عند الله ليخبرها الملك جبرائيل بأن الله بنى لها بيتًا في الجنة، ويخفف عنها وطأة الخوف من الموت والقبر؟
إنها خديجة بنت خويلد التي ما عرفت الشرك قط، بل كان سريان التوحيد في عروقها توارثته من أجدادها وصولًا إلى جدها إبراهيم الخليل (ع)… إنها خديجة الطاهرة وسيدة نساء أهل زمانها ومن خيارهم والتي عبّر بذلك رسول الرحمة في أكثر من مورد وأكثر من مناسبة، وذلك ليؤكد على أهميتها في الإسلام، وعلى دورها المشرق والمساند في نشر تعاليمه ودعم نبيه الذي لولاها لما قامت للإسلام من قيامة.
من هنا، سنعرّج على حياة السيدة خديجة (ع) ولو بشكل مختصر، راجين من المولى تعالى أن يتقبل منا هذا القليل ببركة وطهارة ذكرها العابق الفواح على مر العصور والأزمان.
- السيدة خديجة اسمها وشرف نسبها.
فمن جهة أبيها هي: خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالم بن النضر بن كنانة. وأمها: فاطمة بنت زائدة بنت الأصم (واسمه جندب) بن رواحة الهرم بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر.
احتلت خديجة زوج النبي (ص) الذروة من قريش في نسبها وشرفها، فهي من القوادم في كيان قريش لا من أذنابها، وكانت من عقائل قريش وسيدة نساء مكة، وهي تلتقي برسول الله محمد بن عبد الله (ص) من جهة أبيها بالجد الأعلى الشريف “قصي”، ومن جهة أمها بلؤي بن غالب، فهي قرشية أبًا وأمًّا، ومن الشجرة الطيبة في قريش.
- ألقابها.
منذ مطلع حياة السيدة خديجة كانت قريش تتوسم فيها النبل والطهر وسمو الأخلاق حتى لقبت بالطاهرة، كما لقبت بسيدة قريش بالنظر لعلو شأنها، وشرف منبتها وكرم أصلها، وحميد أفعالها.
الأمر الذي يفسر السر المكنون بامتناع خديجة من الاقتران بأي أحد من قريش حتى توفرت ظروف اقترانها برسول الله (ص)، رغم ما بذل عليه قومها من محاولات لزواجها، إلا أنها كانت ترفضهم جميعًا منتظرة أمرًا ما سيحدث في حياتها، فيكمل شوط مسيرتها نحو الكمال الذي اختاره الله عز وجل، والذي عبّر عنه النبي الصادق الأمين (ص) بقوله: “حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بن خويلد، وفاطمة بنت محمد.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذه المرأة الجليلة قد ولدت قبل عام الفيل ببضع سنوات.
وهي أول امرأة أسلمت لله رب العالمين، وصدقت برسالة محمد (ص).[3]
- السيدة خديجة (ع) قبل زواجها من الرسول (ص).
كانت السيدة خديجة (ع) في أسرة أصيلة، لها مكانة وشرف في قريش، عرفت بالعلم والمعرفة، والتضحية والفداء، وحماية الكعبة، وحينما جاء تبع – ملك اليمن – ليأخذ الحجر الأسود من المسجد الحرام إلى اليمن، هبت قريش ومنهم خويلد لحمايته ومنعه عن ذلك، وكان أسد بن عبد العزى – جد خديجة – من المبرزين في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش، فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلّا قاموا معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته.
قال رسول الله (ص): “لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفًا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت”.
وكان ورقة بن نوفل – ابن عم خديجة – أحد الأربعة الذين رفضوا عبادة الأوثان، وبحثوا عن الدين الحق، وكانوا من الأحناف، يدينون الله على ملة إبراهيم. وهم ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، وابن أبي السلط، وقس ابن ساعدة وغيرهم ممن سخروا بالأصنام وعبادتها، واعتبروا ذلك جهلًا وضلالًا[4].
هكذا كانت سيرة السيدة خديجة (ع) قبل أن يتزوجها الرسول (ص) قمة في الطهارة والصفاء، سيدة حكيمة عالمة فصيحة اللسان، شجاعة، وامرأة بهذه العراقة في النسب كانت المؤهلة من الله لتكون الزوجة المناسبة لنبيّ الإسلام محمّد (ص)، حيث ادخرها الله له لتكون الزوجة المثالية والأم الفاضلة والتي حملت بأحشائها النور المضيء الذي سيكون مشعلًا لسلالة الأطهار من الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام.
- 4. مراسم خطبة وزواج السيدة خديجة (ع) من الرسول الأكرم (ص)
كان لخطبة وزواج السيدة خديجة (ع) من الرسول الأكرم (ص)، وقعه الكبير على سادات قريش وكل من يعرف السيدة خديجة، حيث تفاجأ البعض، والبعض الآخر لم يصدق أن سيدة ثرية تملك من الأموال الكثير الكثير تتزوج بيتيم معدم لا يملك قوت يومه.
تحدّت السيدة خديجة مجتمعها وكل المحيطين بها، تحدت العادات والتقاليد وكان ذلك الأمر لنا درسًا كبيرًا نتعلمه بأن الأخلاق والصدق والأمانة فوق كل أموال الدنيا، حيث قال الرسول الأكرم (ص): “إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”[5]، ولم يقل إذا جاءكم من ترضون ماله فزوجوه. بحثت السيدة خديجة عن الصدق والأخلاق والأمانة والإيمان فوجدتها في النبي محمّد، وخطت خطوة شجاعة جبارة لأنها رأت في ذلك اليتيم الثروة المعنوية الطائلة التي ستغنيها عن كل أموال الدنيا، ورأت ما لم يره الآخرون، رأت نور وشعاع النبوة في جبين محمّد، فلم تأبه لتلك الأصوات المعارضة، بل قررت الزواج بذلك الفتى لأنها كانت متيقنة بأنه الرجل الكفوء، والذي سيحافظ على مالها وحياتها.
وقد جاء في كتاب السيدة خديمة، مقاومة، إيثار، أسطورة للسيد أبو القاسم الديباجي وبخصوص زواج السيدة خديجة (ع) من النبيّ محمّد (ص) ما يلي:
عقد مجلس محمد (ص) في دار خديجة (ع) بعد خمسة عشر يومًا أو شهرين من سفر محمّد (ص) التجاريّ للشام، وكان أعمام النبي (ص) وعدد من أقارب خديجة (ع) مثل ابن عمها ورقة بن نوفل وعدد من كبار قريش مكة حاضرين في هذا المجلس.
وقد أورد السيد الديباجي في كتابه المذكور أعلاه نقلًا عن المحدّث الخبير محمّد بن يعقوب الكليني (توفي في 328 او 329هـ.ق) في كتاب فروع الكافي عن الإمام الصادق (ع):
لما أراد الرسول (ص) أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل عم خديجة (ع)، فابتدأ أبو طالب بالكلام فقال: “الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرمًا آمنًا، وجعلنا الحكّام على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن أخي هذا ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجّح به، ولا يقاس به رجل إلّا عظم عنه، ولا عِدل له في الخلق، وإن كان مقلًّا في المال فإنّ المال رفدٌ جائزٌ، وظلٌ زائلٌ، وله في خديجة رغبة، ولها فيه رغبة، وقد جئناك لنخطبها إليه برضاها وأمرها، والمهر عليّ في مالي الذي سألتموه عاجلةً وآجلةً، وله رب هذا البيت حظٌ عظيم ودين شائع، ورأي كامل.
ثم سكت أبو طالب وتكلم عمها وتلجلج وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبُهر، وكان رجلًا من القسيسين، فقالت خديجة (ع) مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي، قد زوجتك يا محمّد نفسي والمهر عليّ في مالي فأمر عمك فلينحر ناقة فليولِم بها وأدخل على أهلك. قال أبو طالب: اشهدوا عليها بقبولها محمدًا وضمانها المهر في مالها.
وبناء على بعض الروايات، فإن أبي طالب عيّن مهر خديجة بعشرين ناقة، وجاء في رواية أخرى أن مهرها كان خمسمائة درهم أو دينار.
بعد إتمام عقد النكاح قام محمد (ص) ليذهب مع أبي طالب، فقالت خديجة (ع): “إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك”.
وبهذا الترتيب، تزوج الرسول (ص) بخديجة (ع) قبل البعثة بخمسة عشر سنة، واستمرت حياتهما بكلّ عزّة ومحبة، وتم بناء أسرة جميلة ومحبة، وتستطيع أن تقول: إنه لم يكن هناك زوجين أسعد منهما في ذلك الزمن، اللذين تزوجا على أساس الأصالة والقيم العالية والسامية[6].
- خديجة أوّل امرأة أسلمت.
لا يخفى على أحد بأن السيدة خديجة (ع) تعتبر المرأة الأولى التي أسلمت وآمنت برسالة النبي محمد (ص)، وقد ورد ذلك في جميع كتب المسلمين دون اختلاف عليه، حيث كانت السيدة خديجة (ع) الداعم الأول والمساند للنبي محمد (ص) في نشر دعوته وفي الإيمان به.
يقول السيد الديباجي وفي معرض حديثه عن أسبقية السيدة خديجة (ع) للإسلام: إن الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء في خطبته حيث عبّر عن نفسه وقال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلامًا؟ قالوا: بلى.
انطلاقًا من هذا القول للإمام الحسين (ع)، وباتفاق جميع المسلمين وكل التاريخ يتضح لنا أن أول امرأة أسلمت كانت السيدة خديجة (ع)، وأول رجل أسلم كان الإمام علي (ع).
فالسيدة خديجة والإمام علي (ع) كانا مع الرسول في غار حراء عند بداية نزول الوحي، وكان يوم الاثنين، وفي نفس الوقت آمنا.
يذكر السيد الديباجي ما ينقله العلامة الأميني من كتب السنّة المختلفة أن أبو رافع (أحد أصحاب النبيّ (ص)) قال: صلّى النبيّ (ص) أول يوم الاثنين، وصلّت خديجة (ع) آخره، وصلّى علي يوم الثلاثاء من الغد.
ويرى السيد الديباجي، أنه مع التوجه للروايات المختلفة أن ّعليًّا (ع) وخديجة (ع) صدّقا بنبوّة رسول الله قبل البعثة على أثر رؤيتهما لمعجزاته وكراماته، وعلى أساس هذا الاعتقاد كانا يتبعانه، وبمجرد أن تحققت نبوة الرسول (ص) عند بداية البعثة (27 رجب سنة 40 من عام الفيل، أو شهر رمضان بنفس السنة) نطقا بالإيمان في نفس الوقت، وشهدا بوحدانية الله عز وجل ورسالة محمّد (ص)، ولم يكن هناك تأخّر أو تقدّم في ذلك[7].
ويضيف السيد الديباجي، أنه من المعروف قديمًا أنّ الإسلام انتشر في البداية بسبب أخلاق الرسول (ص) الحسنة وسيف ومجاهدات عليّ (ع) وأموال وإيثار خديجة (ع)، وحقًّا كان كذلك. وبالتحليل والتحقيق في تاريخ الإسلام يتضح هذا الموضوع جيدًا.
ثم يذكر السيد الديباجي قول العالم والكاتب المعروف سليمان الكتاني: “ما قام الإسلام إلّا بسيف علي وثروة خديجة”. فيبين الكتاني ذلك بالتالي: وهبت خديجة محبتها لرسول الله (ص)، ولم تكن تحس بأنه تهبه، بل كانت تحس بأنه يأخذ منها المحبة، وتكسب منه كل السعادة، وهبته كل ثروتها، ولكن لم تكن تحس بأنها تهبه، بل كانت تحس أنها تكسب هدايته والتي هي أفضل من جميع كنوز العالم. منحها الرسول (ص) المحبة وولّاها التقدير وهذا هو الأمر الذي ارتفعت به إلى أعلى الدرجات ولم يكن يحس بأنه أعطاها، بل كان يقول: ما قام الإسلام إلّا بسيف علي وثروة خديجة[8].
- المقام العظيم للسيدة خديجة (ع)
هناك أحاديث كثيرة وبتعابير متعددة عن المقام العظيم والقدير للسيدة خديجة (ع) على لسان الرسول والأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام عن طريق الروايات الإسلامية التي نقلت عن الشيعة والسنة.
إن هذه الروايات تبلّغنا بأسرار عظمة مقام هذه السيدة القديرة، وتعرّفنا بمقاماتها حتى نقتدي بها كأفضل قدوة في مسيرنا إلى التكامل.
من هذه الروايات:
- قال الرسول الأكرم (ص): خير نسائها خديجة وخير نسائها مريم ابنه عمران.
- وقال أيضًا: خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (ص).
- قال ابن عباس: خط رسول الله (ص) أربع خطط في الأرض، وقال: أتدرون ما هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. فقال (ص): خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (ص)، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون.
- ورُوي أنّ جبرائيل أتى النبيّ (ص) فسأل عن خديجة فلم يجدها، فقال: إذا جاءت فأخبرها أن ربها يقرئها السلام.
- قال الإمام عليّ (ع): سادات نساء العالمين أربع: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد (ص)، وآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران.
- جاء في مقطع من إحدى الزيارات لرسول الله (ص) (والتي نقلت من الأئمة عليهم السلام) التالي: السلام على أزواجك الطاهرات الخيّرات، أمهات المؤمنين، خصوصًا الصدّيقة الطاهرة، الزكيّة الراضية المرضيّة، خديجة الكبرى أم المؤمنين.
- بعث الرسول (ص) عمار بن ياسر إلى خديجة (ع) عندما كان في اعتزال عنها لمدّة أربعين يومًا وقال: قل لها: إنّ الله عزّ وجل ليُباهي بك كرام ملائكته كلّ يوم مرارًا[9].
هذا غيض من فيض من الروايات التي تدل على مقام وعظمة هذه السيدة العظيمة والتي استحقت بإيمانها وطهارتها مرتبة عالية عند الرسول وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام.
- ارتباط خديجة العميق بالله واعتقادها القوي.
كان لخديحة (ع) رابطة وعلاقة عميقة وقويّة بمستوى عالٍ مع الله سبحانه وتعالى، لذلك كان لها قلبًا قويًّا ومحكمًا وذا استقامة وثبات، وكان لها حرز وفي ضوئه كانت ترتبط بالله عزّ وجل.
ويورد السيد الديباجي نقلًا عن العالم الكبير سيّد بن طاووس في كتاب مهج الدعوات حرزين خاصّين بالسيدة خديجة (ع) وهما:
- بسم الله الرحمن الرحيم، يا حيّ يا قيوم، برحمتك أستغيث فأغثني، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا، وأصلح شأني كلّه.
- بسم الله الرحمن الرحيم، يا الله يا حافظ يا حفيظ يا رقيب.
زاد إيمان وارتباط خديجة (ع) بالله سبحانه وتعالى، وقويت علاقتها به بمصاحبتها للرسول (ص) ورؤيتها للمعجزات وعلامات صدقه، والسيدة التي تهب كلّ ثروتها وأموالها وروحها في سبيل الإسلام، وتتخلّى عن كلّ وجودها في هذا المجال بالطبع يدل ذلك على أن لها اعتقادًا قويًّا وعميقًا جدًّا.
يقول السيد الديباجي بهذا الصدد:
إنه جاء في الرواية بأن أمرأة عمياء جاءت عند خديجة (ع)، وكانت (ع) تعتني فيها وتراعيها، فقال (ص): لتكونن عيناك صحيحتين.
فصحّتا، فقالت خديجة (ع): هذا دعاء مبارك. فقال (ص): وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين.
وبرؤية خديجة لتلك الكرامات كان إيمانها واعتقادها يزداد يومًا بعد يوم وتستقيم وتتعمّق أكثر في الإسلام[10].
- أشعار السيدة خديجة
كانت السيدة خديجة (ع) بالإضافة إلى كلّ مآثرها النبيلة والكريمة كانت شاعرة فصيحة اللسان والبيان، وبهذا المورد نود أن يطّلع القارئ على بعض أشعارها والتي كانت في الغالب في مدح سيد الأنام محمّد (ص) والتي تعبّر فيها عن محبتها المطلقة للنبيّ (ص) واعتزازها به وعن صدقه وأمانته وإخلاصه.
من هذه الأشعار: شعرها للنبي (ص):
ولو أنني أمسيت في كلّ نعمة
|
ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة
|
فما سويت عندي جناح بعوضة | إذا لم تكن عيني بعينك ناظرة |
ومن شعرها:
نطق البعير بفضل أحمد مخبرًا | هذا الذي شرفت به أم القرى |
هذا محمّد خير مبعوث أتى | فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى |
يا حاسديه تمزقوا من غيظكم | فهو الحبيب وما سواه في الورى[11] |
- وفاة السيدة خديجة (ع) ووصيتها لرسول الله (ص).
طبقًا للنقل المعروف، أنّ السيدة خديجة (ع) توفيت في اليوم العاشر من شهر رمضان للسنة العاشرة للبعثة، وفي هذه السنة توفي رفيقين وحبيبين من الأحباء الأوفياء والمخلصين لرسول الله (ص)، بفارق بسيط من الزمن، وهما أبو طالب (ع) وخديجة (ع).
حزن الرسول حزنًا شديدًا عليهما، وسمّى ذلك العام بعام الحزن[12].
وكانت وصيتها لرسول الله (ص): يا رسول الله اسمع وصاياي:
أولًا: فإني قاصرة في حقك فاعفني يا رسول الله (ص) قال رسول الله: حاشا وكلا ما رأيت منك تقصيرًا فقد بلغت جهدك وتعبت في داري غاية التعب، ولقد بذلت أموالك وصرفت في سبيل الله جميع مالك. قالت: يا رسول الله الوصية الثانية أوصيك بهذه وأشارت إلى فاطمة فإنها غريبة من بعدي فلا يؤذيها أحد من نساء قريش، ولا يلطمن خدها ولا يصحن في وجهها ولا يرينها مكروهًا. وأما الوصية الثالثة: فإني أقولها لابنتي فاطمة وهي تقول لك فإني مستحية منك يا رسول الله، فقام النبي وخرج من الحجرة فدعت بفاطمة وقالت يا حبيبتي وقرة عيني قولي لأبيك إن أمي تقول: أنا خائفة من القبر أريد منك رداءك الذي تلبسه حين نزول الوحي تكفنني فيه، فخرجت فاطمة وقالت لأبيها: ما قالت أمها خديجة فقام النبي (ص) وسلّم الرداء إلى فاطمة وجاءت به إلى أمها فسرّت به سرورًا عظيمًا، فلما توفيت خديجة أخذ رسول الله (ص) في تجهيزها وغسلها وحنطها، فلما أراد أن يكفنها هبط الأمين جبرائيل وقال: يا رسول الله إن الله يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك: يا محمد إن كفن خديجة وهو من أكفان الجنة أهداه الله إليها. فكفنها رسول الله (ص) بردائه الشريف أولًا وبما جاء به جبرائيل ثانيًا، فكان لها كفنان: كفن من الله، وكفن من رسوله.[13]
ويشير السيد الديباجي إلى أنه وبعد تكفينها أخذ الرسول (ص) الجنازة مع أصحابه على مقبرة المعلّى التي تقع عند جبل حجون في أعلى مكة، حتى تدفن بجانب قبر والدته السيدة آمنة (ع)، فحفروا قبرًا للسيدة خديجة (ع)، ونزل بها الرسول (ص)، ودفنها هناك.
وينقل السيد الديباجي قول العلّامة المجلسي في بحار الأنوار والآخرين: ولم يكن يومئذٍ صلاة على الجنازة، فلم يصلِّ عليها صلاة الميت، ونزل في القبر ودفنها[14].
إنّ حزن الرسول (ص) على فراق خديجة (ع) يدلّ ويبين مدى عظمتها وإيثارها وتضحيتها ومقاومتها في سبيل الإسلام، لأنّ وفاتها هدّ عمود ثابت ومحكم لإحدى أعمدة الإسلام، وأيضًا وفاة أبو طالب قبل وفاتها بأيام كانت فاجعة كبيرة على الرسول. لذلك، بعد فقدان الرسول (ص)، لهذين الصاحبين اللذين كانا ذا ثبات وصلابة، لم يكن يستطيع الاستمرار في حياته في مكة، لهذا السبب هاجر إلى المدينة[15].
إنّها لمحنة كبيرة على الرسول (ص) أن يفقد في نفس العام وبفارق بسيط من الوقت أحب الناس إلى قلبه والمدافعين عنه عمه أبو طالب، وزوجته السيدة خديجة، هذه المرأة الصابرة الطاهرة الشجاعة التي بذلت كلّ حبها ومالها في سبيل إسعاد الرسول وفي سبيل نشر الإسلام. وليس غريبًا أبدًا أن يحزن الرسول هذه الحزن الكبير عليهما، وليس غريبًا أن يطلق على ذلك العام بعام الحزن، فقد فقد الناصر والمعين ومؤنس حياته في كلّ الملمات والمصائب التي مرت عليه، وبفقدهما توالى الأذى عليه من قومه الذين لم يؤمنوا به.
في الختام، لا يسعنا إلّا أن نثني ونطأطئ الرأس ونحني الهامات إجلالًا واحترامًا لتلك السيدة الكريمة، سيّدة الجهاد والنضال والتضحيات ،العظيمة النسب، الطاهرة المنشأ والولادة والنطفة، الباذلة في سبيل الإسلام وفي سبيل نبي الإسلام كل غالٍ ونفيس.
وفي المناسبة نقول: إننا ومهما بحثنا وقرأنا وكتبنا فلن نصل إلى الجزء اليسير جدًّا من كمالات ومراتب السيدة خديجة (ع) المعنوية والروحيّة، والكمالات العرفانيّة والتي خصها بها الباري عز وجل دونًا عن النساء أجمع باستثناء النساء التي وردت أسماءهن في القرآن الكريم وفاطمة (ع)…
ونختم هذه المقالة بزيارة السيدة خديجة (ع) راجين من الله القبول، ومن السيدة خديجة (ع) رد السلام علينا.
زيارة السيدة خديجة بنت خويلد (ع)
السلام عليك يا أم المؤمنين، السلام عليك يا زوجة سيد المرسلين، السلام عليك يا أم فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا أول المؤمنات، السلام عليك يا من أنفقت مالها في نصرة سيد الأنبياء، ونصرته ما استطاعت ودافعت عنه الأعداء، السلام عليك يا من سلم عليها جبرائيل، وبلغها السلام من الله الجليل، فهنيئًا لك بما أولاك الله من فضل، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته[16].
[1] الشيخ محمد مهدي الحائري، شجرة طوبى، الجزء 2، الصفحة 233.
[2] مولي محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، الجزء7، الصفحة 144.
[3] الحاج حسين الشاكري، أم المؤمنين خديجة الطاهرة (ع)، الصفحات 142- 145.
[4] أم المؤمنين خديجة الطاهرة (ع)، مصدر سابق، الصفحات 7- 9.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، الجزء 20، الصفحة 77.
[6] السيد أبو القاسم الديباجي، السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، الطبعة الإلكترونيّة الأولى (1423هـ- 2003م)، الصفحتان 52 و 53.
[7] السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، مصدر سابق، الصفحتان 73 و 74.
[8] السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، مصدر سابق، الصفحة 88.
[9] المصدر نفسه، الصفحة 105.
[10] السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، مصدر سابق، الصفحة 111.
[11] الشيخ غالب السيلاوي، الأنوار الساطعة، الصفحتان 331و 332.
[12] السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، مصدر سابق، الصفحة 135.
[13] الشيخ محمد مهدي الحائري، شجرة طوبى، الجزء2، الصفحتان 234و 235.
[14] السيدة خديجة، مقاومة، إيثار، أسطورة، مصدر سابق، الصفحة 136.
[15] المصدر نفسه، الصفحة 137.
[16] السيد الگلپايگاني، مناسك الحج، الصفحتان 168و 169.
المقالات المرتبطة
فلسفة “الفقيه الأعلى” دراسة في ماهية العارف الواصل عند محمود حيدر
الحديث عن “الذاتي والموضوعي في التجربة الصوفية” يشكل محطة معرفية وإشكالية في مباحث الإلهيات المعاصرة. ولعل أول ما يتبادر إلى التصور في هذا المجال
لغة القرآن الكريم والشبهات المثارة حولها
سنتطرق في هذا البحث إلى ما يختص بلغة القرآن الكريم وما يتعلق بها، وذلك ضمن خمس فقرات مهمة لسير البحث
مارتن هايدغر استعاد الكينونة من دون أن يفقه سرَّها المكنون
ليس يكفي لنتعرَّف إلى هايدغر أن ندخل عالمه من باب واحد. أو أن نسائله كما لو كان هو، هو، من مبتدئه إلى خبره. إنه من بين ندرة مضوا في سَيْريّة تفكُّر