دراسة تحليلية مقارنة في ضوء الفكر الإسلامي والغربي

الرجاء عند شيخ الإشراق وصدر الدين الشيرازي(2)

الباحث: حامادو جيرو*

  1. الرجاء عند الإشراقيين (السهروردي).

يرى السهروردي أن الرجاء حالة من الانجذاب النوري، حيث تتوق النفس إلى استعادة نورها الأصلي، ولذلك فإن الرجاء عنده يتجاوز كونه انفعالًا إلى كونه حضورًا إشراقيًّا من عالم الأنوار. (السهروردي، حكمة الإشراق، ص165، تحقيق كوربان).

1-2 الرجاء عند شيخ الإشراق: بين النور والهجرة الوجودية.

1-1-2 الخلفية المشرقية للمفهوم.

يتأسس الفكر الإشراقي عند السهروردي على مبدأ النور، حيث يتدرّج الوجود من “النور الأنور” (الله تعالى)، إلى “الأنوار القهرية” (العقول)، ثم إلى العوالم الظلمانية (عالم الهيولى).

وفي هذا السياق، فإن الرجاء عنده لا يُفهم بوصفه مقامًا نفسيًّا فقط، بل هو توق شوقي للنفس النورانية للرجوع إلى عالمها الأصلي.

يقول في حكمة الإشراق: “كلّ جوهر نوراني غريب عن وطنه، له حنين إلى معقوله، ورجاء في الرجوع إليه”. (السهروردي، حكمة الإشراق، ص246).

الرجاء إذن، هو تجلٍّ من تجلّيات الحنين الأنطولوجي للنفس، تعبير عن غربتها في عالم الظلمة، وتوقها للعودة إلى مبدئها النوري.

2-1-2 الرجاء والرياضة الإشراقية.

يرتبط الرجاء عند شيخ الإشراق بما يسمّيه “السير النوري”؛ وهو حركة وجودية – معرفية تقوم بها النفس عبر الرياضة، والتجرد، والتطهير من الكدر المادي.

فالرجاء لا يصح إلا إذا سلك السالك طريق الكشف، وتهيأ لأن يفيض عليه النور.

يقول في المشارع والمطارحات: “الرجاء يثمر إذا تجرّدت النفس عن ظلمة الأوهام، وأشرق عليها نور القدس، فتذكّرت أصلها، واشتاقت، ورجَتْ”. (السهروردي، المشارع، ص312).

هذا يجعل الرجاء مقامًا معرفيًّا وكشفيًّا في آن، لا مجرّد أمل أو عاطفة.

3-1-2 الرجاء والأنوار القهرية.

في نظام الأنوار الإشراقي، تكون النفس الناطقة “نورًا معلّقًا” بين عالم الظلمة وعالم الأنوار، وهي إن أدركت مقامها، رجت الفيض من الأنوار العليا.

لكن إن غفلت عن حقيقتها، انقطعت عن الأصل، وتحول الرجاء إلى وهم كاذب.

يقول: “من لم يعرف النور الأعلى، كيف يرجوه؟! ومن لم يهجر عالم الظلمة، فأنى له الرجاء؟”. (السهروردي، حكمة الإشراق، ص275).

4-1-2 الرجاء عند أهل الكشف.

يُفرّق شيخ الإشراق بين رجاء العامة، ورجاء العارفين:

فـالعامة يرجون الثواب المادي.

أما العارفون، فيرجون الفناء في النور الأنور، أي الاتصال بحضرة القدس.

وهنا يلتقي السهروردي مع التصوف في مضمونه، لكنه يعبّر عنه بلغة إشراقية مخصوصة.

5-1-2 بين الرجاء والرجوع.

من المفاهيم المفتاحية عند شيخ الإشراق هو الرجوع إلى الأصل، أي عودة النفس إلى عالم الأنوار. والرجاء، في هذا السياق، هو أحد تجلّيات الإرادة الوجودية للرجوع، وهو مشروط: بالتصفية، والتعقل، والانخطاف بالنور.

الرجاء عند شيخ الإشراق ليس مقامًا وجدانيًّا تقليديًّا، بل هو تجلٍّ نوراني لحنين النفس إلى أصلها، و”توقع كشفي” للاتحاد بالأنوار.

وهو لا يتحقق إلا في سياق إشراقي خاص، قوامه الرياضة والتجرد والهجرة الوجودية من الظلمة إلى النور.

إنه رجاء الهجرة الكبرى، حيث يصبح الشوق والرجاء أداتين أنطولوجيتين في بناء الكائن النوراني.

3-الرجاء عند الحكمة المتعالية (ملا صدرا).

الخوف والرجاء من أعمق تجلّيات الحياة الروحية في الفكر الإسلامي، وهما وجهان لموقف الوعي الإنساني اتجاه المستقبل المجهول ومصير النفس. وقد تناول فلاسفة الإسلام كلا المفهومين من زاويتين: أخلاقية وعرفانية. غير أن ملا صدرا (صدر الدين الشيرازي) تجاوز هذه الثنائية عبر تأصيل الخوف والرجاء ضمن منظومته الأنطولوجية والنفسية في “الحكمة المتعالية”، حيث يجمع بين العقل، والوحي، والذوق، ليقدّم رؤية شاملة تتجاوز الظاهر إلى الباطن، والسلوك إلى الكينونة.

1-3  الأساس الفلسفي والنفسي للخوف والرجاء.

يرى ملا صدرا أن الإنسان مركّب من قوى متعددة: الغضبية، والشهوية، والواهمة، والعاقلة، وكل واحدة منها تنزع نحو كمالها الخاص. والرجاء بحسب تصنيفه هو كمال للقوة الوهمية، كما أن الخوف أثر لهذه القوة حين تتوقع مكروهًا في المستقبل. يقول: “كمال الوهم وسعادته هو الرجاء والتمني، وكمال الغضب هو الغلبة، وكمال الشهوة هو اللذة”. (ملا صدرا، الأسفار، ج4، ص126).

وفي مقطع آخر، يعرض ملا صدرا الخوف والرجاء بوصفهما من الصفات النفسية المركبة من تصورات عقلية وشعورية: “الهمّ مركب من خوف ورجاء، فإذا غلب أحدهما تحركت النفس إلى جهته”. (ملا صدرا، الأسفار، ج4، ص150).

وهذا التحليل يظهر أن الخوف والرجاء ليسا مجرد حالات وجدانية عابرة، بل هما بنيتان نفسيّتان تتبعان التكوين الفطري للنفس وميلها إلى الكمال.

2-3  ثنائية الخوف والرجاء وسير النفس نحو الكمال.

يضع ملا صدرا الخوف والرجاء في إطار السير والسلوك، بوصفهما قوتين محركتين للنفس في طريقها نحو الله. وهما، بحسبه، لا ينبغي أن ينفصلا، بل يجب أن يكونا متوازنين كما يتوازن جناحا الطائر: “الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير وتمّ في طيرانه”. (ملا صدرا، تفسير القرآن الكريم، ج3، ص206).

والرجاء، من هذا المنظور، ليس مجرد أمل في نيل الجنة، بل هو شوق وجودي (ontologique) نحو الكمال المطلق، نحو مصدر الوجود، أي الله تعالى. أما الخوف الحقيقي، فهو الخوف من الحرمان من هذا القرب، لا من العقوبة بحدّ ذاتها.

وفي تأويله لآيات الرجاء، يصرّح بأن “الخوف من مقام الله”، و”الرجاء في الله” هما علامات أهل اليقين، بينما “رجاء الثواب” هو نصيب أهل الظاهر (نفس المرجع).

3-3  مراتب الرجاء والخوف عند الملا صدرا.

يوضح ملا صدرا أن للخوف والرجاء مراتب، تتفاوت بحسب مراتب الوجود الإنساني:

  • الخوف والرجاء الحسيان: يتعلقان بالبدن واللذة والألم (كالرجاء في الطعام أو الخوف من المرض).
  • الخوف والرجاء الأخلاقيان: يرتبطان بوعيد النار ووعد الجنة، وهو ما يشكل أساس التقوى العامة.
  • الخوف والرجاء العرفانيان: خاصان بأهل القرب؛ فخوفهم من السقوط من مقام المعرفة، ورجاؤهم في دوام وصال الحق.

يقول في ذلك: “لا يكدرون عشق مولاهم برجاء نعيم أو خوف جحيم”. (ملا صدرا،كسر أصنام الجاهلية، ص57).

وهذا يضعنا أمام تفسير عرفاني للرجاء، حيث لا يعود الرجاء تطلّعًا لمصلحة، بل يصبح انمحاءً في جمال المحبوب.

4-3  البعد الأنطولوجي للرجاء والخوف.

يربط ملا صدرا الخوف والرجاء بـ”بقاء الصور العقلية” ويجعل منهما علامة على دوام الأشياء المفارقة: “لو لم تكن الصور العقلية دائمة، لما كان رجاء ولا خوف. ولكن لما كانت الصور الحسية على رجاء وخوف، استُدلّ على بقائها”. (ملا صدرا، الأسفار، ج5، ص215).

ويبرز في هذا النص توجّه ملا صدرا لاعتبار الرجاء والخوف دليلين على الوجود الثابت للعقول المفارقة، وهو ربط أنطولوجي بين المعنى النفسي للرجاء ومعناه الوجودي في بنية الكون.

5-3  الرجاء والخوف كوسيطين في علاقة العبد بالله.

يؤكد ملا صدرا أن تمام العبودية يقوم على التعلّق بالخوف والرجاء. ويرى أن الحكمة الإلهية تقتضي إبقاء العبد بين هذين القطبين حتى لا يغتر أو ييأس: “ملاك العبودية التعلّق بين الخوف والرجاء… بهما يتم التكليف”. (ملا صدرا، مجموعة الرسائل التسعة، ص209).

وهذا التوازن لا يتحقق بالمعرفة الذهنية فقط، بل يحتاج إلى مجاهدة ومراقبة، بحيث يصبح الرجاء أداة لطلب المزيد لا غفلة عن النقص.

أعاد ملا صدرا تعريف الخوف والرجاء في سياق فلسفي وجودي يربط بين النفس والعالم، بين العبادة والمعرفة، وبين السلوك والكينونة. فلا يكتمل الإنسان، بحسب فلسفته، إلا إذا جمع بين خوف العارف من البُعد عن الله، ورجاء المحب في لقائه. ومِن ثمّ، فالرجاء ليس مجرّد أمل، بل هو تجلٍّ من تجليات السير التكويني للوجود نحو الكمال الإلهي.

* دكتوراه الفلسفة في جامعة المصطفى(ص) العالمية –  قم.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.