القائمة الرئيسة

الرجاء ركيزة أساسية لاستحقاق الخلاص

الرجاء ركيزة أساسية لاستحقاق الخلاص

يشهد العالم حاليًّا أوقاتًا عصيبة، ولا سيّما في منطقتنا العربية والشرق الأوسط، وتعاني شعوب هذه البلدان من موجات عنف متلاحقة، وتكابد صعوبات وتحدّيات ترتقي لدرجة تهديد وجودها. ويصبح وجود “الرجاء” أو عدم وجوده حالة، أكثر من مجرد شعور أو إحساس، تتحدّد بناءً على هذه الحالة طريقة تفكير وسلوكيات وتصرفات الفرد المؤمن بهذا الرجاء الذي يمكن أن نترجمه إلى “الأمل” و”الخلاص”، فالشخص المتمسك بحالة الرجاء أو الأمل والخلاص، كما أشرنا، لديه هدف في الحياة يعيش من أجله، أو على الأقل يتصبر أو يتسلّى على الصعوبات والتحديات والمشقة في حياته على أمل غد أفضل ومستقبل مشرق، وعلى النقيض من ذلك فالشخص الذي تغيب عنه حالة “الرجاء” لأي سبب، ولها أسباب متعددة سنسوقها لاحقًا، يفقد القدرة على مواجهة الحياة، ويفقد الشغف وتصاب شخصيته بالهشاشة، ويميل للاستسلام، ويتسم بالفردية والانقياد وضعف الشخصية، لأنه دائم التبعية، ولا تأثير له.

وبنظرة أوسع ندرك تقاطع الفلسفة مع الإيمان في قضية الرجاء، لو اعتبرنا أن الأمل والخلاص، يكون في الأغلب، على يد قوة علوية قادرة ومؤثرة، فيرتبط هذا الرجاء بالإيمان بالقدر ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾. (سورة القصص، الآية 60)، والعكس صحيح.

 وقد نُقلَ عن الفلسفة الإغريقية في هذا الباب بأنّ الرجاء فضيلة ومفهوم مرتبط بمصير البشريّة؛ فعندما يجد الإنسان صعوبات ويعيش أزمات، مثل الخوف أو القلق والتوتر يفتح الرجاء بابًا للخلاص فيثبت أن الحياة مستمرة، وأنّ في الإنسان نشاطًا متحرّكًا من أصلٍ إلهيّ، يحوّلُ الشر والدمار إلى خير وعمران وجمال.

 وتناول بعد فلاسفة الإغريق عدد من الفلاسفة مثل إيمانويل كانْط وكارل ماركس وآرنست بلوخ. وفي الجانب الإسلامي توسع المسلمون أكثر من غيرهم بسبب ارتباط الرجاء بقضايا أوسع من الفلسفة مثل التصوف والعرفان وعلوم الشريعة، وبالتحليل والخوض أكثر في هذا المقال سنعرض كيف أصبح الرجاء ركيزة إيمانية في العقيدة الإسلامية.

يصف الباحثون فلسفة إرنست بلوخ (1885-1977) بأنها تنطلق من الوصف الخالص لظواهر الوعي الذاتي للإنسان وتجاربه، ومن تأمُّل الشواهد الدالَّة على إرادته المبدعة عبر التاريخ البشري. وبرغم اشتراك بلوخ مع فلاسفة الوجود في كثير من القضايا إلا أنه تجاوز اللحظة الآنية وطرح تساؤلات حول المستقبل والمصير.

ويرى “بلوخ” ضرورة مقاومة الظروف التي يعيشها الإنسان وعدم التسليم والاستسلام لها لكي يحقق حلمًا بحياة مثالية “يوتوبيا”، يتحقق فيها الخلاص والحرية، وبالتالي يضع هدفًا للإبداع البشري يكون الرجاء، بمفهوم الأمل والخلاص، مضمونه ومكونه الأساسي.

وقد تجلت هذه المفاهيم في عدة حضارات قديمة، استوعبتها وعبّرت عنها بشتى المظاهر الحضارية والثقافية والفنية والدينية. وقد بلغت الحضارة العربية الإسلامية ذروتها في التعبير عن المفهوم بتضمينه ضمن الإيمان بوجود الله عز وجل. وحتى في الديانات السماوية والأرضية كان هناك دومًا مفهوم البحث عن المدينة أو المملكة الفاضلة، التي يسود فيها العدل والإحسان. ويتكرر مفهوم مملكة السماء عند المسيحيين واليهود وغيرهم، مثلما كان سائدًا قبلهم في حديث القدماء عن البعث والحساب والخلود ورحلة الآخرة، كما مثّلته النقوش المصرية البديعة وحتى الملاحم والأساطير البابلية مثل “ملحمة جلجامش”، وتبعهم على ذلك في العصر الحديث من تبنّى الفلسفة المثالية الألمانية مثل هيجل.

وقد استفاض “بلوخ” في عرض هذه النماذج في كتابه الهام “مبدأ الأمل”. ويعتبر بعض الباحثين أن هذا الكتاب لا يقلُّ أهمية عن ظاهريات الروح لهيجل. وقد تضمن الكتاب اتجاهات فلسفية وفكرية مختلفة ومتنوعة، بين نزعة صوفية ودينية ووجودية تتفاعل مع اشتراكية ماركس وإنجلز، والرؤى المختلفة عن نهاية العالم والتاريخ، والتبشير الثوري والمأساوي بحتمية الخلاص. وقد خَلُص “بلوخ” إلى أن هناك ما أسماه “الوجود الكلي الواحد” واعتبره ملاذًا للإنسان. وقد تبدو هذه الدعوة أشبه بما يدعو له “اسبينوزا”، حيث اعتبر أن العالم غير المدرك وغير المرئي هو المحرك والصانع لهذا العالم، بعبارة أخرى أن الخالق هو العالم تتعدد صوره، وموجود كروح في كل مخلوق يظهر فيه، أو بعبارة أخرى يمكن القول: إن “بلوخ” قد سلك نفس مسلك “اسبينوزا” في الإيمان بوحدة الوجود، وهو مفهوم عالجه الفلاسفة المسلمين وعبروا عنه وربطوه بنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، مما أكسبه ملامح إسلامية مثل الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي الطائي الأندلسي وغيره، ومثل فلاسفة الإشراق، كشهاب الدين السهروردي القتيل، وعبد الكريم الجيلي الذي ألّف كتابًا عن الإنسان الكامل، وهي نزعة قريبة ليوتوبيا “بلوخ”.

وانطلق “بلوخ” من كل ما صادفه من أفكار إنسانية وأرجعها إلى أصل واحد، مثل الوحي في الإسلام أو الحكمة أو العرفان أو العلم اللدني، وبالتالي امتزج عنده في فلسفة الأمل التصوف والمسيحية واليهودية والاشتراكية وسائر ما أنتجه البشر من أجل وصول الإنسانية إلى الأمل الأكبر. ومن هنا يمكننا القول: إن الأمل في رأي “بلوخ” هو الخاصية الأساسية والمُقولة الرئيسية للوجود.

انعدام الشعور بالأمل وخطورته على المجتمع.

الشعور بالأمل والخلاص يرتبط بالإيمان ارتباطًا كاملًا يصعب فصلهم، وغياب هذا الشعور يفتح الباب واسعًا نحو الإلحاد والتشكيك في عدالة الله عز وجل، عن طريق مدخل شيطاني وهو انتشار الظلم والشر في العالم، والمدخل الآخر الذي يروج له الطاعنون في الإسلام هو الدعاء مع عدم استجابة الله عز وجل ورفع الظلم عن المستضعفين، خصوصًا أننا نعيش فترة صعبة من أشد الفترات الحالكة في تاريخ الأمة، وربما في مراحل التاريخ الإنساني، حيث الوحشية وقانون الغاب هو السائد.

وأصحاب هذه الادعاءات والافتراءات الذين يخدعون ضعاف النفوس من شبابنا، إنما يغفلون قوانين إلهية وسنن قرآنية وكونية لإحداث التغيير ومفهوم التمكين في الأرض.

ومن ضمن الأمراض الاجتماعية التي فَشَت في المجتمع نتيجة هذه الأفكار الهدّامة انتشار روح انهزامية اتكالية يشجع على ذلك النظام الرأسمالي العالمي بالترويج لثقافة الثراء السريع، المقترن بالكسب غير الشريف في أغلب الأحيان، وما الترويج غير المعقول لأثرياء ومشاهير ومؤثرين التواصل الاجتماعي إلا لخدمة هذه الأهداف المشبوهة وبث روح الإحباط في صفوف شباب الأمة الذي يعاني من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية، بينما يعيش الآخرون في ترف وبذخ.

وفي حال التحلّي بالصبر وبالرجاء والأمل تنتفي هذه المشاريع السلبية الهدّامة لأن الإنسان ينتظر جزاءًا في الدنيا، وهو رضا الله، أو الجنة في الآخرة. وفي كل الأحوال فالرجاء يجعل الإنسان مرتبطًا بمنظومية قيم ومبادئ لا تقبل الحرام ولا الظلم ولا العدوان، وتسعى لنشر الخير بين كل الناس ولا تنتظر الجزاء.

وقد عرض القرآن الكريم هذه القضية وضرب أروع الأمثلة على ذلك في سورة الإنسان حيث قدم آل البيت (ع) أروع أمثلة للعطاء والفداء والجود بلا انتظار الجزاء ولو حتى بكلمة شكر، فقط محبة ومخافة لله عز وجل، وهذا خير مثال على الرجاء، ويمكن استنباط أنه أعلى درجة من درجات الرجاء، برجاء ما عند الله عز وجل والزهد في الدنيا وما في أيدي الناس.

وتعزيز روح الرجاء عند الإنسان يرتبط بقضيتين أساسيتين هما التوكل وانتظار الخلاص، فالتوكل على الله هو فعل إيجابي يدفع الفرد والمجتمع للعمل، وبذل الجهد، والأخذ بالأسباب للعمل على بصيرة وعلم. وانتظار الخلاص هو غاية الرجاء وذروة سنام الأمل.

انتظار الخلاص سلاح ذو حدين.

انتظار الخلاص سلاح ذو حدين، فقد يكون انتظار إيجابي مؤسس على علم ومدفوع بالرجاء في الله عز وجل، وفي عدالة قضية معينة، كالثقة في انتصار الأمة وتحرير فلسطين لأنه وعد من الله عز وجل مع الأخذ بأسباب المقاومة. أما الانتظار السلبي فيتحول إلى تواكل وتقاعس لأنه مبني على وهم ولم تُبذل فيه أسباب القوة والتمكين، مثلما ورد في الأثر أن أحد الخلفاء قد وجد رجلًا دائم العبادة في المسجد ولا يعمل، وله أخ يعمل وينفق على كليهما، ففضل الخليفة الرجل العامل العابد عن العابد الكسول لأنه لم يضع روح الإسلام وحركته في حياته بشكل فعال.

وفي السياسة الحديثة نرى المقاومة تطبق الانتظار الإيجابي، وتنظر بعين الترقب للخلاص فتأخذ بأسباب القوة والعلم حتى يحين وقت معين تتغير فيه الظروف، وتتدخل يد القدر الإلهية لتغير الظلم وتقيم دولة العدل الإلهية كما أخبرت بذلك الروايات والنصوص، ودلّت عليها سنن الأمم المؤمنة السابقة. وقد أشار القرآن الكريم لذلك في أكثر من موضع، منها الدخول الثاني للمسجد الأقصى والانتصار على بني إسرائيل بعد طغيانهم وإفسادهم في الأرض، وقد جاء وعد الله صريحًا بالاستخلاف للمؤمنين كما في قصة موسى وفرعون، وربطه الله عز وجل بالصبر والرجاء.

ولو غاب مفهوم واحد من تلك المفاهيم الأساسية عن حالة الترقب والانتظار للخلاص سيتحول إلى انتظار سلبي، كما حدث مع موسى وبني إسرائيل عندما قعدوا وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا، وكما حدث عند المسيحيين من ترك تعاليم دينهم ورسالتهم وارتكانهم إلى الشهوات في الدنيا منتظرين عودة المخلّص في آخر الزمان. وفي الحقيقة أن هذا أدى إلى تراخي وتخلي عن الأهداف لن يؤدي بهم إلى تحقيق الهدف من انتظار الخلاص.

ومما تقدم نستخلص ونستنتج بأن الرجاء حالة كاملة يلزمها الصبر والإيمان والأخذ بالأسباب ومن دونها تفقد الحياة معناها وقيمتها، بينما من يتحلى بالأمل يكون لحياته هدف وقيمة ورسالة. والأمة التي تشيد حاضرها على اليقين في الله والرجاء في ما عند الله ستكون جديرة لا محالة بالنصر والعزة والتمكين الإلهي.



المقالات المرتبطة

إدارة الألم..كيف يساعدنا الصبر في تجاوز الابتلاءات؟

إن الألم هو جزء لا يتجزأ من تجارب الحياة، حيث يواجه الجميع تحديات وصعوبات قد تكون جسدية أو نفسية.

ميتافيزيقا الموت

أفردت الفلسفة الإسلامية، حيزًا واسعًا ما بين مباحثها وموضوعاتها، للموت والحياة ما بعد الموت، والمعاد والنشأة الأخرى.

الخطاب السياسي الفاطمي..

الزهراء(ع) سجلت المرأة الأنموذج في هذا الطريق الجهادي السياسي التبليغي، لقد أدّت السيدة الزهراء (ع) دورًا لا يختلف عن دور الإمام المعصوم.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<