أودّ أن أشير إلى أننا نتعامل مع كلمة الدم بتجييش عاطفي، وقلّما نعمل على أن نتفهّم المدلول المقصود لمثل هذه الكلمات.
الدم، هو تعبير أشبه ما يكون بالتعبير الرمزي، له مدلول قد لا تحمله نفس الكلمة، بل طبيعة وطريقة وظيفة الدم، وكيفية تعاملنا نحن بمسارنا البشري مع مثل هذه الكلمة.
إنّ الحديث عن الدم ليس أمرًا محصورًا بالإطار الإسلامي وحده، وليس تعبيرًا شيعيًّا أيضًا. ففي بعض الأديان القديمة، يؤمن الكهّان بما يسمى بالـ (سيامة)، وهي تعني أنّهم يعطون البركة للكاهن حتى يؤدّي دورًا في دخول المعبد، ويأخذ هذا الكاهن في الهيكل وظائف متعدّدة، وشرط ذلك، بعد مروره بمراحل متعدّدة، أن يضعوه في حفرة مغطاة بحديد أو غيره، بحيث يتسلّل إليه الماء، وهو يقف مباشرة تحت هذا الغطاء، ويُذبح ثورٌ فوق رأسه ليسيل دمه فيغتسل الكاهن بهذا الدم، ليصبح بذلك قد امتثل بالقداسة. بعد ذلك، يؤذن له أن يكون خادمًا مقدّسًا للهيكل المقدّس.
هذا الأمر أيضًا يمكن ملاحظته بالديانة المسيحيّة، حينما يقدّم الكاهن القربان من الكأس الذي يحتوي على خبز وخمر، ويرمز عندهم الخبز إلى جسد المسيح، والخمر هو تعبير عن دم المسيح، والهدف منه أن يتّحد هذا الفرد مع المسيح، وإذا اتحد معه رسم لنفسه طريق الخلاص.
إذًا، هو أمر مقدّس يؤدي إلى الخلاص عند أديان كالمسيحيّة مثلًا.
أيضًا، يوجد في الإسلام مصطلح القربان، والذي له علاقة بالدم، ففي موسم الحج مثلًا، يقدّم كل حاج ذبيحة، ولا بدّ أن يطمئن إلى سيلان الدم منها، لكن هل من يذبح يخلّص؟ وهل هذا الدم السائل هو أمر مقدّس؟ تقول الآية القرآنية: ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾(1)، على ضوء ذلك، هناك علاقة ما، ما بين التعبير بالذبح والدم، وما بين التقوى.
من هنا نستطيع القول: إنّ الدم مأخوذ من أنّه السبب الذي يحفظ الحياة في الجسد، فإذا سال الدم، كان ذلك تعبيرًا مجازيًّا عن إمكانية الموت، فيصبح الدم تعبيرًا عن حياة تعرّضت لخطر الموت، ولأنّ الإرادة تدخّلت فيها حافظت على سرّ الدم الأصلي، من أجل أن تعنون معنى الحياة.
هناك كلمة للسيدة زينب (ع) في آخر لحظات لقائها مع جسد الإمام الحسين (ع)، في ذاك الوقت، تتقدّم من جسده (ع)، وكان رأسه مقطوعًا، وتقول: (اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان). وبالمناسبة، في الأديان كلمة القربان لها علاقة حميميّة بموضوع الدم كتعبير عن الحياة.
لماذا يقدّم القربان ومن أجل من؟
يُقدّم القربان لحفظ أمر ما، والقربان في نص السيدة زينب هو الإمام الحسين (ع)، هذا الرجل هو أخوها، والذي لم يبق لها سواه، وبالنسبة لمن يلتزم بخطّه هو إمام معصوم يمثّل نفس رسول الله محمد(ص).
من هنا نستنتج أنّ العنصر الأول لبذل الدم؛ هو التقوى، أما العنصر الثاني، فله علاقة بحفظ الدين. هل لمّح القرآن الكريم ولو تلميحًا إلى أنّ دم المستشهد هو حياة أم لا؟
تقول الآية القرآنية: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾(2)، إذًا، في موضوع الدم والشهادة، يوجد مسائل عدّة، منها:
المسألة الأولى: تتعلق بحفظ الدم.
المسألة الثانية: لها علاقة بحفظ الدين.
المسألة الثالثة: تتعلق باستمرار الحياة، بل خلود الحياة.
بالتالي، كيف نستطيع تشكيل هذه العناوين في مفهوم الشهادة التي تعني سفك الدم؟
يمكن القول:
أولًا: إنّ الأصل في سفك الدم، ينبغي أن يكون نابعًا عن تقوى حتى يكون مقدّسًا، والتقوى هي التمسّك بنهج الله، لكن تمسّك نابعٌ عن وعي بالعلاقة مع الله عز وجل، وبأنّ هناك علاقة مع المجتمع تخدم الخط الذي يريده المولى سبحانه وتعالى. إذًا، التقوى مقرونة بالوعي، وبدون تقوى وبدون وعي، لا يمكننا أن نتحدّث عن الشهادة.
ثانيًا: من أهداف هذه الشهادة وهذا الدم؛ حفظ الدين.
ثالثًا: حفظ الأمّة.
رابعًا: حفظ هداية الأفراد.
خامسًا: حفظ قانون استمرار الحياة، بحيث تكون هذه الحياة غير مقطوعة، بل هي خالدة ومستمرة.
إنّ عملية الشهادة غالبًا ما تحصل بعد وقوع حرب وقتال ونزاع، ويمكن القول: إنّ واحدة من أسباب الشهادة الخاصة أنّها تتويج لعملية قتال، وقد جاء في الروايات أن النبي (ص) قد بارك مثل هذا الأمر، فيقول (ص): “فوق كلّ ذي برّ برّ حتى يقتل المرء في سبيل الله، فإذا قتل فليس فوقه برّ”[1]. أن تقدّم نفسك يعني أنّها أغلى ما لديك على مستوى الحياة الدنيا، لذلك هي نهاية البرّ. ويؤكّد هذا المعنى أنّ أصحاب الإمام الحسين (ع) في كربلاء عندما خاطبهم قائلًا: “هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملًا”[2]. فكانت إجابتهم: إن بحثنا عن أعز الناس لدينا، لن نجد سواك، فأنت أعز من أهلنا وأولادنا، وإن بحثنا عن أغلى ما يمكن تقديمه لك، فلن نجد أعز من أرواحنا حتى نقدمها لك، ولو وجدنا يا مولانا لقدّمناه لك.
هل الشهادة هي فقط من أجل الموت؟ هل الإمام الحسين ذهب لا لشيء إلا من أجل أن يموت؟
يقول الإمام الحسين(ع): “إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني”[3]، حينما تنتهي الخيارات ولا يبقى لحفظ استقامة الدين والأمة إلا بذل الدم، فهو مستعدّ حينها إلى أن يبذل دمه. لذلك لا يحوّلنّ أحد فكرة الشهادة وفكرة الدم إلى عبثيّة في طلب الموت، لا بل نريد أن نحقّق منها أمرًا مقدّسًا.
إذًا، المسألة ليست عبثيّة وليست مطلوبة لذاتها، بل هي مطلوبة من أجل أن تضمن أمرًا آخر في سبيل الأمة والجماعة وراية الحق.
من هنا، فإن المطلوب هو بذل الروح والدم للفرد في سبيل الدين، وعندما نقول الدين، على المستوى الإسلامي، ينبغي أن نلتفت لهذه الكلمة جيدًا، فالصلاة مثلًا هي من الدين، لكنها ليست الدين، كذلك الصوم هو من الدين لكنه ليس الدين، لذلك، عندما تصلي وتصوم فأنت تؤدي أمورًا من الدين، وإذا تركتهم فقد تركت واجبًا من واجبات دينك. صحيح، هي أمور علينا أن نلتزم بها، لكن حقيقة الأمر أن الدين عبارة عن بعدين:
البعد الأول: أن الدين عبارة عن علاقة الإنسان/ الفرد بربه، علاقة خاصة وحميميّة جدًّا.
البعد الثاني: أن الدين عبارة عن هذا النظام، عن هذه السنّة الإلهيّة التي تبتغي أن تحفظ كيان الأمّة وكيان الناس، لذلك هناك قوانين بالدين لا تتعلّق بالأفراد المسلمين وحدهم، ولا بالجماعات المسلمة وحدها، هناك قوانين بالدين تنظّم علاقة المسلم حتى مع الوثني والمشرك، والخطاب الديني أعمّ من المسلم وحده.
لذلك، فإنّ الدين، هو هذا النظام الذي يحفظ كيان البشر، والتضحية بالدين، هي تضحية بالعلاقة مع الله، وتضحية بالعلاقة مع الناس والبشر. بالتالي، التضحية بالدين، هي التضحية من أجل حفظ العلاقة مع الله وحفظ الناس، وأن تكون على نهج الهداية التي توصل إلى تحقيق مجتمع الرفاه، ولا أقصد به هذا المجتمع الصناعي اليوم، بل الناس كروح ونظر وحياة.
أحيانًا يأتي تعبير كلمة الشهادة ولا يقصد فيها القتل، ولا يقصد فيها الدم بعد القتل، فيصبح معنى الشهادة بشكل مختلف، وقد ورد في القرآن الكريم أنّ الله يجمع أصحاب الضمائر الحرة ليشهدهم على الناس، في الوقت الذي كنتم تطالبون فيه بمطالب محقّة، وكان الناس يصفّقون لكم، في اللحظة التي ترككم الناس فيها، تعالوا واشهدوا على الإثم الاجتماعي الذي قد فعله الناس من حولكم بحق الحق، وبحقكم أيضًا، هناك نحو من الشهداء، هم أهل الحق، وأهل الحرية الذين يشهدون على غيرهم من أهل الانزلاق إلى مهاوي ترك حقوق الدين وحقوق البشر.
(1) سورة الحج، الآية 37.
(2) سورة آل عمران، الآية 169.
[1] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، الجزء 71، الصفحة 69.
[2] أبو مخنف الأزدي، مقتل الحسين (ع)، الصفحة 109.
[3] الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، دايرة المعارف النجفية، الصفحة 37.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
