أنماط الوصل بين الثنائيات في العلوم الإسلامية الدين والدنيا… المادة والروح

تمهيد
تمثّل الثنائيات المتقابلة والعلاقات بينها جزءًا مهمًّا من العلوم الإسلامية، خاصة نتيجة ما أفرزته من إشكاليات لاحقة، بين الفرق الإسلامية المختلفة، حول تعريفات هذه الثنائيات، وحول مساحة العلاقات والتأثير التي تربط بينها، وهو جدال لم يمثّل مجرد رفاهية ثقافية بين المتكلمين من الفرق الإسلامية، بقدر ما تم في إطار مشروعات كبرى لدى هذه الفرق، التي تشكّلت وتطورت تصوراتها للعالم وشكل المجتمع، وكان تحديد الموقف والرؤية من هذه الثنائيات ضروريًّا كأساس لبناء هذه المشروعات المتصارعة.
الوصل هو الضم والجمع بين شيئين، وخصائص العلاقة بين هذه الثنائيات، مثل: الله – الإنسان، الشرع – العقل، الدين – الدنيا، والمادة – الروح، ونكتفي بثنائيتي: الدين – الدنيا، والمادة – الروح، وذلك من خلال رؤية فلسفية، متداخلة قليلًا مع الرؤية الصوفية.
ثمة علاقات مختلفة بين الثنائيات الأخرى في الشريعة الإسلامية، من حيث تصور المسلمين بفرقهم المختلفة لتعريفاتها، وبالتالي خصائص العلاقة بينها، والتي تشكلت بناءً على صيغ هذه التعريفات، بحيث يمكن القول: إن الإرادة تلتقي بالأوامر الإلهية مع السعي البشري، اتجاه المعرفة بالوحدانية الإلهية، وطبيعة العلاقة بينهم وبين الخالق، ومن هنا ربما يمكن تفسير كلمة الإمام علي بن أبي طالب [ع]: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”[1].
ولا يقتصر الأمر على العلاقة بين الخالق والمخلوق، فقد تناولت النصوص الإسلامية العلاقة بين ثنائيات أخرى، تتميز بالاختلاف في طبيعتها، وحتى في موضوعها، كالعلاقة بين الدين والدنيا، وبين المادة والروح، وهو ما أثار اهتمام فلاسفة المسلمين وعلمائهم في العقيدة والكلام، وهو موضوع بحثنا، ويأتي هذا البحث ليناقش عدة نقاط مهمة، نكتبها في مقدمة وثلاثة مباحث وخاتمة.
المبحث الأول: مبحث تمهيدي… تعريفات.
المبحث الثاني: ثنائية الدين والدنيا.
المبحث الثالث: ثنائية المادة والروح.
المحور الأول
محور تمهيدي… تعريفات
من الضروري وضع تعريفات للمصطلحات المستخدمة، لتوضيح مدلولاتها، والتي سيتم بناءً عليها مناقشة كيفية تعامل المسلمين معها لاحقًا، ومن الملاحظ أن بعض هذه المصطلحات اقتصرت تعريفاتها على مدلولها اللغوي، بينما تمتعت مصطلحات أخرى بمدلول لغوي وعقائدي وفلسفي.
معنى الدين… لغة واصطلاحًا
يحمل الدين تعريفات لغوية وعقائدية لدى المسلمين، ففي التعريف اللغوي يقول ابن منظور: “الديّان من أسماء الله عز وجل، ومعناه الحكم القاضي”، وسُئل بعض السلف عن علي بن أبي طالب [ع] فقال: “كان ديان هذه الأمة بعد نبيها أي قاضيها وحاكمها”[2]… وفي حديث النبي (ص) لعمه أبي طالب، قال قبل الهجرة النبوية: “أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب أي تطيعهم وتخضع لهم”[3]، والدين هو الحساب ومنه قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[4]. وقيل معناه مالك يوم الجزاء، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾[5]؛ أي ذلك يوم الحساب الصحيح، والدين أيضًا يعني الطاعة، فقد دنته ودنت له أي أطعته… وفي كلام علي بن أبي طالب [ع]: “محبة العلماء دين يدان به”[6].
أما مصطلح الدنيا، فهو مثل ما أورده الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي في كتابه “دروس في العقيدة الإسلامية”: “الإيمان بخالق الكون والإنسان، وبالتعاليم والوظائف العملية الملائمة لهذا الإيمان، ومن هنا أطلقت اللادينية على أولئك الذين لا يؤمنون بالخالق إطلاقًا”[7]، بينما يقول الباحث سعود بن عبد العزيز الخلف[8] بأن أكثر المسلمين يرون أن الدين هو: “الشرع الإلهي المتلقي عن طريق الوحي”، وأن كل ما يتخذه الناس ويتعبدون له يصح أن يسمّى دينًا، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين﴾[9].
الدنيا.. المعنى والاصطلاح
يقول ابن منظور: “وسميت الدنيا لدنوها ولأنها دنت، وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القرب إلينا… والدنيا أيضًا اسم لهذه الحياة لبعد الآخرة عنها”[10]… ولا يبدو أن الاعتقاد الإسلامي العام يتعارض مع التعريف اللغوي، لكن ثمة مقارنة تتم دائمًا في نصوص القرآن الكريم، بين الدنيا والآخرة، وهي مقارنة يعتمد عليها علماء الإسلام، فالدنيا محدودة ومؤقتة، بينما الآخرة خالدة، ونعم الدنيا ومسراتها مشوبة ومختلطة بالمتاعب والمشاق، بالرغم من تناقض طبيعة الدنيا مع طبيعة الآخرة، إلا أن علاقة الدنيا بالدين تبدو مختلفة، كما سيأتي.
المادة.. المعنى والاصطلاح
في اللغة: من الأصل مدد وتعني الزيادة المتصلة[11]، وهو معنى يخالف التعريف الفيزيائي، فالتعريف الفيزيائي للمادة هو: “كل ما يشغل حيّزًا في الفراغ، وله كتلة، والكتلة تقاس بمعدل السرعة المتحقّقة عند تسليط قوّة عليها، أما الطاقة فبكل تجريد هي الشغل والشغل، هو الإزاحة التي يقطعها جسم ما عند تسليط قوة عليه، باتجاه الحركة؛ أي إنه تعبير عن حركة الأجسام، فكل جسم عندما يتحرّك يُنتج أو يُحرر شغلًا، وقد تكون الطاقة ظاهرة، وتكون أيضًا كامنة، إن كانت في موضعها بالنسبة لموضع آخر ممنوعة من تحقيق الطاقة بفعل حاجز أو مانع”[12]، وهي تتألف من الجسم، الفراغ، الكتلة، الطاقة والقوة[13].
الروح.. المعنى والاصطلاح
يقول ابن منظور: “والروح الرحمة، وفي الحديث عن أبي هريرة (رض)، قال سمعت رسول الله (ص) يقول: الريح من روح الله تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا من خيرها واستعيذوا بالله من شرها”[14]، وقوله من روح الله؛ أي من رحمة الله، وهي رحمة لقوم وإن كان فيها عذاب لآخرين، وفي التنزيل الحكيم ﴿ولا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ﴾[15]؛ أي من رحمة الله، والجمع أرواح، والروح هي النفس، ويذكّر الروح ويؤنّث، والجمع الأرواح، قال أبو بكر بن الأنباري، الروح والنفس واحد، غير أن الروح مذكّر، والنفس مؤنثة عند العرب، وفي التنزيل القرآني ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾[16]. وتأويل الروح أنه ما به حياة النفس، وقال الزجّاج: جاء في التفسير أن الروح الوحي (أو جبريل)، أو أمر النبوة ويُسمى القرآن روحًا، والروح أيضًا هو الفرح، والروح هو القرآن والروح الأمر، والروح النفس”[17]. وبالرغم من أن التعريفات اللغوية والقرآنية للروح تميزت بالتنوع، فإن التعريف العقائدي والفلسفي الإسلامي قد توقف عند معنى واحد فقط وهو: “الروح هو الذي يعيش به الإنسان”[18].
هذه هي التعريفات للدين والدنيا والمادة والروح، المعنى والاصطلاح، ونراها في المعاني متضاربة متعارضة، ولكن في المعنى الاصطلاحي، نجدها متقاربة رغم تعارض معانيها، وتباين مدلولاتها، ومن ثمّ نبحث من خلال هذا الإطار التعريفي، ما بين الدين والدنيا والمادة والروح، من تقارب وتباعد، وارتباط وانفصال هذه الثنائيات بعضها ببعض وعن بعض…
المحور الثاني
ثنائية الدين والدنيا
تبدو ثنائية الدين والدنيا غريبة بعض الشيء، فالأقرب هي ثنائية الدنيا والآخرة، والتي أشرنا إليها سابقًا، وكونها لا تحمل تناقضًا من الناحية العقائدية، فالدنيا بالنسبة للمسلمين هي ممر للآخرة، وهي مقدمة لها، وحتى الدين، فإن ثنائيته الضدية الحقيقية هي اللادين.
الوصل بين الدين الدنيا
إن أنماط الوصل بين الدين والدنيا، لا ترتبط بالتناقض، وإنما بالدور، فالدين بالمعنى الذي لا يمثل فقط مجرد الخضوع لله عز وجل، وإنما كذلك الاستسلام لشريعته في الدنيا، وبالتالي فإن هذا الخضوع، يتمثل في الالتزام بالتعاليم العقائدية والشرعية، التي أنزلها الله عز وجل في القرآن الكريم، وفسرها وفصلها نبيه محمد (ص) من خلال السنة النبوية، وهنا يبدو الدين (ظاهره وباطنه) كأهم أسباب الوصول الآمن للآخرة.
لكن يبدو أن الرؤية الفلسفية الإسلامية كانت لديها بعض الخصوصية في هذه الجزئية، فرغم اتفاق معظم الفلاسفة المسلمين حول أهمية الشريعة، لكن كون هذه الشريعة مصاغة في إطار العالم المادي، الذي يعاني من النقص والفساد، بحسب تصورهم، يدفعنا لطرح التساؤل التالي: هل تعد تلك الشرائع خيرًا أم شرًّا، فأين الخير وأين الشر، نحاول قراءة بعض الأقوال حول التجربة الصوفية والنظرة الفلسفية.
التجربة الصوفية
المبدأ الأساسي للصوفية هي أن تعاليم الإسلام القرآنية، تدل على إمكانية الوصول إلى الله، من خلال الدين والدنيا معًا، باعتبار أن الدين يطهر النفس في الدنيا، للوصول إلى الجنة في الآخرة، وذلك عن طريق تجربة شخصية ذاتية، من دون الاعتماد على الفلسفة العقلية، والتي تؤدي إلى معرفة الحق المطلق، وهذا يدل أن الصوفي يعتقد بوجود ملكة شخصية، تمكّن الإنسان من توفير المعرفة بغير العقل المنطقي، ويمكن الوصول إلى هذه الحالة باتباع شعائر معينة، لكل طريقة شعائرها، مثل ترديد الكلمات عند النقشبنديين، أو الموسيقى عند المولويين.[19]
ويؤمن الصوفيون أن التجربة الشخصية هي طريقة تصاعدية سُلّمية، تنقل معرفة المريد من مرحلة المعرفة المادية إلى المعرفة النهائية، التي يسمونها “اليقين”، أو “الفناء بالله”، ومن أسس الشعائر الصوفية، أن يتدرب المريد على التغلب على كل الشرور النفسية الدنيوية، مثل الغضب والأنانية والجشع، ومن كل أنواع الحب، ما عدا حب الذات الإلهية، ومن أهم السلوكيات الصوفية هما التخلية (أي تطهير النفس من رذائلها)، والتحلية (أي ملء النفس بالأخلاق الفاضلة)[20]، والتخلية والتحلية تخص الدنيا من أجل الدين، أو الزهد في الدنيا من أجل الآخرة، والوصل الصوفي في علاقة الدين بالدنيا، ترتبط بالوصل بين الشيخ والمريد، بين التلميذ والأستاذ، وهي علاقة متناسقة مع المفهوم الصوفي، والتعبير عن ذلك النمط، وهو ما يمكن تسميته بالعلاقة الدينية/الدنيوية، في التجربة الصوفية.
النمط الفلسفي للوصل بين الدين والدنيا
فلاسفة المسلمين كانوا وما زالوا لهم آراء متعددة، لا تتضاد إلا في المفهوم البشري، فقد تحدثوا عن علاقة الدين الإسلامي نفسه بالفلسفة، ثم الحديث عن الدنيا والدين، باعتبار الثنائيات متواصلة في حقيقتها، وأنه لا صراع، ولكن نمط تواصلي.
ونأخذ بعضًا منها للتدليل على أهمية طرح هذا الموضوع على موائد البحث العلمي، خاصة أبو الوليد بن رشد[21]، الذي يرى أنه لا تعارض بين الدين الإسلامي والفلسفة، ولا بين العقل والنقل، حيث يقول في كتابه “فصل المقال”: “ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدّى إليه البرهان وخالفه ظاهر النص، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل، على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب فيها مؤمن… إنه ما من منطوق به في الشرع، مخالف لما أدّى إليه في البرهان”[22]، كما يرى ابن رشد أيضًا أن الدين والدنيا يحتاجان للعقل، والله خلق للإنسان العقل لا ليلغيه، ولكن ليستخدمه، ومن تلك النقطة ينحاز ابن رشد للعلاقة الطردية بين الدين والدنيا، ويرى أن لديه نوعين من معرفة الحقيقة، الأول معرفة الحقيقة استنادًا على الدين المعتمد على العقيدة، وبالتالي لا يمكن إخضاعها للتمحيص والتدقيق والفهم الشامل، والمعرفة الثانية للحقيقة هي الفلسفة، ولقد قسّم ابن رشد قوى النفس وبنى علاقتها ببعضها، ثم أوجب الارتباط بين العقل الفعل، والعقل الهيولي كارتباط المادة بالصورة، وقال ابن رشد: إن العقل بالملكة يدرك العقل الفعال العام، وإن العكس مستحيل… فالعقل الإنساني هو الذي يدرك العقل العام؛ أي إنه يرفع ذاته إلى العقل العام ويتحد به مع كونه قابلًا للفناء ومع بقائه كذلك، فيتولد منه استعداد جديد يمكنه من إدراك العقل العام، ومثل العقل العام كالنار والعقل الإنساني هشيم يشتعل ويتحول لهبًا بقربه من النار، وهذا هو الاتصال المباشر[23]. وهو نوع من العلاقة بين الدين والدنيا، وليس الدنيا والآخرة، وذلك على مستوى العقيدة ومستوى الإيمان، والعقل العام يدرك ذلك، بصورته الدينية قبل الفلسفية، كما يرى ابن رشد أن المهم بالنسبة للعقيدة هو معرفة أن العالم، له علّة هي الله فيقول: “إن الذي قصده الشرع من معرفة العالم هو أنه مصنوع لله تبارك وتعالى ومخترَع له…”[24]. وليس في ذلك مشكلة عند ابن رشد، وإنما المشكلة تتعلق في تقريره أنّ العالم مصنوعٌ مخترَعٌ، موجودٌ أزليٌ، وأنّ الصانع، أو المخترع أو الموجد، أو العلّة أو الفاعل هو الله الأزلي، وأنّ الزمان أزلي أزلية العالم، لأنه مرتبط جوهريًّا بالمتحرك الذي هو العالم نفسه، وعليه فإن إطلاق اسم الحدوث على العالم يجب أن يدل على أن العالم محدث أزليًّا، كنتيجة لفعل الله المتعلق به، عندها يمكن القول إنـّه محدث منذ الأزل، أو محدث قديم الحدوث”[25]. لأن الفلاسفة يرون كما يرى ابن رشد أن العالم لا تعدم جواهره، لأنه لا يعقل سبب معدم لها، وما لم يكن معدمًا ثم انعدم، أن يكون إرادة القديم سبحانه، يفضي إلى استحالة، لأنه إذا لم يكن مريدًا لعدم وصار مريدًا فقد تغير، وهذا مستحيل لأنه يتنافى مع كماله المطلق وعدم تقدم الحركة والزمان عليه[26]. نظرة فلسفية خالصة، ربما للوصل بين الديني والدنيوي، أقرب منها للوجود والعدم.
الوصل الديني الدنيوي
إن النتيجة النهائية التي يصل إليها كل من أهل التصوف، وابن رشد ومعه ابن سينا والفارابي وغيرهم من الفلاسفة، هي ذات النتيجة التي يتبناها العلماء المسلمون، وهي كون الدنيا ممرًا للآخرة ولا يمكن تجاوزها إلا عبر الالتزام بالشريعة والطاعات الدينية.
ومن الواضح أنها لا تتعارض مع ظاهر النص القرآني، والذي يذم الاستسلام لضغط الشهوات واتباع الهوى، فيقول الله عز وجل في القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[27] ، كما يقول في سورة القصص: ﴿ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾[28]، كما حذّرت آيات أخرى من الاستسلام للمباهج الدنيوية: ﴿وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إِلّا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَلَلدّارُ الآخِرَةُ خَيرٌ لِلَّذينَ يَتَّقونَ أَفَلا تَعقِلونَ﴾[29].
وعلى الرغم من أن بعض المقولات الفلسفية، لا يمكن التأكد من مصداقيتها، بناء على النصوص الدينية من القرآن الكريم، وسنة النبي (ص)، فمن المؤكد أن هؤلاء الفلاسفة المسلمين قد انطلقوا من القاعدة القرآنية في صياغة رؤيتهم، وحاولوا التوفيق بين هذه القاعدة، وبين ما استفادوه من طروحات الفلاسفة اليونانيين.
إن الدين بعقائده وشرائعه، يمثل الأساس الأول للمرور من الدنيا إلى الآخرة، لكن ثمة درجات تلي درجة الالتزام بالشكل التشريعي والعقائدي للدين، تقوم على قدر أكبر من الطاعات والتعلم والمعرفة، تصل بالإنسان درجة من الطهر، تكسب نفسه القوة بتعلقها بقوانين العالم العقلي، كما قال ابن سينا: “يوجد رجال ذوو طبيعة طاهرة، اكتسبت نفوسهم قوة بالطهر وبتعلقها بقوانين العالم العقلي؛ لذا هم ينالون الإلهام ويوحي إليهم العقل المؤثر في سائر الشؤون”، ولا يتفوق على هذه الدرجة من الرجال إلا أصحاب العقل المقدس، والذي يعني به ابن سينا الأنبياء الذين يتلقون الوحي[30].
ولكن الحديث عن الوصل الديني بالدنيوي، من خلال العقل والنقل المقدس، لا يخلو كثيرًا من مخاطر، جعلت الفلاسفة وأصحاب العقول من قبل عوام، وربما من الفقهاء النقليين.
إن ابن رشد كان أكثر صراحة في تناوله لمشكلة قدم العالم، منه في مشكلة النفس، لأن المجاهرة الفلسفية، بأمور النفس لا تخلو من مخاطر كبيرة، لا يقوى على احتمال نتائجها، فاقتصر على ذكر بعض ما قاله الفلاسفة، مع إشارات تعَبّر عن مواقفه إزاء بعض المسائل المتعلقة بها لكون الحديث عنها يكتنفه الغموض، كما جاهر ابن رشد بذلك في كتابه (تهافت التهافت) بقوله: “وقد رأيت أن أقطع ههنا القول في هذه الأشياء والاستغفار من التكلم فيها، ولولا ضرورة طلب الحق مع أهله، وهو كما يقول جالينوس رجلٌ واحدٌ خيرٌ من ألف، والتصدي إلى أن يتكلم فيه مَن ليس من أهله- ويقصد بهم العلماء الراسخون في العلم- ما تكلمت في ذلك من علم الله بحرف”[31].
وقد صدق ابن رشد، فتم استهدافه بحرق كتبه، ولكن الفكرة عمومًا لا تموت، لأنها كالثمرة التي تحيا عندما تجد من يرعاها…
المحور الثالث
ثنائية المادة والروح
شغلت الروح وحقيقتها ذهن الكثير من الفقهاء ورجال الدين والفلاسفة المسلمين، بالرغم من أن القرآن أكد بشكل حاسم أن الروح هي من أمر الله ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾[32] بما ينهي النقاش حولها.
لكن التساؤلات الإنسانية استمرت، خاصة بعد تلقي العرب لكتابات فلاسفة وحكماء الحضارات السابقة على الإسلام، والتي تضمنت رؤيتهم لهذه القضية، وبعدها امتدت التساؤلات، ليس فقط عن طبيعة الروح، ولكن عن مهمتها وعلاقتها بالجسد الإنساني وموقفها بعد فناء هذا الجسد، وامتدت التساؤلات الفلسفية وإجاباتها الاجتهادية إلى علماء الدين الذين تأثروا كثيرًا بالرؤى الفلسفية التي بنيت على أسس عقلية أكثر منها نصوص دينية من القرآن والسنة النبوية.
وتمثل العلاقة بين المادة والروح، تتويجًا للعلاقة بين الثنائيات المتضادة، وطريقة الوصل فيما بينهما، بين الملموس والمحسوس، بين المرئي وغير المرئي أو المجسّد، هي علوم نظرية ولكنها على المستوى الديني، هي ثنائيات تنتهي إلى ضرورة الفهم اليقيني، أو العلم العملي، كما يرى ابن رشد، فقد قال: “وينبغي أن نعلم أن مقصود الشرع، هو تعليم العلم الحق والعمل الحق”[33]، فالعلم الحق والعمل الحق هما اليقين الإسلامي، بالتوفيق بين العلم والعمل الصالح، ولذلك فضّل الذين أوتوا العلم بعدة درجات.
الاختلاف بين الروح والنفس
القرآن الكريم يفيض بالآيات التي تتحدث عن الروح في خلودها وثوابها وعقابها، كما يفيض بالظواهر التي تتفق مع العلم الروحي الحديث، ومثله الأحاديث النبوية الشريفة.
كما جاء في القرآن آيات متعددة عن النفس، وحدث خلط بين المفهومين، ونحاول الفصل فيما بينهم، تمهيدًا للوصل بينهما، ثم علاقة كل مصطلح بالمادة أو الجسم الإنساني.
على كل حال، إذا كان النقاش حول الروح قد تم إغلاقه قرآنيًّا وبصيغة حاسمة، فثمة تساؤل هام يطرح نفسه في هذا الشأن: هل الروح هي النفس، وإذا كانا مختلفين فما العلاقة بينهما؟
الروح في القرآن
وردت الروح مرات عديدة في القرآن الكريم، بمعنيين:
المعنى الأول: هو الروح الأثيرية.
والمعنى الثاني: هو اسم من أسماء جبريل (ع)، يقول تعالى: ﴿يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾[34]، المعنى هنا جبريل رئيس الملائكة (ع)، ويقول تعالى أيضًا: ﴿رفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاق﴾ِ[35]، وهو الروح الأمين جبريل، ويمكن أن تكون الروح الهلامية، أو روح النفس التي تردد الأنفاس في الجسد، وهو تأييد إلهي عبّرت عنه أيضًا سورة المجادلة ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْه﴾[36].
وما يؤكد أن الروح تعني الصلة الأمينة والقربة مع الله تعالى، هو وصف جبريل (ع) بالروح الأمين؛ أي الصلة الأمينة بين الله تعالى وبين البشر. كما في قول الله تعالى: ﴿نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِين﴾[37].
ولما كانت كلمة الروح في القرآن الكريم تعني الصلة والقربى من الله تعالى، فإن إضافة هذه الكلمة لله تعالى أعطتها خصوصية خاصة بها، بأنها لا يعطيها إلا الله تعالى، شأنها بذلك شأن المسائل، التي أُضيفت إلى الله تعالى، مثل: بيت الحرام – عيسى كلمة الله – إذا أراد شيئًا يقول له كن فيكون، ونقرأ هذه الآيات:
﴿إذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ* فَإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾[38]، و ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس﴾[39] و﴿إنمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾[40].
إن الرَّوح من مشتقات الروح. وواضحٌ أن العبارة القرآنية (رَوح الله) تعني مدد الله تعالى وصلته والقربة منه، وفي النص القرآني التالي نرى أن هذه القربى إلى الله تعالى لا ينالها بعد الموت إلا المقربون، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ﴾ [41].
وفرّق القرآن الكريم بين الإرادة كقوة مجردة، تنبع من النفس المجردة عن المادة، وبين المشيئة كقوة مادية ساحتها عالم الوجود المكاني والزماني، نتيجة تنفيذ الإرادة في هذا العالم الحسي، وفي هذا السياق طرح ابن رشد رؤيته حول عالم الوجود، فقال في نقده للمتصوفة: “إنهم اتفقوا على أنه ها هنا، ثلاثة أصناف من الموجودات، طرفان ووسط بين الطرفين، فاتفقوا في تشبيه الطرفين، واختلفوا في الواسطة، فأما الطرف الواحد فهو موجود وُجد من شيء غيره، وعن شيء، أعني عن سبب فاعل، وبين مادة، والزمان متقدم على وجوده….”[42]، وهو يشير ضمنًا إلى المادة والروح، أو النفس الفاعلة في داخلها.
النفس في القرآن
من العلماء من يعد الروح والنفس شيئًا واحدًا، لأن النفس ترد في النصوص الشرعية ويراد بها الروح، أحيانًا تطلق النفس ويراد بها الروح والجسد معًا وهذا من قبيل المجاز وليس الحقيقة، وإن النفس تموت بقوله عز وجل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾[43]، أما الروح فإنها لا تموت لأننا لا ندرك كنهها، وبالتالي فإنها تصعد إلى بارئها، أي أن الروح في عالم مجهول بالنسبة لنا.
إن لكل من الروح والنفس موقعًا ومهمة وبينهما تداخل، فالإنسان عبارة عن جسد مؤلف من خلايا مادية مكونة من ذرات، ولكن وجود الروح بين هذه الذرات يجعلها حية تعيش وتتحرك وتنمو وتتكاثر، وإن النفس هي التي توجه هذا الجسد بما يحمله من روح.
والمادة كما يرى ابن رشد “سابقة على الحادث، فمادة الحادث نفسه متقدمة على الحادث نفسه”[44]، وهو يفرّق ضمنًا بين الروح والنفس، وأن المادة سابقة على الحادث، وهي تفريعات فلسفية، تنتهي عند وجود فارق غير مرئي بين الروح والنفس، وبينهما وبين المادة.
رأي الفقهاء حول العلاقة بين الروح والنفس
نقل ابن كثير في تفسيره عن أبو القاسم السهيلي خلاف العلماء حول الروح وعلاقتها بالنفس قال: “ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس، أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء، سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس، بشرط اتصالها بالبدن، واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة أو أمّارة بالسوء، قال: كما أن الماء هو حياة الشجر، ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسمًا خاصًّا، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار خمرًا، ولا يقال له: “ماء” حينئذ، إلا على سبيل المجاز، وهكذا لا يقال للنفس: “روح” إلا على هذا النحو، وكذلك لا يقال للروح نفس، إلا باعتبار ما تؤول إليه، ويعقب ابن كثير على هذا الرأي لأبي القاسم السهيلي بقوله: “فحاصل ما يقول إن الروح أصل النفس ومادتها، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي، من وجه لا من كل وجه، وهذا معنى حسن، والله أعلم”[45].
رأي الفلاسفة حول العلاقة بين الروح والنفس
كما ذكرنا، نجد في المقابل أن الفلاسفة مثل ابن رشد، قالوا بفصل الروح عن النفس، عبر اعتبار أن لكل منهما عالم خاص، مع وجود علاقة تبعية تربط العالم الروحاني، (روحًا أو نفسًا) بالعالم الجسماني المادي… ومن هذه الرؤية فإن علاقة الروح بالمادة هي علاقة عالمين مختلفين، حتى في طريقة النشأة، أما ما يرتبط بالجسد الإنساني، فهي النفس وليست الروح، لكون الأمر متعلق بالعالم الجسماني، ويعتقد ابن رشد، بأن النفس الإنسانية واحدة بالصورة مصدرها الهيولى[46]، وأما الكثرة التي تلحقها فهي من قبل المواد الموجودة فيها، الأمر الذي أوقعه في اختلاف شديد مع التفسير الذي يرجع النفوس الفردية المتعددة إلى نفس واحدة، يقول ابن رشد: “وأما وضع نفوس من غير هيولى كثيرة بالعدد، فغير معروف من مذهب القوم، لأن سبب الكثرة العددية هي المادة عندهم، وسبب الاتفاق في الكثرة العددية هي الصّورة، وأما أن توجد أشياء كثيرة بالعدد واحدة بالصورة، بغير مادة فمحال، وإنما يفترق الشخص من الشخص من قبل المادة”[47].
أمّا الإمام أبو حامد الغزالي[48]، فهو يتحدث عن النفس والروح ويفرّق بينهما: “فالنفس هي ذلك الجوهر الذي يجمع بين العالمين، وهما عالم العقل أي العالم الإلهي، وعالم الحس أي العالم المادي”[49].
لا يوجد خلاف بين التصور الفلسفي وبين النص القرآني من ناحية ظاهر النص على الأقل، حيث يقول الله عز وجل في قرآنه الكريم: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةَ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً﴾[50]، بما قد يتوافق مع رؤية ابن رشد والفارابي. ولكن الذي يفرق بين النظريتين الفقهية والفلسفية، هي الرؤية البشرية للنص المقدس، وفي الحقيقة لا يوجد ثمّة اختلاف، ذلك لو دققنا في الآيات القرآنية والرؤى الفقهية، ثم الرؤى الفلسفية، ولا ننسى أن فلاسفة المسلمين في الأصل هم فقهاء، وربما كان ذلك رادعًا للتطرف العقلي، في مقابل التطرف النقلي[51].
الوصل بين المادة والروح/النفس
لفلاسفة المسلمين رؤى مختلفة، ولكنها في النهاية تتوافق أو تنسجم فيما بينها، وذلك عند الحديث عن الصلة أو الوصل بين الروح والمادة، فالمادة في جوهرها المقصود في البحث هي الجسد الإنساني، ويتخذون العقل سبيلًا لتأكيد المعرفة بالصلة الحقيقية الثابتة بين الروح والبدن، ولكنهم أيضًا لا يبتعدون كثيرًا عن المفهوم الفقهي النقلي لعلماء الفقه الإسلامي.
نجد هذا عند كثير من فلاسفة الأمة، يقول أبو نصر الفارابي في كتابه (الثمرة المرضية): إن الروح الذي لك، هو من جوهر عالم الأمر، ولا يتعين بإشارة، ولا يتردد بين سكون وحركة، فلذلك تدرك المعلوم الذي فات، والمنتظر الذي هو آت، وتسبح في عالم الملكوت، وتنتقش في خاتم الجبروت”[52]، ولهذه الصفة لا بد أن تكون الروح أو النفس داخل البدن في الحياة الدنيا، فالنفس لا تكون نفسًا إلا بوجود الجسد (المادة)[53]…
ولقد حاول الفارابي التوفيق بين تعريف كل من أفلاطون وأرسطو للنفس، فهو يقول كأفلاطون إن النفس العاقلة هي جوهر الإنسان عند التحقيق، وأنها لا تفنى بفناء البدن، وأن المعرفة الحقة هي سبيل الصعود إلى العالم العلوي.
وأقام ابن رشد البراهين على خلود الروح في كتابه (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة)، وفيه يبيّن كيف أن الإنسان لم يخلق عبثًا، وإنما لكي يدرك الكمال في العلم والفضيلة، وليس إدراك ذلك ممكنًا في هذه الحياة الدنيا لأنها عابرة، فلا مفر من التسليم بوجود حياة أخرى تعود إليها النفس كي تلقى جزاءها، وهذا أول دليل على خلود الإنسان، والدليل الثاني استمده من طبيعة الصلة بين الروح والجسد، وأنها صلة عابرة، إذ ليس الجسم سوى آلة تستخدمها النفس، ووسيلة إلى إدراك ما يحتوي عليه عالم الحس. وهو يرى أن الخلود لجميع النفوس دون أية تفرقة، وسواء أكانت نفوسًا شقية أم سعيدة[54].
وعالم الاجتماع المشهور عبد الرحمن بن خلدون، يقول في المقدمة: “إن الروح تؤثر في الجسم المادي كما تتولد الحرارة بالضحك أو الحزن”[55].
أمّا الصلة (في رأي ابن سينا) بين الروح والمادة (الجسد) هي صلة عَرَضية، فلا يؤدي فناء الجسد المادي إلى فناء الروح.
في رسالته (معرفة النفس الناطقة وأحوالها) يقول ابن سينا: “اعلم أن الجوهر الذي هو الإنسان في الحقيقة لا يفنى بعد الموت، ولا يبلى بعد المفارقة عن البدن، بل هو باق لبقاء خالقه تعالى، وذلك لأن جوهره أقوى من جوهر البدن، لأنه محرك البدن ومديره ومتصرف به، والبدن منفصل عنه تابع له، فإذًا لم يضر مفارقته عن الأبدان وجوده”[56]…
إن الإنسان في نومه يرى الأشياء ويسمعها، بل يدرك الغيب في المنامات الصادقة، بحيث لا يتيسر له في اليقظة، فهذا برهان قاطع على أن جوهر النفس غير محتاج إلى هذا البدن، بل هو يضعف بمقارنة البدن ويقوى بتعطله. فإذا مات البدن وخرب، تخلص جوهر النفس عن جنس البدن[57].
والبدن في النهاية مادة، أو هيولى بصور مختلفة في الكائنات الحية، يعود لأصله الترابي، وتبقى النفس وتبقى الروح تناقشها الآراء الفلسفية، ولكن الآيات القرآنية المقدسة، هي الأصل في التعريف، عند أهل العقل وأهل النقل، عند الصوفية والسلفية، وعند الفلاسفة، قدامى ومحدثين.
خاتمة
إذا كانت الديانات الوثنية قد صاغت العقائد في سياقات أسطورية، متغيرة ومتبدلة حسب الحاجات الآنية، فإن الديانات التوحيدية تميزت بأنها وضعت لها تعريفات وتصورات ثابتة منطلقة من النصوص الإلهية، ورغم أنها تراكمت عبر التطورات التاريخية والمعرفية، إلا أنها في النهاية ظلت ثابتة على قواعدها التي أسسها الأنبياء، وبالتالي تميّزت بكونها محاولات للوصول إلى تفسير وتأويل للنص المقدس، يقترب بدرجة أو بأخرى من غاياته، وهنا كان عامل قوتها الحقيقي، في مقابل جنوح الوثنيات إلى عقلنة أساطيرها تدريجيًّا في محاولة منها للبقاء.
المرونة الإسلامية
يمكن الإشارة إلى قدرة العلوم الإسلامية، على الربط بين الثنائيات، مهما كان موضوعها، في صيغة متضافرة، تلتقي مع المشروع الإسلامي بشكل عام، والذي مكّنه، رغم كل شيء، من رفض التنحي عن حركة الحياة العامة بالنسبة للشعوب الإسلامية.
إن هذه المرونة في التعامل مع الثنائيات عبر توضيح العلاقة بين الدين والدنيا، والمادة والروح، وهما النموذجان، ساعدا الإسلام كدين، وكثقافة على استيعاب التطورات العلمية الجديدة، وحتى استيعاب الأيديولوجيات، التي نشأت كرد فعل لها.
إن الفلاسفة المسلمين، الذين تأثروا بأطروحات الفلاسفة اليونانيين والحكماء الفرس والهنود، نجدهم تمسكوا بضرورة التوفيق بين النص الديني وآراء هؤلاء الأسلاف، وهو ما قلل لحد كبير هوة الخلاف، الذي نتج عن تنوع مناهج التفكير ومصادر المعرفة، بين علماء الدين والفلاسفة المسلمين، بل أنه سمح بحالة من التأثير والتأثر المتبادل بينهما، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن عددًا من هؤلاء الفلاسفة كابن سينا وابن رشد والفارابي كانت دراستهم الفقهية سابقة على الدراسة الفلسفية.
* أستاذ مشارك في قسم العقيدة، كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.
[1] سيد محمد مهدي تنكابني، شرح حديث من عرف نفسه فقد عرف ربه، تحقيق: مهدي مهريزي، موقع https://lib.eshia.ir/. الصفحة 158 – متاح من الرابط: https://lib.eshia.ir/27508/1/158#.
[2] أبو عبد الله بن محمد الأنصاري القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وأحكام الفرقان، المشهور بتفسير القرطبي، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2006، الجزء2، الصفحة 120.
[3] عبد الملك بن هشام، السيرة النبوية، القاهرة، دار الريان للنشر، 1987، الجزء1، الصفحة 213.
[4] سورة الفاتحة، الآية 4.
[5] سورة التوبة، الآية 36، وسورة يوسف، الآية 40، وسورة الروم، الآية 30، وهي جزء من الآيات في السور الثلاث.
[6] تفسير القرطبي، مصدر سابق، تفسير سورة آل عمران، ح4، الصفحة 245.
[7] الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، دروس في العقيدة الإسلامية، بيروت، طبعة دار الرسول الأكرم، الطبعة 8، 2008، الجزء1، الصفحة 21.
[8] سعود عبد العزيز الخلف، دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية، الرياض، طبعة مكتبة أضواء السلف، الطبعة4، 2004، الصفحتان 9، 10.
[9] سورة آل عمران، الآية 85.
[10] محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري، لسان العرب، بيروت – لبنان، دار صادر، 1414 هـ، الجزء 18، الصفحات 297 – 299.
[11] محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري، لسان العرب، المصدر السابق، الجزء 4، الصفحة 403.
[12] سنان أحمد حقي، المادة في الأدب الفلسفي، مقال بموقع الحوار المتمدن، منشور بتاريخ 16 سبتمبر 2012، عدد 3852.. https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=324507.
[13] جواد البشيتي، الفيزياء تنضم إلى الفلسفة في تعريف المادة، مقال بموقع الحوار المتمدن، منشور بتاريخ 16 ديسمبر 2006، عدد 1766 متاح من الرابط: https://www.ahewar.org/debat/show
[14] أخرجه أبو داوود (الصفحة5097)، والنسائي في السنن الكبرى (الصفحة 10699)، وأحمد في المسند، وهي نسخ موجودة في مكتبة النور الإلكترونية (الصفحة 9288)، هذا وقد اعتمدنا الأحاديث من الصحاح الستة المشهورة.
[15] سورة يوسف، الآية 87.
[16] سورة الإسراء، الآية 85.
[17] ابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحتان 289، 290.
[18] أحمد صبري السيد علي، الدين وإشكالية الشر عند إخوان الصفا، دراسة بمجلة المحجة، بيروت – لبنان، منشور بتاريخ 21 يناير 2021، الصفحة 43.
[19] د. عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: من البداية حتى نهاية القرن الثاني، الكويت، وكالة المطبوعات، الطبعة 2، 1978، الصفحة 19.
[20] الإمام أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال، القاهرة، مكتبة البابي الحلبي، 1965، الصفحة32.
[21] هو القاضي الأندلسي أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، واشتهر في الأدبيات العربية بالوليد بن رشد، أو ابن رشد، أو ابن رشد الحفيد، يراجع اسمه على مؤلفاته المتعددة مثل فصل المقال، مناهج الأدلة، كتاب الكليات، وغيرها من الكتب، وأيضًا ننظر فيما كُتب عنه..
[22] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق: د. محمد عمارة، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 3، 1999، الصفحة 33.
[23] محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012، الصفحة 76.
[24] ابن رشد، مناهج الأدلة في عقائد الملة، تقديم وتحقيق: د. محمود قاسم، القاهرة، مطبعة مخيمر، 1955، الصفحة 194.
[25] ابن رشد، تفسير ما بعد الطبيعة، بيروت، الناشر: موريس بويج، 1938، الصفحة 149.
[26] محمد عاطف العراقي، النـزعة العقلية في فلسفة ابن رشد، القاهرة، دار المعارف، 1968، الصفحة 123.
[27] سورة آل عمران، الآية 14.
[28] سورة القصص، الآية 50.
[29] سورة الأنعام، الآية 32.
[30] محمد لطفي جمعة، تاريخ فلاسفة الإسلام، مصدر سابق، الصفحة 79.
[31] أبو الوليد بن رشد، تهافت التهافت، القسم الثاني، تحقيق: د.سليمان دنيا، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 3، 1981، الصفحة 833.
[32] سورة الإسراء، الآية 85.
[33] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، تحقيق: د. محمد عمارة، مصدر سابق، الصفحة 54.
[34] سورة النحل، الآية 12.
[35] سورة غافر، الآية 15.
[36] سورة المجادلة، الآية 22.
[37] سورة الشعراء، الآيتان 193 و 194.
[38] سورة الحجر، الآيتان 28 و29.
[39] سورة البقرة، الآية 87.
[40] سورة النساء، الآية 171.
[41] سورة الواقعة، الآية 88.
[42] أبو الوليد بن رشد، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، مصدر سابق، الصفحة 41.
[43] سورة آل عمران، الآية 185.
[44] أبو الوليد بن رشد، تهافت التهافت، القسم الأول، تحقيق: د. سليمان دنيا، القاهرة، دار المعارف، الطبعة1، 1964، الصفحة 185.
[45] إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، الرياض، طبعة دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة2، 1999، الجزء 5، الصفحة 116.
[46] كلمة هيولى كلمة يونانية الأصل تعني المادة… وهي موجودة في كل الكائنات ولكنها تختلف في الصورة، فالصورة هي المبدأ الذي يعين الهيولى ويعطه ماهية خاصة.. يلاحظ المصدر السابق، تهافت التهافت، القسم الأول.
[47] ابن رشد، تهافت التهافت، القسم الأول، مصدر سابق، الصفحتان 88، 89.
[48] نعتبر الإمام أبا حامد الغزالي من الفقهاء والفلاسفة والمتصوفة في آن واحد، رغم شدة اتهاماته للوليد بن رشد في كتابه (تهافت الفلاسفة)، ولكن رأينا له رؤية فلسفية جعلناها في رؤية الفلاسفة.
[49] علي أبو الخير، بين النور والنار… كلمات في الثورة والهوية، القاهرة، دار سلسلة كتابات، 2018، الصفحة 164.
[50] سورة الفجر، الآيتان 27 و28.
[51] علي أبو الخير، النقل المفروض والعقل المرفوض، بيروت، دار المحجة البيضاء، 2022، الصفحة 203.
[52] الدكتور رؤوف عبيد، مطول الإنسان روح لا جسد – الروح عند فلاسفة الإسلام، عرض محمود عباس مسعود، القاهرة، دار الفكر العربي، الطبعة 2، 1966. بتصرف من صفحات الكتاب كما عرضه محمود عباس مسعود.
[53] أبو نصر الفارابي، الثمرة المرضية في بعض الرسائل الفارابية، مكتبة نور الإلكترونية، بتصرف من صفحات الكتاب. ويلاحظ أيضًا، د. رؤوف عبيد، مطول الإنسان روح لا جسد، مصدر سابق.
[54] أبو الوليد بن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وشرح: د. محمد عابد الجابري، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، الصفحة 171.
[55] عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، كتاب المقدمة، أو تحت اسم العبر دار وديوان المبتدأ والخبر، تحقيق: المستشرق الفرنسي أ.م.كاترمير، بيروت، مكتبة لبنان، 1992، الصفحة 77 وما بعدها. ببعض تصرف.
[56] الحسين بن عبد الله المشهور بابن سينا، معرفة النفس الناطقة وأحوالها، مكتبة هنداوي الإلكترونية، 2017، الصفحة 9 و 10.
[57] ابن سينا، معرفة النفس الناطقة وأحوالها، مصدر سابق، الصفحات 9 – 13.
المقالات المرتبطة
فلسفة الترك
أن تترك شيئًا ما، هو أن تعلن أنّك بحاجة إليه، لأنّ مدار الترك يشي بالاحتياج، فلو لم تكن بحاجة إليه لما تركته، لأنّ الترك بحدّ ذاته يستبطن الحاجة إلى شيء ما، والإرادة الذاتية على الاستغناء عنه ولو لفترة وجيزة. يعلن الترك في مدياته أن للإنسان إرادة على مقاومة الحاجة
التراث ورؤية معاصرة للسبع المثاني والقرآن العظيم
دائمًا ما نكرر أن القرآن العظيم كتاب هدى ورحمة ودين إلهي، وليس كتاب علوم أو فلسفات، وليس أيضًا كتاب كونيات
دور جهاد التبيين في إعادة تشكيل المجتمع
أطلق الإمام الخامنئي مفهوم جهاد التبيين كعنوان للمواجهة مع الحروب التي تستهدف البعد المعنوي والمعرفي، ويتحقق هذا الجهاد عبر تصحيح المعرفة والإدراك بعد التعرض للتشوه والالتباس بفعل الهجوم المعرفي الإعلامي