الشورى وولاية الفقيه في فكر الإمام الخميني

عندما نؤكّد على أن ولاية الفقيه لا تتعارض مع الشورى، نقول إنها عين الشورى، بل هي لب الشورى، وبداية نتحدث عن الشورى لنتعرف عليها، ثمّ عن علاقتها وارتباطاتها بولاية الفقيه.

إن البحث في أدلة الشورى تارة يجري في أصل مشروعيتها، وأخرى في كيفية إجرائها ومن له حق ممارستها[1]، وقد كفانا بعض المحقّقين مؤونة البحث في الأمر الأول بما أورده من أدلة كثيرة على ذلك مما يحصل معه القطع بتمامية بعض الأدلة جزمًا؛ دلالة وورودًا[2]. وإنما ينبغي البحث في الأمر الثاني، لكنّا مع ذلك سنختار من بين مجموع الأدلة المساقة لذلك آية الشورى لحصول الغرض بها، ونبحث فيها عن كلا الجهتين: فقد جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى قوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[3]، ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾[4]، ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[5].

وفقرة الاستدلال الواردة في الآيات الكريمة هي قوله تعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾[6]، فهذه الفقرة يمكن الاستدلال بها على شرعية الانتخاب من جهة، وإلزامية النتيجة للجميع من جهة أخرى، لكن لا بدّ من بيان بعض المقدّمات المرتبطة بالدليل قبل الشروع في بيان الاستدلال فنقول: ذكرت للأمر في اللغة معان عديدة، منها: الطلب، والشيء، والحادثة[7]، والشأن[8]، والحال[9].

وقد أرجع بعض الأصوليين جميع هذه المعاني إلى أصل واحد؛ تارة بمعنى الواقعة والحادثة المقيدتين بالخطورة والأهمية، أو بدونهما[10]، وأخرى بمعنى الفعل والحدث[11]. في حين ذهب بعض آخر إلى رجوعها إلى أصلين، هما: الطلب والشيء غير العلم[12].

وأما أهل اللغة فربما جعلوا أصولها خمسة، بعضها الأصلان المتقدّمان، لكن المصدر في الأصول الثلاثة الباقية مفتوح العين[13]،  والمهم أن جميعها يحمل معنى الأمر.

وبهذا النحو ينبغي أن تحمل لفظة “الأمر” الواردة في الآيات والروايات، والتي منها: قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الأمْرَ كُلَّهُ للهِ﴾[14]، و﴿يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا﴾[15]، و﴿لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ﴾[16]،  و﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ﴾[17]، و﴿بَلْ للهِ الأمْرُ جَمِيعاً﴾[18].

وقول الإمام علي (ع): “فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة”[19]، والإمام الحسن (ع) في كتابه إلى معاوية: “ولّاني المسلمون الأمر بعده”[20]، والإمام الرضا (ع) بإسناده عن النبي (ص) أنه قال: “من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة ويغصب الأمة أمرها…”[21]، إلى غير ذلك.

معنى الشورى. 

الشورى مشتقة من مادة “شور” التي ذكرت فيها عدة معان، منها: الإبداء والعرض[22]، والأخذ والجني[23]، والإشارة والإيماء[24]، والإعانة[25]، وحسن الهيئة[26]، وبدء السوءة[27]، وغيرها.

محتوى آية الشورى.  

تفرض آية الشورى للمؤمنين ـ الذين يعود عليهم ضمير الإضافة في “أمرهم” ـ أمورًا تتعلّق بهم خاصة، ولا تتعلّق بالله سبحانه؛ فإن لله سبحانه وتعالى في خلق الكون والإنسان أغراضًا ومقاصد؛ حيث قال: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ[28]، وقد كشف عن هذه الأغراض نظريًّا بتعاليمه، وترجمها إلى قوانين عملية بأحكامه وتشريعاته، وبذلك حدد الهدف ورسم الطريق إليه.

وإذ أتمّ الله تشريعاته وأحكامه، حيث قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي[29]، فقد أتمّ أغراضه، وأتى على مقاصده وأهدافه، فما بقي مما لم يشرّعه لا يدخل في غرضه ولا يهمه، وإن كان شي‏ء من ذلك يهم أحدًا أو شخصًا فإنّما يهم الناس ويرتبط بهم، فالأمور على هذا على قسمين: أمور ترتبط بالله سبحانه فقد شرع لها الأحكام المناسبة من وجوب وحرمة واستحباب وكراهة وإباحة، ونجاسة وطهارة، وصحة وبطلان، وأمور لا ترتبط به ولا تدخل في حيّز اهتماماته، بل ترتبط بمن أهمته من الناس، ومن ذلك ما يكون أثره عائدًا على فرد واحد فهو أمر شخصي، ومنه ما يكون أثره عائدًا على جماعة من الناس فهو أمر جماعي.

وقد ترك الله سبحانه القرار في الأمور الشخصية لأصحابها ونهى عن التعرض إليهم فيها بحكم قاعدة السلطنة، وأما الأمور الجماعية وهي ما عبّر عنه الله بـ “أمرهم”، فمع أنه سبحانه لم يشأ التدخل في مضمونه إيجابًا ولا نفيًا ولا وضعًا أو رفعًا، لكنه تدخّل في تحديد طريق العمل به منعًا للاختلاف، وحيلولة من الفرقة والنزاع ما يفوت به الغرض من بعث الأنبياء والرسل (ع).

والاستدلال بهذه الآية يكون تارة على حكم العمل بالشورى، وأخرى على حكم قرارها؛ فإن القرار الصادر منها ربما لا يكون إلزاميًّا لمن لم يصوت لصالحه، وإن أثبتنا مشروعية عمل الشورى. فالكلام يقع في جهتين:

الجهة الأولى: حكم العمل بالشورى: يمكن تقريب حكم العمل بالشورى من الآية بعدة تقريبات، أهمها:

التقريب الأول: إن الله سبحانه عدّ في الآية الشريفة العمل بمبدأ الشورى فيما يرتبط بالجماعة من صفات الذين آمنوا، ومقتضى ذلك أن كل قرار يرتبط بالجماعة ولا يقوم على أساس الشورى لا يكون من صفات المؤمنين، ويكون باطلًا، ولازم ذلك لزوم العمل بالشورى على المؤمنين لدى تصدّيهم لاتخاذ أي قرار يرتبط بالجماعة، وعدم مشروعية الاستبداد فيه الذي هو معنى آخر عن عدم ترتب أثر شرعي عليه.

وهذا التقريب مناقش فيه:

أولًا: بأن انتفاء الوصف لا يقتضي انتفاء الموصوف؛ لأن إثبات شيء لشيء لا يعني نفي ما عداه عنده، نعم لو علم دخالة الوصف ـ وهو العمل بمبدأ الشورى في الاتصاف بالإيمان وعدمه ـ أمكن انتزاع لزوم العمل به، لكن إثبات ذلك ممتنع.

وثانيًا: أن الضمير المضاف إليه لفظ الأمر لا يعود على المؤمنين وإن ذهب جملة من الفقهاء والمفسّرين إلى ذلك[30]. بل مرجعه الاسم الموصول المستعمل في جمع العقلاء، ولفظ “آمنوا” التي أُرجع إليها الضمير في “أمرهم” جملة صلة الموصول الأول، فلا خصوصية لها ليعود الضمير عليها، بل عطف العبارات الأخرى من الأسماء الموصولة وصلتها على مدخول شبه الجملة ـ أعني الاسم الموصول الأول وصلته ـ يقتضي انقطاعه عن صفة الإيمان، فكأن الله سبحانه وتعالى قال: وما عند الله خير للمؤمنين والمتوكلين على ربهم، وكذا المجتنبين كبائر الإثم والفواحش والغافرين عند الغضب، وكذا المستجيبين لربهم والمقيمين الصلاة والعاملين بالشورى في الأمر المرتبط بهم والمنفقين مما رزقناهم.

التقريب الثاني: إن الصفة المذكورة وردت في الآية ضمن سياق الحديث عن الصفات الواجب على الناس الاتصاف بها، فتكون واجبة مراعاة لوحدة السياق.

وفيه:

أولًا: أن من جملة الصفات الواردة في ضمن الآية ما يقطع بعدم وجوب التحلي به، كقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾[31]؛ فإن غفران الذنب للمذنب ليس واجبًا قطعًا، وإنما هو مستحب، فيكون السياق دالًّا على مطلوبية هذه الصفات لا أكثر، ومعه لا يمكن الاستدلال بلزوم العمل بالشورى.

وثانيًا: أن أصالة وحدة السياق مختلف فيها بين الأعلام؛ إذ منهم من لا يرى ثبوتها، فالاستدلال ممنوع كبرى وصغرى.

التقريب الثالث: تقدّم أن أمور الناس على قسمين: أحدهما الأمور المختصة بالأشخاص، فذلك مما ترك أمره إليهم بمقتضى قاعدة السلطنة، وثانيهما الأمور المرتبطة بالجماعة، فالتصرف فيها مما يحتاج إلى دليل.

وقد أقرّ الله سبحانه وتعالى ـ بمقتضى آية الشورى ـ العمل بهذا المبدأ في هذا القسم، فهو بمثابة حكم وضعي بمشروعية العمل المذكور، ومقتضى الإطلاق عدم عدل آخر، كما لا دليل منفصل على جواز غير الشورى أيضًا، فثبت من كل ذلك لزوم العمل بالمبدأ المذكور فيما يخص أمور الجماعة.

وقد يناقش هذا الدليل:

أولًا: بكفاية إجراء أصل البراءة الشرعية في القرارات المتخذة بناء على مسلك حق الطاعة، والعقلية على مسلك قبح العقاب بلا بيان خصوصًا فيما لا ينافي ذلك حقًّا أو حكمًا للآخرين.

وفيه: أن الأصل مقطوع بقاعدة السلطنة؛ فإنها وإن طبقت عادة فيما يتعلق بالأفراد من أمور ربما يتوهم إرادة العموم الاستغراقي بخصوصه بصيغة الجمع الوارد فيها لا العموم المجموعي وحده ولا هو العموم الاستغراقي؛ لاستلزامه استعمال الصيغة في أكثر من معنى واحد، لكن تطبيقها كذلك ليس من هذا الباب، بل لا خصوصية لصيغة الجمع في ذاتها، وإنما لرجوع القاعدة إلى نكتة مركوزة لدى العقلاء؛ هي أن المالك لشيء مسلّط عليه.

وثانيًا: بأن شوروية الأمر الوارد في الآية ليس حكمًا وضعيًّا؛ إما لأن الحكم الوضعي اعتبار لوضع وفقرة الاستدلال ليست كذلك، أو لأن الله سبحانه في مقام الوصف لا التشريع.

والجواب: أنه وإن فرض عدم كون شوروية الأمر حكمًا وضعيًّا، لكن امتداح هذه الصفة من قبل الله سبحانه لا يعطيها الاعتبار والمشروعية فحسب، بل يجعل التحلّي بها أمرًا مستحبًّا.

التقريب الرابع: إن الآيات الكريمة رتّبت الثواب الأخروي على من توفّرت لديهم الصفات المذكورة، ومن الواضح أن الثواب الأخروي لا يترتب على كل صفة وحدها، بل على مجموع الصفات المذكورة؛ لعدم كفاية الإيمان وحده لترتبه، ولا التوكّل كذلك؛ وحينئذ فلو كانت الصفة المذكورة غير واجبة التحصيل والعمل لما توقف ترتّب الثواب عليها.

ووجود بعض الصفات غير الواجبة كذلك ـ كغفران الذنب ـ لا يضر بالاستدلال، فليكن تخصيصًا.

وهكذا يثبت لزوم العمل بمبدأ الشورى.

لكن فيه: أنه من غير الواضح استفادة توقف الثواب الأخروي على الاشتمال على هذه الصفات، بل لا إشعار في الآية بالتوقف، وإنما هي بصدد بيان فضل الثواب الأخروي على متاع الدنيا مع ذكر متعلقهما لا على سبيل الحصر وفي مقام البيان.

فتحصّل من كل ما تقدّم: عدم تمامية الدليل على وجوب العمل بالشورى فيما يتعلق بجماعة الناس، ومعنى ذلك أن الأمة غير ملزمة شرعًا باتباع طريق الشورى فيما يتعلّق بها، فيمكن أن تقر تصدّي المتصدّي لذلك، أو ما اتفق عليه أهل الحل والعقد أو أية جماعة أخرى، لكنه مع ذلك يستحب لها أن تتبع هذا المبدأ في مثل هذه الأمور، ويكون هذا حكمًا أوليًّا مجعولًا من قبل الشارع يقضي بجعل هذه الأمور بيد الأمة.

ولنا أن نقول: بأن ما يناسب شأن الشارع بما هو شارع التدخّل فيما هو داخل في حيّز اهتماماته مما أبان عنه بتشريعاته دون ما خرج عن ذلك مما يرتبط بالناس.

فالاختلاف بين القائلين بالولاية المطلقة مع النصب، وبين القائلين بالشورى معه هو في صغرى كون هذه الأمور مما تخص الشارع أم لا كي ينصب من ينوب عنه فيها أم لا؟

الجهة الثانية: وأما حكم قرار الشورى فيمكن بيانه من عدة وجوه:

الوجه الأول: أن يقال بأن الأمر في الآية الشريفة وارد بمعنى الطلب وظاهر في الطلب الوجوبي، لكن لما كان الإخبار عنه بأنه شورى بينهم لا يستقيم؛ للتباين وعدم التصادق عرفًا، فلا بدّ من حمل الأمر في الآية على الأمر الادعائي لا الحقيقي، فالشارع ينزل الشورى بين الناس منزلة الأمر العرفي الظاهر في الوجوب، وبه يكون قرار الشورى لازمًا للغير ولو كان مخالفًا.

لكن قد يناقش هذا الوجه: بأن حمله على هذا المعنى خلاف أصالة الحقيقة، نعم، لو كانت هناك قرينة على إرادة هذا المعنى لم يكن في ذلك ضير.

الوجه الثاني: أن يقال بأن اعتبار الشارع العمل بمبدأ الشورى فيما يتعلق بالجماعة بأحد التقريبات الأربعة المتقدّمة في البحث السابق إمضاء لقرارها بما يستلزم ذلك من موافقة ومخالفة وامتناع؛ فإن إطباق أعضاء الشورى على رأي واحد لا يقع إلا نادرًا، فمثله لا يصرف إليه الاعتبار المذكور.

الوجه الثالث: تتميم الأدلة المتمسّك بها في البحث السابق بالتمسّك بآية ولاية المؤمنين بعضهم على بعض، فيقال: إن الشارع جوّز بموجب الأدلة المتقدّمة عمل الشورى، فما يختاره أكثر أعضاء الشورى يكون بموجب ولاية المؤمنين على بعضهم ملزمًا للبعض الآخر المخالف أو الممتنع، وإلى هذا الرأي ذهب السيد الشهيد محمد باقر الصدر[32]، لكن هذا الوجه يواجه مشكلة من ناحية تطبيق آية الولاية على خصوص الأكثرية دون الأقلية أو المساوية؛ فإنّ الجميع مما يصدّق عليهم أنهم مؤمنون، اللهمّ إلا أن تحل بإضافة أصل عقلي أو عقلائي ممضي شرعًا يقضي بإخضاع رأي الأقلية لها، لكنه ـ بناء على هذا ـ هو المتمّم لا الآية المذكورة.

والخلاصة أن الشورى طريق شرعي لإقرار كل ما يرتبط بالجماعة من أمور، وأن قرارها ملزم للجميع.

حدود تطبيق مبدأ الشورى مع مبدأ ولاية الفقيه.

انتهينا إلى إثبات أن الانتخاب أمر مكمّل للنصب على أغلب المباني الفقهية القائلة بولاية الفقيه، وأن الانتخاب طريق شرعي لاتخاذ القرارات فيما يكون من شؤون الناس، وأن قراراته ملزمة لجميع الأفراد؛ موافقة أو مخالفة أو ممتنعة… بقي الكلام في بيان حدود تطبيق مبدأ الشورى، فما هي حدود الأمور التي يجري تطبيق مبدأ الشورى بشأنها؟

من الواضح أن موضوع آية الشورى هو الأمور المتعلّقة بجماعة الناس، فلا تقييد فيه إلا من هذه الجهة، وقد بينّا أن كل أمر يتعلق بالله سبحانه فقد بيّنه بمقتضى آية إكمال الدين وإتمام النعمة، وما عداه فهو من أمور الناس. هذا من حيث الموضوع.

وأما من حيث الحكم فلا يوجد تقييد أيضًا؛ فكل ما كان من أمور الناس فهو شورى بينهم، ولما كانت جماعة الناس المضاف إليها لفظ الأمر عنوانًا كليًّا مشكّكًا يصدق على أفراده بالتفاوت، فإن حدود هذه الجماعة تتسع وتضيق بحسب من يرتبط بهم الأمر، فقد تكون الجماعة كل الشعب إذا كان الأمر مرتبطًا به كما في إقرار نظام الحكم وتعيين الحاكم العام، وقد تكون أبناء المدينة كما إذا كان الأمر انتخاب رئيس بلديتها، كذلك قد تكون طلاب المدرسة، بل الفصل كما إذا كان الأمر انتخاب ممثلين عنهم، وهكذا يكون مبدأ الشورى جاريًا على جميع المستويات.

ربما  قد يحد من جريانه بعض القوانين المشرعة في مستوى أعلى بتطبيق مبدأ الشورى، أو وفقًا للصلاحيات المخولة لتلك الجهة استنادًا إلى هذا المبدأ.

فقد يتخلف في بعض الحالات عدد ممن لهم حق المشاركة في التصويت عن الحضور فلا يشاركون في الانتخاب، وقد يكون التخلّف بدرجة عالية لا يمكن معها القول بتحقق أكثرية في أعضاء الشورى، فكيف يمكن تخريج ذلك فقهيًّا؟ والجواب عن هذا الإشكال يحتاج إلى تقصّي لحالات التخلّف، والتعرّف على أسبابها، فمن حالات التخلّف ما يؤدّي إلى عدم اكتمال عدد الحضور النصاب القانوني المقر في قانون سابق مصوت عليه من قبل جهة أعلى هي المانحة للشورى التي حصل التخلّف فيها، فمن الواضح عدم صحة التصويت المذكور؛ لمغايرته للقوانين المصوت عليها، فهذا الفرض خارج قانونًا.

وإنّما تبقى الحالات التي لم يفترض فيها نصاب معين، أو التي فرض لها وبلغ عدد الحضور النصاب المعتبر، والتخلّف في هذه الحالات إمّا أن ينشأ من اعتراض وعدم رضا على قانون الانتخاب، أو على كيفية تنفيذه، أو من عدم اهتمام ولا مبالاة.

فأما القانون المعترض عليه فإن كان على حكم شرعي لم يكن لاعتراضهم مورد؛ لأنه ليس من الأمور المرتبطة بهم كي يجري التصويت لصالحها أو ضدها، وإنّما من أمور الله الخارجة تخصصًا، وإن كان تشريعًا شرّعته الأمة أو الجهة المعتبرة قانونًا فيمكن تقديم اعتراض المعترضين إليها، واتخاذ موقف بشأنه رفعًا أو إقرارًا أو تغييرًا.

وأمّا كيفية تنفيذ القانون فإن مرده إلى الجانب العملي ولا علاقة له بالجانب النظري؛ لأن الفرض مبني على صحة تطبيقه.

وأما لو كان ناشئًا من عدم الاهتمام واللامبالاة فهو عبارة عن رضا وقبول للنتيجة أيًّا كانت، فلا يؤثر الامتناع عن التصويت على نتيجته سلبًا ولا إيجابًا.

تلك هي الشورى، وهذه هي علاقتها مع ولاية الفقيه، وهي أفضل كثيرًا من الديمقراطية بمفهومها الغربي الفاشي الذي لا يتورع عن إقرار قوانين إباحة الشذوذ مثلًا، وإباحتها استعمار الشعوب باسم التقدم والتمدين، ونهب خيرات الأمم باسم الديمقراطية، فالولي الفقيه هنا حارس للدين دون أن يرغم أحدًا على الدخول في الملكوت الأرضي، ودون أن يجبر أحدًا عن الدخول في الإسلام، وهو مع كل ما يحفظ الكرامة الإنسانية بكل أبعادها.

الختام

الشورى وولاية الفقيه صنوان متداخلان مع بعضهما البعض، والتطبيق العملي في الجمهورية الإسلامية أثبت أن الولي الفقيه نائب عن المعصوم، لذلك فهو ضد الظلم، ومع الشورى، ضد الطغيان ومع التسامح، مع العدل دومًا، ولذلك لا خوف على نظرية ولاية الفقيه من النقد، أما استنجاد الخصوم بأي إخفاق على المستوى الواقعي فهذا كذلك لا يمكن أن يشكل خطرًا على النظرية ما دامت متماسكة فكريًّا وقوية على المستوى النظري والعلمي، وكما قلنا سابقًا فللإخفاق معطياته الخاصة.

وأي أزمة اقتصادية مثلًا يمر بها الاقتصاد الإيراني لن تكون بسبب نظرية ولاية الفقيه، وإنّما بسبب الحصار الدولي والحرب الاقتصادية الموجّهة ضد جمهورية شعارها “لا غربية ولا شرقية”، ونحن نعلم أن معظم الدول الإسلامية تعيش أزمات اقتصادية خانقة، وهذه الدول تتبنّى أنظمة سياسية مختلفة لا علاقة لها بنظرية ولاية الفقيه من قريب أو بعيد، هذا مثال نضربه ونحن نشاهد الإعلام الغربي يتصيد الإخفاقات والعثرات ليدّعي بأن الإسلام ونظرياته في جميع الميادين لا تصلح للحياة المعاصرة، ولا تمكّن المجتمعات الإسلامية من التقدّم الذي تنشده[33].

إذن، لا بدّ، أثناء أي محاولة للتأصيل العلمي الحقيقي، من أن يتم الاهتمام بجميع الأسئلة والاعتراضات والإجابة عليها ومناقشتها لإثبات جديتها أو تهافتها، وللكشف كذلك عن خلفياتها الأيديولوجية إن وجدت.

يبقى الرد العلمي المعزّز بالأدلة والبراهين هو السبيل الوحيد للدفاع عن أية حقيقة نسبية أو مطلقة.

وأخيرًا، نرى أن الكل مطالب بالبحث والتأصيل في زمن الغيبة، ليس فقط التأصيل في المجال السياسي، ولكن في عدد من المجالات الغامضة والتي تحتاج إلى المزيد من التفصيل والمعالجة مثل نظريات الإسلام في مجال الاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة والفنون. ويجب أن يقوم بذلك الفقهاء وذوو الاختصاص، لأنهم أقدر الناس على ذلك.

ولأن كتابات المثقّفين والمفكّرين، كما نعلم، غارقة في العموميات والعناوين الكبرى، فالإسلام هو الحل، لكن كيف؟ وهذا الكيف يجب أن يستنبط من مصادر الإسلام المعتبرة، حتى يمكن تقديمه للناس باعتباره إنتاجًا إسلاميًّا يمكن الاطمئنان إلى شرعيته والأخذ به.

إن الزمن هو فعلًا زمن الغيبة، فلا وجود للرسول (ص)، ولا للإمام المعصوم (ع)، والبحث مستمر في غير بلد عن الولي والحاكم الكفؤ والعادل، والاستبداد ينشر ظلاله السوداء القاتمة في مجمل مناطق العالم الإسلامي، ولا أحد يعرف طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة الآن، فمنها ما يدّعي الديمقراطية، ومنها ما يدعي أنه يحكم بالقرآن والسنة، ومنها ما يدّعي الجمع بين نظريات متناقضة، لكن جميع هذه الدول تحتل رأس القائمة في جميع تقارير المنظّمات الحقوقية العالمية حول انتهاك حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلخ…

إنّ المجتمعات الإسلامية تنتظر المخلص، لأن الإيمان بالإمام المهدي المنتظر(عج) عقيدة إسلامية عامة لا تخص الشيعة الإمامية وحدهم، لكن الانتظار قد يطول سنوات أو عقودًا من الزمن، لذلك فالعقل والشريعة والواقع كذلك، كل هذه المعطيات دفعت بالمجتمع الشيعي الإمامي، وعلى رأسه فقهاؤه، لجعل هذا الانتصار إيجابيًّا عن طريق التفكير في إقامة الدولة الإسلامية والعمل من أجل التمهيد لهذا الظهور المرتقب، وهذا ما تنشده وتحاول القيام به نظرية ولاية الفقيه على المستوى الواقعي الآن…

ليس ذلك فقط، فالثورات التي اجتاحت العالم العربي تتعرّض للسرقات من قبل العالم الاستكباري، والعالم الاستكباري لا يريد أن يجد أمامه قوى إسلامية مقاومة تتعامل مع الجمهورية الإسلامية، لأنها ضد أي وحدة إسلامية، وضد أي رجل دين رسالي يقوم بنشر العدل وإقامة المساواة والتحلي بالضمير، وهي صفات الولي الفقيه، التي تمثل روح الإسلام، كما أرساها الإمام الخميني ويحرسها اليوم الإمام الخامنئي.

[1] الشيخ قاسم الإبراهيمي، الشورى وولاية الفقيه، نسخة إلكترونية.

[2]  مصدر نفسه.

[3] سورة الشورى، الآية 36.

[4] سورة الشورى، الآية 37.

[5] سورة الشورى، الآية 38.

[6] سورة الشورى، الآية 38.

[7] المصباح المنير: 21.

[8] لسان العرب 1: 204، والقاموس المحيط 1: 688.

[9] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني: 88، المنجد في اللغة: 18.

[10] المصباح المنير: 21.

[11] أجود التقريرات – 1: 86 وما بعدها.

[12] نهاية الدراية – 1: 25 وما بعدها.

[13] بحوث في علم الأصول 2: 11ـ. 14.

[14] سورة آل عمران، الآية 154.

[15] سورة آل عمران، الآية 154.

[16] سورة الأنعام، الآية 8.

[17] سورة هود، الآية 123.

[18] سورة الرعد، الآية 31.

[19] نهج البلاغة: الخطبة 3.

[20] مقاتل الطالبيين: 36.

[21] عيون أخبار الرضا، 2: 62.

[22] العين، 6: 281. معجم مقاييس اللغة، 3: 226ـ، 227. جمهرة اللغة، 2: 735، وتهذيب اللغة، 11: 403، 404.

[23] العين، 6: 280. معجم مقاييس اللغة، 3: 226ـ- 227. مفردات الراغب، 469.

[24] العين، 6: 280. الصحاح، 2: 704.

[25] لسان العرب، 7: 233ـ – 235.

[26] العين، 6: 281.

[27] النهاية، 2: 508.

[28] سورة الدخان، الآية 38.

[29] سورة المائدة، الآية3.

[30]  العين، 6: 280. معجم مقاييس اللغة، 3: 226ـ، 227. مفردات الراغب، 469.

[31] سورة الشورى، الآية 37.

[32] الفقيه والسلطة والأمة، مصدر سابق.

[33] الفقيه والسلطة والأمة، مصدر سابق.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.