الانتظار الثوري والشورى في ولاية الفقيه (3)

عن نظرية ولاية الفقيه
من المناسب تحييد معالم نظرية ولاية الفقيه قبل أن نكتب عن تأسيسها في إيران على يد الإمام الخميني، لأن الكتابة عن الولي الفقيه يعني الكتابة عن الولاية العامة للمعصوم، وعمومًا وردت كلمة الولاية في القرآن الكريم وفي نصوص أهل البيت (ع)، وفي كلمات العلماء، واستخدمت باستخدامات متعدّدة، منها النصرة والمحبة والسلطة… والولاية هي السلطة وبالتحديد سلطة الفقيه على الناس في عصر الغيبة الكبرى، وقد يظن البعض أنَّ تطبيق ولاية الفقيه أمر جاء به الإمام الخميني (قده)، ولكن أدنى مطالعة في روايات أهل البيت (ع)، وكلمات العلماء تبيّن أصالة هذا الموضوع في النصوص الإسلامية، وقد رسم المعصومون الأطهار (ع) معالم هذا السبيل، وأبرزوا بعضًا من جوانبه، وهو الرجوع إلى من أعمل الفكر والنظر في الأحاديث الصادرة عنهم (ع)، ويمكن رصد عدة من النصوص الواردة عنهم (ع) التي تُرجع إلى الفقيه، فبذور ولاية الفقيه موجودة في صريح أحاديثهم (ع)، وسنتعرّض لهذه الأحاديث بشيء من التفصيل في بحث الأدلّة على ولاية الفقيه.
ولاية الفقيه
إنَّ الولاية بمعنى السلطة، وقد ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ﴾[1]. بهذا المعنى، فالآية تبيّن أن الولاية في الحقيقة هي لله سبحانه وتعالى، فالله عزّ وجل هو الذي خلق الإنسان وأسكنه الأرض وإليه يرجع الأمر كله.
وهذه الولاية الإلهية تتجسّد بولاية النبي (ص)، والتي شرح القرآن الكريم معناها في قوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[2]، وكون النبي أولى بالمؤمن من نفسه معناه أنه أولى به في جميع الصلاحيات التي يمتلكها الإنسان لنفسه، فهو أولى به في المسائل الاجتماعية وفي القضاء والمسائل الحكومية وغيرها… وأنَّ إرادته ورأيه مقدَّمان على إرادة ورأي أي مؤمن.
هذه الولاية التي أكّدها النبي (ص)، وأكّد على استمرارها بعده في اثني عشر إمامًا من خلال الأحاديث المتعدّدة، أهمها حديث غدير خم حيث قال (ص) بعد أن أخذ بيد علي (ع): “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ من كنت مولاه فهذا علي مولاه…”[3].
وفي غيبة الإمام صاحب الزمان (عج)، كانت ولاية الفقيه امتدادًا لولاية المعصوم ليقوم بسدّ الفراغ على المستوى الاجتماعي والسياسي وغيرها من الجهات.
فولاية الفقيه هي نيابة عن الإمام المنتظر (عج) في قيادة الأمة، وإقامة حكم الله تعالى على الأرض مستمدّة منه، وهي جذوة من نوره، وشهاب من قبسه، وفرع من فروع دوحته، ولذلك عرّفت ولاية الفقيه أنها “حاكمية المجتهد الجامع للشرائط في عصر الغيبة”.
ومن الجدير بالذكر أنَّ جميع الموارد التي شرّع فيها الدين ولاية لبعض الناس على بعض، فقد راعى فيها مصلحة المولّى عليه واللطف به، ورعاية حاله، ولم ينظر إلى مصلحة الولي ولم يهدف من خلالها أن يمنحه امتيازًا، كما قد يتوهم ذوو النظر القاصر.
فالولاية في نظر الإسلام مسؤولية وتكليف، كيفما كانت وحيثما وقعت، فولاية الأب مثلًا على أبنائه الصغار، لحفظهم ورعايتهم واللطف بهم، وولاية الوقف لرعاية شؤونه ومصالحه والحيلولة دون خرابه وإساءة استعماله، وولاية الحاكم على أموال الغائب والقاصر والسفيه والمجنون كذلك، وولاية الفقيه لحفظ المصالح العامة وصيانة المجتمع من الفساد والانحراف والحقوق من الضياع.
وفي جميع الموارد تقيّد الولاية برعاية مصالح الجهة المولّى عليها، وليس للولي الحق أن يتصرف على وفق أهوائه ومصالحه ورغباته الخاصة، بل تسقط ولايته خارج تلك الحدود ومنه يتبين أنّ الولاية الشرعية، أبعد ما تكون عن الاستبداد والتعنّت والدكتاتورية.
الحكومة وتحقيق الأهداف السامية
إن تولّي أمر الحكومة في حدّ ذاته ليس مرتبةً ومقامًا، وإنَّما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة تطبيق الأحكام، وإقامة نظام الإسلام العادل، يقول أمير المؤمنين (ع) لابن عباس عن نفس الحكومة: “ما قيمة هذا النعل؟ فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (ع): والله لهي أحبُّ إليَّ من إمرتكم، إلا أن أقيم حقًّا (أي أقيم قانون الإسلام ونظامه)، أو أدفع باطلًا”[4]؛ (أي القوانين والأنظمة الجائرة والمحرّمة). إذًا فنفس الحاكمية والإمارة مجرّد وسيلة ليس إلّا، وهذه الوسيلة إذا لم تؤدِّ إلى عمل الخير وتحقيق الأهداف السامية، فهي لا تساوي شيئًا عند أهل الله، ولذا يقول (ع) في خطبة نهج البلاغة: “لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر… لألقيت حبلها على غاربها”[5]؛ (أي لتركت تلك الحكومة والإمارة)، وذلك بديهي، فتولّي الحكومة هو مجرد تحصيل وسيلةً وليس مقامًا معنويًّا، إذ لو كان مقامًا معنويًّا لما تمكّن أحد من غصبه أو التخلي عنه، فبمقدار ما تكون الحكومة والإمارة وسيلةً لتطبيق الأحكام الإلهية وإقامة النظام العادل للإسلام، بمقدار ما تكون ذات قدر وقيمة، ويكون المتولّي لها جليل القدر، سامي المقام، وبعض الناس هيمنت عليهم الدنيا، فهم يتوهمون أنّ الرئاسة والحكومة بحدِّ ذاتها شأن ومرتبة بالنسبة للأئمة (ع)، بنحو لو ثبتت لغيرهم؛ فكأنَّما الدّنيا قد خربت.
إن الأئمة والفقهاء العدول مكلّفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس، الحكومة بحدِّ ذاتها بالنسبة لهم لا تعني سوى المشقة والتعب، لكن ما العمل؟ إنَّهم مأمورون بالقيام بالوظيفة، فمسألة ولاية الفقيه هي مسألة تنفيذ مهمة والعمل بالتكليف[6].
الولي الفقيه في أحاديث العلماء.
إن معالم ولاية الفقيه تطورت في طول الزمن بعد عصر الغيبة، سواء من ناحية بحثها العلمي والغوص في التنظير لها وبناء الأدلة، أو من ناحية نموها كتجربة عملية رائدة في سبيل سدِّ الفراغ الحاصل بعد غيبة المعصوم (ع)، وهذا ما يظهر جليًّا فيما لو تصفحنا كلام علمائنا، حيث نجد أنَّ موضوع ولاية الفقيه مذكور في أقوالهم منذ بدايات الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عج)، ويمكن تقسيم الكلام في عرض أقوالهم إلى مرحلتين، وذلك باعتبار ورودها كمصطلح “ولاية الفقيه” في كلامهم:
الأول: من مرحلة الشيخ المفيد إلى ما قبل مرحلة الشيخ النراقي.
الثاني: من مرحلة الشيخ النراقي حتى عصرنا الحالي.
وفيما يلي عيِّنةً من كلمات العلماء رضوان الله تعالى عليهم:
- الشيخ المفيد (336-413هـ): يقول (قده) في باب الأمر بالمعروف والجهاد: “فأمّا إقامة الحدود، فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل الله تعالى، وهم أئمة الهدى من آل محمد (ع)، ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكّام، وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان”[7].
- الشيخ الحلّي (374–447 هـ): يقول (قده) في باب القضاء: “تنفيذ الأحكام الشرعية والحكم بمقتضى التعبّد فيها من فروض الأئمة (ع) المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوه لذلك، فإن تعذّر تنفيذها بهم (ع)، وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم تولّي ذلك، ولا التحاكم إليه، ولا التوصّل بحكمه إلى الحق، ولا تقليده الحكم من الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام في الحكم من شيعته، وهي: العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكّن من إمضائه على وجهه، واجتماع العقل والرأي وسعة الحلم والبصيرة، وظهور العدالة والورع والتديّن بالحكم، والقدرة على القيام به، ووضعه في مواضعه… فهو نائب عن ولي الأمر (ع) في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه وآبائه (ع) لمن كان بصفته في ذلك، ولا يحل له القعود عنه”[8].
- المحقّق الكركي (868–940 هـ): المعروف بالمحقّق الثاني يقول (قده): “اتفق أصحابنا رضوان الله عليهم على أنَّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المـُعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل – وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقًا – فيجب التحاكم إليه والانقياد إلى حكمه، وله أن يبيع مال الممتنع من أداء الحق إن احتيج إليه، ويلي أموال الغياب والأطفال والسفهاء والمفلسين، ويتصرف على المحجور عليهم، إلى آخر ما يثبت للحاكم المنصوب من قبل الإمام (ع)”[9].
- الشهيد الثاني (911-966 هـ): يقول (قده): “فالفقيه في حال الغيبة وإن كان منصوبًا للمصالح العامة لا يجوز له مباشرة أمر الجهاد بالمعنى الأول”[10]، والشهيد الثاني هنا يثبت الولاية للفقيه، ويستثني منها الجهاد الابتدائي.
- المحقّق النراقي (متوفى 1244هـ ): يقول (قده): “إنَّ كلية ما للفقيه العادل تولّيه، وله الولاية فيه أمران: أحدهما كل ما كان للنبي والإمام – الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام – فيه الولاية وكان لهم، فللفقيه أيضًا ذلك، إلا ما أخرجه الدليل بإجماع أو نص أو غيرهما، وثانيهما أنَّ كل فعل متعلّق بأمور العباد في دينهم ودنياهم، ولا بدَّ من الإتيان به ولا مفرَّ منه…”[11]، والمحقّق النراقي هو أول من ظهر في كلماته اصطلاح ولاية الفقيه.
- المحقّق النجفي (متوفى 1266 هـ): يقول (قده): “لولا عموم الولاية لبقي كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطّلة، فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنَّه ما ذاق من طعم الفقه شيئًا، ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمرًا، ولا تأمّل المراد من قولهم: إنِّي جعلته عليهم حاكمًا وقاضيًا وحجة وخليفة ونحو ذلك مما يظهر منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في كثير من الأمور الراجعة إليهم…”[12].
- الشيخ الأنصاري (1214-1281 هـ): يقول (قده): “وعلى أيِّ تقدير، فقد ظهر مما ذكرنا أنَّ ما دلَّت عليه هذه الأدلّة هو ثبوت الولاية للفقيه في الأمور التي يكون مشروعية إيجادها في الخارج مفروغًا عنها…”[13].
- الشيخ رضا الهمداني (1240-1322هـ ): يقول (قده): “لكنَّ الذي يظهر بالتدبر… إقامة الفقيه المتمسّك برواياتهم مقامه؛ بإرجاع عوام الشيعة إليه في كل ما يكون الإمام مرجعًا فيه كي لا يبقى شيعته متحيرين في أزمنة الغيبة…”[14].
- الإمام الخميني: يقول الإمام (قده): “ولاية الفقيه من المواضيع التي يوجب تصورها والتصديق بها، فهي لا تحتاج لأية برهنة، وذلك بمعنى أنَّ كلَّ من أدرك العقائد والأحكام الإسلامية – ولو إجمالًا – وبمجرد أن يصل على ولاية الفقيه ويتصورها فسيصدّق بها فورًا وسيجدها ضرورة وبديهية…”[15].
هذه هي أقوال العلماء عن ولاية الفقيه، ومنها قول الإمام الخميني الذي لم يكتفِ بإقامة الأدلة على ولاية الفقيه، بل نجده قد أقام صرح الحكم الإسلامي، وشيَّد أركانه، وأسَّسه على مبدأ ولاية الفقيه، وهو التطبيق العملي لولاية الفقيه.
صفات الولي الفقيه.
إن الحاكم في الدولة الإسلامية له مواصفات خاصة أهمها[16]: العدالة والكفاءة، فالعدالة التزام مبدئي بالشريعة ومبادئها التزامًا شخصيًّا وفي العلاقة مع الآخرين، أما الكفاءة فهي قدرة على إدارة شؤون الأمة والعمل على تحقيق مصالحها وأهدافها المنسجمة مع الرسالة ومبادئها، لأن “أمر الولاية، في الحكومة الإسلامية، في زمن الغيبة الكبرى، مرجعه إلى العالم بالقانون الإلهي العادل الكفؤ”[17]، لكن هل يجب أن يكون فقيهًا؟ في روايات الأئمة، هناك تصريح واضح بالرجوع إلى الفقيه لمعرفة الأحكام الإسلامية عند فقد الإمام المعصوم، أهم هذه الروايات التوقيع المنسوب للإمام المهدي (عج)، والذي نقله الشيخ الصدوق عن الشيخ الكليني، وفيه “… وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله…”[18]، وكذلك مقولة عمر بن حنظلة، وغيرها من الروايات التي تحدّثت عن العلماء ورواة الأحاديث.
وإن الأدلة العقلية دلّت على ثبوت الولاية للفقيه، وتحصل من مجمل الروايات المعتبرة ثبوت هذه “الولاية للفقهاء من قبل المعصومين (ع) في جميع ما ثبت لهم الولاية فيه من جهة كونهم الولاة على الأمة، وحتى نخرج عن هذه القاعدة في مورد ما، ونسلب عن الفقيه صلاحية الولاية في هذا المورد، يجب أن يدل دليل على اختصاص المورد بالإمام المعصوم (ع)”[19].
إن إثبات الولاية العامة هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها نظرية ولاية الفقيه، والفقاهة وحدها لا تجلب الشخصية القادرة على إدارة شؤون البلاد وقيادة العباد، بل لا بدّ من توفر شروط أخرى، وأهمها العدالة والكفاءة كما مرّ بنا، وليس من الصعب الاستدلال على اشتراط العدالة في الولي لوجود نصوص عن الرسول (ص)، والأئمة (ع) صريحة الدلالة في ذلك. “أما الكفاءة هو في الحقيقة شرط موضوعي لا يمكن فرض ولاية شخص بدونه إلا إذا كنا نريد أن نستهتر بشؤون الأمة ومصالحها، كما يحصل في كثير من البلدان”[20]، وقد تكاثفت الأدلة العقلية والنقلية لدعم هذا الشرط، أو الصفة، في الولي أو الحاكم الإسلامي.
وهناك صفات وشروط أخرى معتبرة مرجعها إلى الكفاءة كذلك، وطبعًا لا يمكن إغفال الأدلة العقلية لأنها تكشف عن موارد أخرى تعالج وتتمّم البحث في عناصر الاستدلال، لأن الأدلّة الإجمالية المذكورة لا تكفي لإثبات شرطية الفقاهة، لذلك “لا بدّ من دليل عقلي” يدل بوضوح على اشتراط الاجتهاد في الولي، الأول عدم لزوم طاعة غير الفقيه أو الذي يقلّد غيره.
كما يوجد دليل العقل في موارد الحسبة، ويرد على الدليل الأول بأن الموارد التي تحتاج لخبرة لا تكون متوفرة للولي الفقيه يكتفي فيها بالاستشارة والرجوع إلى أهل الخبرة، “لكن لا نستطيع الاستغناء عن شرطية الفقاهة في الولي اكتفاء بأن يراجع الولي الفقهاء حتى وإن فرضنا عدم الدليل على اعتباره”[21].
وقضية أخرى متفرّعة عن هذه المباحث، وهي: هل يشترط في الفقيه الولي أن يكون الأفضل في العلم والكفاءة؟…. الجواب الأوليُّ الإجمالي يرى أنه إذا ثبت بالدليل ضرورة أن يكون الولي هو الأعلم والأكفأ لم يجز لغيره تولّي شؤون الأمة، ويجب في هذه الحالة البحث عن هذا الأفضل، “وإن لم يثبت ذلك بدليل جاز لمن توفرت فيه الشروط أن يتولى شؤون الأمة، وإن وجد الأفضل”، وهذا الجواب بدوره يفتح الباب مشرّعًا لعلاج قضايا أخرى لا تخلو من الصعوبة مثل مسألة الأعلمية الفقهية، وهل يمكن فعلًا معرفة الأعلم في مجال الاجتهاد، هناك نصوص وآراء كثيرة معروضة في مباحث التقليد، والمسألة فيها أخذ ورد طويلان، لكن يمكن الاكتفاء بالخلاصة، بأن “الأعلمية هنا ليس من الواجب تعميمها على جميع أبواب الفقه، بل يجب تقييد موردها بخصوص الأبواب المحتاج إليها في باب الولاية السياسية، مثل الإدارة وشؤون الحرب والسلم وغيرها من القضايا ذات العلاقة المباشرة بتسيير الحكم، والترجيح في الولاية ينبغي أن يكون للأعلم والأكفأ في هذه الأبواب، لو قلنا بلزوم تقديم الأعلم على غيره..”[22].
ويتساءل البعض عن الكيفية التي يعين من خلالها الولي الفقيه، أو ما هي طريقة تشخيصه الفعلي؟ وهناك نظريتان: الأولى نظرية التصدي، والثانية نظرية الانتخاب، أولًا يمكن القول: إنّ مجرد تصدّي الفقيه لولاية الأمر وشؤون الأمة كاف لصيرورته وليًّا شرعيًّا، ولا تجوز مزاحمته، لكن هل هناك دليل على هذا القول؟
إذا تصدّى، وسلّم الآخرون، وتوفّرت فيه الشروط، فإنه يصبح فعلًا الولي الشرعي، فليس التصدّي وحده هو الذي يمنحه الشرعية والأحقية، وإنما التصدّي إضافة إلى الشروط الأخرى المذكورة، و”أنه لا بدّ من إضافة قيد أو قيود على التصدّي ليكون مؤثّرًا، وهي جملة الشروط المتقدّمة في الولي، لأن الشروط المعتبرة حدّدها الشرع، والانتخاب إعلان عن معرفته، سواء أكان واحدًا بعينه أم تطلّب الأمر الاختيار بين مجموعة ممن تحقّقت فيهم الشروط المعتبرة، والانتخاب هنا سيعني اختيار الأمة أفضل هؤلاء”[23].
ويمكن القول: إن “تشكيل مجلس يضم حشدًا من أهل العلم والخبرة يشخصون من خلال المشاورات بينهم، واستشارة الآخرين من هو الولي، ويكون الانتخاب منهم وليس انتخابًا مباشرًا من الناس”[24]، وهذا المجلس الذي يضم الخبراء العدول والقادرين على اختيار الأفضل سيكون أعضاؤه منتخبين من طرف الأمة، وبالتالي ستمارس الأمة حقها في انتخاب ولي أمرها عن طريق هؤلاء الخبراء.
والخلاصة، أن الأدلة حدّدت الشروط المعتبرة في الولي، “والانتخاب تعبير عن إحراز ثبوت الصفات ووسيلة لتشخيص الولي الأفضل من بين جميع العلماء المتصدين، أو الذين يقبلون بالتصدّي، ومجلس الخبراء كما هو الحال في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هو من ينتخب ويرشد الأمة إلى الولي الفقيه الأفضل لتولي زمام السلطة السياسية في المجتمع الإسلامي الإمامي زمن الغيبة الكبرى”[25]، كما سنرى في هذه الدراسة.
صلاحيات الولي الفقيه
بعد إثبات شرعية ولاية الفقيه العادل الكفؤ، يأتي البحث الآن في صلاحياته، وهذا مبحث له أهميته الكبرى، لأن بعض الاعتراضات على نظرية ولاية الفقيه، إنما تنطلق من مناقشة موضوع الصلاحيات، والتخوف من الحكم الفردي الشمولي والصلاحيات المطلقة للحاكم، وبالتالي عودة لشرعنة الاستبداد والطغيان السياسي من جديد، ويظهر أن الأدلة اللفظية “تعطي عموم الولاية للفقيه”، باستثناء الصلاحيات التي كانت للإمام المعصوم باعتباره معصومًا، مثل إعلان الجهاد الابتدائي، ومن خلال الرجوع إلى سيرة الرسول (ص)، وسيرة الإمام علي أثناء مدة خلافته، وما جاء في النصوص والروايات التي تحدثت عن صلاحيات الإمام أو الأمير، يمكن معرفة موارد هذه الصلاحيات العامة، وصلاحياته هو أنه: المسؤول السياسي الأول عن اتخاذ القرارات السياسية المتعدّدة داخل الدولة، الإشراف على تطبيق الأحكام الإسلامية، المسؤول عن أمن الناس وحقوقهم، الولي على جميع الأموال الشرعية (الخمس، الزكاة، الأنفال..)، المسؤول الأول عن القضاء، يراقب الوضع الاقتصادي، وله صلاحيات في هذا المجال لمراعاة المصلحة العامة، الإشراف على الوضع الثقافي، قيادة القوة العسكرية، وهو ولي من لا ولي له، وغيرها من الصلاحيات التي ترتكز بالإضافة إلى النصوص المذكورة على دليل الحسبة والموارد التي حددها، “فإذا استطعنا إثبات أن الحاكم الشرعي، في عصر الغيبة، هو الفقيه ولو بدليل الحسبة، ثبتت له هذه الصلاحيات، وإن لم يكن لنا غير دليل الحسبة وجب إجراء دليل الحسبة على كل مورد يريد الفقيه إعمال الولاية فيه…”[26].
ويمكن الإشارة هنا إلى أن عددًا من كبار علماء الإمامية قالوا بالولاية العامة للفقيه مثل صاحب الجواهر والمحّقق الكركي، وحدّدها غيرهم بموارد خاصة، وقالوا بأن فحوى الأدلة اللفظية يمكن أن تقوي بمجموعها القول بالولاية العامة، لكن وكما يقول صاحب كتاب “ما وراء الفقه” السيد محمد باقر الصدر في باب القضاء، “غير أنه من المعلوم أنّ مثل هذا الاستدلال لا يثبت الولاية العامة على سعتها، لأنه مضمون إجمالي، يؤخذ منه بالقدر المتيقن، وهو إثبات الولاية بشكل جزئي لا مطلق”، لكن إذا ضم هذا المعنى الإجمالي لرواية عمر بن حنظلة التي تبت سندًا ودلالة في الحجية على الولاية “أمكن أن تكون حجة في إثبات إطلاقه.. فيكون دليلًا تامًّا على الولاية العامة”[27]، والذي يراجع البحوث الخاصة بهذه المسألة المهمة، يجد الكتاب حافلًا باستعراض أقوال العلماء ومناقشتها والرد عليها، أو إظهار المقصود منها، كل ذلك في سبيل تقوية القول بالولاية العامة للفقيه…
[1] سورة المائدة، الآيتان 55و 56.
[2] سورة الأحزاب، الآية 6.
[3] عبد الحسين الأميني، الغدير، بيروت – لبنان، دار الكتاب العربي، الجزء 1، الصفحة 40.
[4] الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، نسخة كمبيوترية، الصفحة 17.
[5] نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، الجزء 1، الصفحة 81.
[6] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 37.
[7] محمد بن محمد بن النعمان، المفيد،كتاب المقنعة، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، الصفحة 810.
[8] أبو الصلاح، الحلي ،كتاب الكافي، أصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (ع) العامة، الصفحة 421.
[9] علي بن الحسين الكركي، رسائل الكركي، قم، مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، الجزء 1، الصفحة 142.
[10] زين الدين بن علي العاملي، الشهيد الثاني، مسالك الأفهام، قم- إيران، مؤسسة المعارف الإسلامية، الجزء 3، الصفحة 9.
[11] أحمد بن محمد مهدي النراقي، عوائد الأيام، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الإسلامي، الصفحتان 188 و 189.
[12] محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، طهران، دار الكتب الإسلامية، الجزء 12، الصفحة 397.
[13] الأنصاري، مرتضى بن محمد أمين، المكاسب، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، الجزء 3، الصفحة 557.
[14] رضا الهمداني، مصباح الفقيه، طهران، منشورات مكتبة الصدر، الجزء 3، الصفحة 160.
[15] الإمام الخميني، الحكومة الإسلامية، الصفحتان 86 و87.
[16] الشيخ مالك مصطفى وهبي العاملي، الفقيه والسلطة والأمة، نسخة إلكترونية.
[17] المادة الخامسة من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
[18] الشيخ الصدوق، كمال الدين، نسخة إلكترونية.
[19] الفقيه والسلطة والأمة، مصدر سابق.
[20] مصدر نفسه.
[21] مصدر نفسه.
[22] الفقيه والسلطة والأمة، مصدر سابق.
[23] الشيخ الصدوق، كمال الدين، نسخة إلكترونية.
[24] المصدر نفسه.
[25] المصدر نفسه.
[26] الفقيه والسلطة والأمة، مصدر سابق.
[27] المصدر نفسه.
المقالات المرتبطة
جدل الدينيين والعلمانيين والقرآنيين بمصر حول القدس والحج نموذجًا آراء علمانية وردود دينية
مقدمة في هذه الأيام، يدور جدل في مصر حول تجديد الخطاب الديني، وتنقية كتب الحديث والتاريخ فيما لا يتفق مع
الروحانيّة الحديثة والتصوّف الإلحادي* (10)
مذهب فلسفي اعتقادي إلحادي غير ديني، يسعى للإجابة عن الأسئلة الحياتية الكبرى (الله، الكـون، والإنسان) عبر التجربة الغنوصية. تقـوم على الفلسفات الشرقية، وبعض الديانات الوثنية
الفكر العربي الحديث والمعاصر | محمد عابد الجابري والمنهج البنيوي حياته ومؤلفاته
عمل محمد عابد الجابري من أجل تقديم قراءة عقلانية للتراث العربي مستفيدًا من الدرس الإبستمولوجيّ وتكويناته في البنى المعاصرة، فتجديد