التأويل السياسي للتنزيل الديني، قراءة في أنماط وثقافة الحركات التكفيرية المعاصرة
تقديم
أنزل الله تعالى كتابه المجيد، وهو القرآن الكريم، وتعهد بحفظه، تعهد بحفظ النص المقدس، ولكنه تعالى لم يتعهد بحفظ تفسيراته وتأويلاته، فالتفسير والتأويل، هما من قبيل العمل البشري، الذي يحتمل الخطأ والصواب، وهي مشكلة كل الأديان، من يفسر النص المقدس؟ من يتحدث باسم الدين؟ من يقول إنه يمثل الإسلام الحقيقي؟ كلها تساؤلات مقبولة طالما أنها تأتي في نقاش علمي بحثي، نظري يقود لتفعيل التقريب بين مذاهب المسلمين على أسس عملية.. وهنا نؤكد أن الإسلام جاء بالتسامح، بالعفو عند المقدرة، بالحوار والمجادلة بالتي هي أحسن مع أهل الكتاب، ومع المسلم المخالف في المذهب، ولكن التأويل للنص المقدس، هو الذي جرّ على المسلمين تصاعد حركات الإرهاب، وتفسر الآيات بصورة مبتسرة من سياقاتها الرسالية، صحيح أن فكر التكفير له جذوره، منذ الخوارج، ولكن اليوم فكر التكفير يحتمي بمساعدات استكبارية استعمارية، وكلها تريد شق وحدة الأمة من خلال تصاعد الإرهاب التكفيري، الذي يقود حربًا لا هوادة فيها ضد المسلمين أنفسهم.
وتظل جماعات الإسلام السياسي التكفيري هاجسًا يؤرق الباحثين والسياسيين، خاصة بعد تفشي الفكر التكفيري في البلاد العربية، وبعد ما يسمى الربيع العربي[1].
البحث يدور حول أنماط فكر وثقافة جماعات الإسلام السياسي، وكيف استخدموا التنزيل الديني لخدمة الغرض السياسي، وكيف تلقفت الدوائر المخابراتية العالمية تلك الجماعات لتفكيك البلاد، خاصة بعد الحراك الشعبي في الدول العربية، فلقد بدأت الثورات العربية مدنية وانتهت تكفيرية، بدأت أيضا شبابية وانتهت كهولية، وبعد استلام التيارات الدينية للحكم في بعض البلاد التي شهدت ثورات، بدأت تساؤلات مهمة، مثل لماذا لا ترتبط التيارات السياسية الإسلامية فكريًّا بالمؤسسات الدينية الرسمية وشبه الرسمية، مثل الأزهر الشريف في مصر وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في المغرب، والجامعة الإسلامية بباكستان والحوزات العلمية في النجف الأشرف وقم وغيرها، ثم لماذا ارتبطت التيارات الإسلامية عقائديًّا بالمنهج السلفي دون غيره من المذاهب الإسلامية. ومن خلال هذه التساؤلات يبدو البحث ضروريًّا حول البنى الفكرية للجماعات الإسلامية، سواء منها من تبوأ الحكم في بلده لفترة قصيرة، كالإخوان المسلمين في مصر، والنهضة في تونس، أو أولئك القريبون منهم عقائديًّا ولكنهم بعيدون عن السلطة حاليًّا مثل الجماعات السلفية، العلمية منها والجهادية، وكذلك تنظيم القاعدة وباقي جماعات الإسلام السياسي المنتشرة في شرق الأرض وغربها.
إن التساؤل حول البنى الفكرية للتيارات الإسلامية يدفعنا دفعًا للبحث عن أنماط ثقافة تلك الجماعات، وعلاقاتها الفكرية بتيارات تكفيرية تاريخية.
في سبيلها للبحث في مشكلة الدراسة، فإنها تهتم بالأصول الفكرية للتيارات السياسية المعاصرة، أو أنماط الثقافة لتلك الحركات، والبحث حول إمكانية تغيير مفاهيمهم التي يرونها مقدسة أو من ضرورات الدين.
وتأتي أهداف الدراسة في تنمية الوعي الديني/السياسي، وتنمية الوعي/الفكر، وتبدأ قبل كل شيء من داخل كتب التيارات الإسلامية نفسها، وهي عملية أشبه بالتأويل السياسي للتنزيل الديني، لأن القراءة التاريخية للفكر الإسلامي السياسي يجب أن تلحظ تحولات الوعي بمفهوم الدولة تحديدًا وتأثيرات الميراث السياسي الفقهي والتاريخي عليه.
وفي هذه الدراسة نحاول قراءة مقومات الفكر الذي تتبناه تيارات الإسلام السياسي.
وهذه الدراسة في ثلاثة مباحث رئيسية، كما سنرى…
المبحث الأول
التكفير
نمط أول لثقافة الفكر الجماعاتي
إن أول ما نلاحظه على أنماط فكر وثقافة الجماعات الإسلامية المعاصرة، نجد ثقافة التكفير، ومن ثم رأينا ضرورة الكتابة عنه منفصلًا عن بقية الأنماط الأخرى لفكر الجماعات، نظرًا لخطورته الشديدة، ومن أجل فهم المشروعات المتعددة لتلك الجماعات، فهي لها مرجعية فكرية واحدة تقوم عليها، والتكفير كثقافة وجدت لها نفوذًا في دول محكومة بفكر الإقصاء، مثل الدولة الإسرائيلية على سبيل المثال، فقد قامت على أسس فكرية عنصرية/دينية إقصائية، ولكن أيضًا نجد لزامًا علينا القول إنه من المعروف أن التكفير على المستوى الديني، مرتبط بالفكر السياسي الإقصائي بصورة عامة، والفكر السياسي الإقصائي، موجود في فكر الجماعات الإسلامية على مختلف أهوائها السياسية، نجده في أدبياتهم، ونجده في سلوكهم اليومي، ثم نراه على أرض الواقع، وأيضًا كما عرفناه من كتب التاريخ التي كتبت عن جماعات إقصائية تكفيرية مثل الخوارج القدامى.
والتكفير كوسيلة لنفي الآخر أو لإقصائه منهج قديم قدم الإنسان، وهو لا يقتصر على التاريخ الإسلامي وحده، فهو مرتبط بالفكر الإنساني منذ أن وُجد، وهو سابق لظهور الديانات السماوية، وتاريخ البشرية المضرج بالحروب والدماء، يُنبِئُنا بأمثلة لا حصر لها من أشكال التكفير، الذي ظل سببًا أو ذريعة للصراعات السياسية والاقتتال على السلطة، فمثلًا ما إن مات آمونحتب الرابع أو إخناتون في مصر القديمة حتى جاء حور محب، ونكّل بكل أتباعه من الموحدين[2]، بذريعة أنهم قد ابتدعوا ديانة جديدة وكفروا بآلهة الفراعنة، ولم تقتصر حملة التنكيل تلك على الأحياء، بل وصلت إلى مقابر وأضرحة ومعابد الموحدين، كما قام الرومان في مرحلة لاحقة باضطهاد المصريين بسبب مذهبهم الديني وقتلوا الآلاف منهم[3].
فالتعصب الديني والتكفير ليس وقفًا على المسلمين وحدهم، فالتكفير قد مثّل الأرضية التي نمت عليها حالة من العداء والشك بين الديانتين اليهودية والمسيحية، ثم تسلل إلى داخل الديانة نفسها، خاصة عندما برزت بعض الحركات والمذاهب التي تعتقد أنها الوحيدة التي تفهم النص المقدس، والوحيدة صاحبة الامتياز في تمثيله، فظهرت في اليهودية طائفة الفريسيين[4] الذين يأخذون بحرفية النص، ويتهمون من سواهم بالخروج عن أصول الدين، فصاروا على خلاف مع الصدوقيين[5]، وكانوا أشد الناس تأليبًا على السيد المسيح، وأحبارهم هم الذين أعطوا الفتوى بصلبه للحاكم الروماني بيلاطس.
ثم صار التكفير وقودًا يغذي التناقضات الاجتماعية والصراعات السياسية، وبشكل خاص في المجتمعات الدينية، وبعد اليهودية انتقلت عدوى التكفير للمسيحية، التي لم تشذ عن هذه القاعدة، فسرعان ما تفرقت إلى عدة طوائف تُكفّر بعضها بعضًا، وفي عصور الظلام شهدت أوروبا حقبة كاملة من التكفير مارستها الكنيسة بأبشع صورها، راح ضحيتها الملايين من البشر في المحارق وتحت المقاصل بتهمة الهرطقة والتجديف، كانت الكنيسة تكفّر كل الغجريات والمتصوفات والقابلات والمتداويات بالأعشاب، كما كفّرت من قبل “كوبرينكس” حينما قال بأن الأرض ليست مركز الكون، وكفّرت “جاليلو” لأنه قال بكروية الأرض، ناهيك عن الفظائع التي ارتكبتها محاكم التفتيش بعد سقوط الأندلس بحق اليهود والمسلمين على حد سواء[6].
وفي القرن السادس عشر الميلادي عمت أوروبا المسيحية موجة من التعصب الكنسي لم يسبق لها مثيل، وتبارت المدن في إنشاء محاكم التفتيش التي كانت قد ابتدأت في إسبانيا، وبالرجوع إلى تلك الحقب التاريخية، سنجد مئات القصص التي يشيب لهولها الولدان من فظائع وجرائم ومذابح تحت ذريعة التعصب الديني، فقد كان رجال الدين من إغريق وفرنسيين وإسبان وألمان وفرس وروم وعرب وأكراد وغيرهم، وعلى مدار التاريخ يعتبرون أنفسهم حراس على الفضيلة، وقيّمين على الناس وأوصياء على عقولهم، وأنهم حماة الدين وممثليه، ولكن ضمن رؤية جامدة ثابتة لا تتطور ولا تتغير، وتكفر كل من شذ عنها[7].
والإسلام لم ينجُ من هذه الرؤى التكفيرية، فقد شهد المتشددين في الدين، حتى في عصر النبوة، فبعد غزوة حنين وبينما كان النبي الكريم(ص) يوزع الغنائم جاءه رجل يسمى حرقوص بن زهير التميمي فقال له: “هذه قسمة ما أريد بها وجه الله.. اعدل يا رسول الله فإنك لم تعدل، فقال له النبي: ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل”، وحاول بعض الصحابة إيذاءه؛ فردهم النبي (ص) وقال لهم: دعوه فإنه يخرج من ضوضئه قوم يتعمقون في الدين حتى يخرجون منه كما يخرج السهم من الرمية”[8].
فالرجل كان يعتقد أنه على صواب ويفهم الدين أكثر من صاحب الرسالة نفسه، وكان حرقوص هذا من أول الخارجين على الإمام على بن أبي طالب(ع) وهو الذي قال: “الحكم لله وليس لك يا علي”… وقد حارب الإمام علي(ع) الخوارج في النهروان بعد أن ناقشهم وحاججهم فلم يسمعوا له؛ وقُتل حرقوص في المعركة ولكن نهجه لم يُقتل، فعندما هنأ الصحابة عليًّا بنصره على الخوارج، كان مدركًا بأن هذا النمط من التفكير لن ينتهي بالسيف ولن تحسمه معركة، فقال لهم الإمام: “كلا إنهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء”[9]؛ أي أنه كان يعلم أن هذا الفكر لن يعدم أناسًا يتبنونه ويعملون على نشره.
العقلية التكفيرية
إن أخطر ما في موضوع التكفير هو الدعوة لنفي الآخر المتهم بالكفر نفيًا جذريًّا، حتى لو استدعى ذلك قتله، وخطورته تكمن في الآثار المترتبة على من يثبت كفره في نظر فقهاء التكفير، وقد أورد العديد من الفقهاء بما يشبه الإجماع على أن من يكفر، فإنه يُطرد تمامًا من المجتمع، ويُنبذ ويُحارب ويُهدر دمه وتُصادر أمواله وممتلكاته، ولا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يُفرق بينها وبينه، وحتى أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه، ويفقد حق الولاية والنصرة على المجتمع الإسلامي، وإذا مات لا تجرى عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسل ولا يُصلى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ولا يُورث، كما أنه لا يرث إذا مات مورث له[10].
ومن هنا على المجتمع الإسلامي أن يقاطعه ويفرض عليه حصارًا أدبيًّا وماديًّا حتى يثوب إلى رشده، وإذا أصر على كفره يجب أن يُحاكم أمام القضاء الإسلامي، لينفذ فيه حكم المرتد وهو القتل، بمعنى آخر تحل عليه اللعنة في الدنيا والآخرة، ويُطرد من رحمة الله ويدخل في الجحيم الأبدي خالدًا مخلّدًا في نار جهنم.
وبالنظر إلى تاريخ التكفير في التراث الإسلامي، سنجد أن أسلوب التعامل معه كان يتسم بالشدة والعنف والصرامة، وبشكل خاص في مراحل الصراع المختلفة، حيث كان التكفير يمثل الأداة الأهم والسلاح الأمضى، والجمر الذي يؤجج أتون المعارك والحروب، بل إنه كان شرطًا يسبق كل حالة قتل، وشعارًا لكل قتال، ولا يقتصر التكفير على أولئك الذين هم خارج ملة المسلمين كاليهود والنصارى وأصحاب الملل والمذاهب، بل يتعداه ليطال من هم خارج الطائفة، ثم من هم خارج الجماعة، حتى يصل إلى كل من يخالف الرأي السائد أو من يقول بنظرية جديدة أو من يبتدع فكرة يراها فقهاء التكفير كفرًا بواحًا تستوجب سلسلة العقوبات واللعنات.
يتفق معظم الباحثين على أن الخوارج هم أول من ابتدع فقه التكفير في التاريخ الإسلامي، وقد نشأ هذا الفكر عند الخوارج بدايةً نتيجة فهمهم الخاص لقضية الإيمان، إذ تفردوا في تفسيرهم لموضوع الإيمان، دونًا عن كل المسلمين كما يقول حسين مروة في كتابه الهام عن النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ويضيف مروة: “فإذا كان الإيمان منذ عهد النبي (ص) يعني الاعتقاد الداخلي، ثم الإقرار به نطقًا باللسان، فإن الخوارج قد زادوا عليه عنصرًا من عندهم، هو العمل بموجب هذا الإيمان، فلا يكفي عند الخوارج أن يضمر المرء اعتقاده وإيمانه ليكون مؤمنًا، بل لا بد أن يتطابق العمل مع الإيمان، وبالتالي فكل إنسان حسب الخوارج هو إما مؤمن وإما كافر، وليس هنالك حالة ثالثة، وبهذا التعريف يصل منطق الخوارج إلى نهايته الحتمية: من لم يعمل وفق اعتقاده فهو كمن يخالف اعتقاده، ومن يخالف اعتقاده كمن لا اعتقاد له، أي أنه حتمًا كافر.
وقد تصدى لحرب الخوارج على المستوى النظري العديد من علماء الإسلام والمتكلمين بدءًا من الإمام علي وحتى اليوم، إذْ قالوا إنه لا يجوز الحكم بالكفر على مرتكب المعصية ولا بخلوده في النار، وكانت مسألة تأجيل الحكم على مرتكب المعصية إلى يوم الحساب، وأن صلاحية الحكم على الإيمان هي فقط لله تعالى هي الركيزة الأساسية لظهور تيار المرجئة، كما كانت نظرية المنزلة بين المنزلتين في الحكم على مرتكب الكبيرة إحدى القواعد الخمسة لفكر المعتزلة.
كانت مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة تمثل إحدى الدعامات النظرية في اقتتال المسلمين فيما بينهم منذ معركة الجمل، فقد كانت حجة الخوارج في قتال علي أن عليًّا كفر بقبول التحكيم، أي أنه مرتكب للكبيرة، وبالتالي فهو كافر ويجب قتاله، ويرى حسين مروة أن موقف بعض الصحابة من أمثال سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد الذين وقفوا على الحياد فرفضوا أن ينصروا عليًّا كما رفضوا أن يقاتلوه، بالرغم من حياديته الظاهرة إلا أنه في نهاية المطاف موقف سياسي أكثر منه اجتهاد نظري، لأن مسألة مرتكب الكبيرة بدأت في حلبة الصراع السياسي، ثم انتقلت فيما بعد إلى صالونات التنظير الفقهي، بمعنى أن انشغال الحركة الفكرية في ذلك الوقت بمسألة مرتكب الكبيرة والحكم عليه ثم بمفهوم الإيمان وبالتالي مفهوم الكفر، كان مصدره أساسًا اختلاف المواقف السياسية حول قضية الخلافة ونظام الحكم، ثم ترعرع هذا الحراك الفكري حول قضية التكفير في ميادين السياسة وعلى موائد السلطان أو في أقبية قوى المعارضة[11].
لقد قال الإمام علي قبل أكثر من ألف عام: “إذا رأيتم الرايات السود فالزموا الأرض ولا تحركوا أيديكم ولا أرجلكم، ثم يظهر قوم ضعفاء لا يُؤبه لهم قلوبهم كزُبَر الحديد، هم أصحاب الدولة، لا يفون بعهد ولا ميثاق، يدعون إلى الحق وليسوا من أهله، أسماؤهم الكنى ونسبتهم القرى، وشعورهم مرخاة كشعور النساء، حتى يختلفوا فيما بينهم ثم يؤتي الله الحق من يشاء”[12]… والغريب أن تنبؤ الإمام علي بهم، كان يقوم على علم ديني/سياسي معًا، ذلك أن السلوك الإقصائي للجماعات السياسية الإسلامية، مثّل التراث الحقيقي لأي جماعة تتبنى هدف الوصول للسلطة، إما من خلال الوصول لها بطرق ديمقراطية ثم الانقلاب عليها، أو السيطرة على بقعة أرض تعتبرها دار الإسلام، وباقي المناطق ديار كفر، ولأنهم ممتدون بسلوكهم إلى ماض يعتقدون أنه ماضي ذهبي للسلف، فهم لبسوا نفس الملابس، أي معبرين على أنفسهم مظهريًّا بسلوكهم وفكرهم الذي يعتقدون صوابه، وبالتالي جاءت كلمات الإمام خير تعبير عن ثقافة التكفير، وثقافة تشابه الملامح الفكرية بين الماضي والحاضر…
التكفير إذن هو أهم نمط لثقافة الجماعات الإسلامية المعاصرة، وهي ثقافة لها جذور في الفكر الخوارجي، أو الخارجي، وهو يعتمد على فكرة قتل المخالف لهم في الرأي، فما البال بالمخالف في العقيدة، وقد تطور فكر الجماعات عكسيًّا، بمعنى أنهم أخذوا من الفقه الإسلامي ما يبرر لهم قتل المخالفين وحرقهم وسبيهم وسحلهم[13]…
المبحث الثاني
الأنماط الثقافية الأخرى
للتيارات التكفيرية المعاصرة
تتميز أنماط ثقافة جماعات الإسلام السياسي بعدة أمور أخرى مهمة:
أولًا: أنهم ينسبون أنفسهم لمذاهب أهل السنة والجماعة، ثم يختصرون المذاهب في المذهب الحنبلي، ويقصرنه في النهاية على فتاوى ابن تيميه وتفسيرات محمد بن عبد الوهاب، لا تشذ جماعة إسلامية عن هذا المفهوم، ثم يقولون إنهم ينتمون للسلف الصالح، أي أن سلوكهم هو سلوك صحابة النبي، ويصرون على ذلك، ثم يكفرون مخالفيهم، سواء من مؤسسة دينية كالأزهر الشريف، الذي يدين بالعقيدة الأشعرية، وكذلك تكفير المتصوفة والشيعة والماتريدية[14].
ثانيًا: الاقتناع التام بأن إقامة الخلافة من ضرورات الدين، ومنهجية العمل الديني/السياسي، وهو حلم جماعاتي بامتياز، يتفق حوله التكفيريون، مع باقي الجماعات السياسية/شبه المعتدلة كالإخوان المسلمين وأشباهها في دول العالم المختلفة، فأدبياتهم تنص على ضرورة عودة الخلافة، ثم قدم التيار نفسه للجماهير، باعتباره الحامي الوحيد لحمى الإسلام، والمدافع عن الهوية الإسلامية، والأصالة والمقدسات.
ولو عدنا لبعض أدبياتهم لوجدنا فكرة الخلافة تسيطر كليًّا على ثقافتهم، وبرامج أحزابهم تؤسس لهذا المفهوم، فرغم تعاليم سيد قطب العديدة، إلا أن فكرتين أساسيتين لقيتا رواجًا كبيرًا مقارنةً بغيرهما، حيث الأولى هي “الجاهلية”، وهو مصطلح يستخدم عادة لوصف الهمجية المرتبكة التي كانت سائدة بين العرب في العصر الجاهلي، حيث طبّق سيد قطب هذه الفكرة على العالم المعاصر، ونظام الدولة السائد، لا سيما على الدول والمجتمعات الإسلامية.
واعتبر سيد قطب، أن المجتمعات الإسلامية على نفس القدر من السوء الذي عليه الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل، وهي جميعها دول فاشلة، وأن الحل الوحيد لهذه “الجاهلية هو قبول الشريعة[15].
والفكرة الأخرى التي انتشرت، على سيد يد قطب، هي اعتبار أن جميع المسلمين ليسوا مسلمين حقًّا، حيث اعتبرهم قطب “غير مؤمنين” و”مرتدين”، مناديًا بتكفيرهم، أو نفيهم، أو إعلان خروجهم عن الدين رسميًّا، ووحدهم الناشطون المخلصون للدعوة، من وجهة نظر قطب، اعتبروا مسلمين صادقين[16].
ورغم أن قطب نفسه لم يقل صراحة عن فكرة الخلافة وجعلها أساسيةً لفكره، ولكن كل كلماته تؤدي لمفهوم الخلافة التقليدي، كما أن أتباعه رأوا فيها “البديل الوحيد” عن الجاهلية، وهكذا رآها “حزب التحرير”[17] أيضًا، الذي يعد جماعة متطرفة يمتد نشاطها عبر القارات، وغيره من جماعات الإسلام السياسي، وكأن الخلافة هي الدين، وأن سقوطها هو أخّر المسلمين، ومن أجل إحيائها، اصطدم بطش الإسلام السياسي باستبداد الحكومات.
ثالثًا: ثقافة الكراهية، وهي ثقافة تخاطب الجانب الغرائزي والانتماءات الأولية في الإنسان، كالقبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة وتنمي وتغذي مشاعر الكراهية والبغضاء فيه.
وهي محصلة لكل الصفات والعناصر التي تشكل تمايزًا وفروقًا بين الناس، كالتعصب والتطرف والطبقية والتنميط والإقصاء والتخوين والتكفير والاستعلاء، وهي ثقافة تعيش عليها جماعات التأسلم السياسي، ونراها تأخذ الأحاديث التي تقسم المجتمعات طبقات مؤمنة، وطبقات كافرة، يتم قتلها أو سبيها[18].
رابعًا: الشعور بالدونية… وهي تنتج الكراهية بلا شك، فهؤلاء الشباب، الملتزمون دينيًّا، المتعصبون مذهبيًّا، المتطرفون فكريًّا، هؤلاء هم أبناء ثقافة الكراهية وضحاياها… وفي تعليل ظاهرة الكراهية هناك طرح فكري سائد يربط الظاهرة بالمظالم التاريخية للغرب الاستعماري تجاه المسلمين، وهي مستمرة حتى وقتنا الحاضر في مناطق متوترة، وكذلك المرارات المترسبة في النفسية العربية والمسلمة من أيام الحروب الصليبية، كل ذلك أورث المسلمين إحساسًا عامًّا بأنهم مستهدفون من قبل الغرب العدواني المتآمر والمتربص بالمسلمين وبدينهم وبأوطانهم[19].
وهناك جانب من الطرح يعلل الظاهرة، وهي بغياب الحريات وتعسّف السلطات العربية وبطشها وقسوتها في تعذيب السجناء والتنكيل بهم وبخاصة من الجماعات الإسلامية، وعلى هذا فإن ثقافة الكراهية تأتي كرد فعل لعنف الدولة وبطشها بالحريات، بينما يذهب آخرون إلى التفسير الاقتصادي للظاهرة: كالفقر والبطالة المنتشرة والفساد ومظاهر الإثراء غير المشروع.
وهناك من يعلي من التفسير النفسي للظاهرة، ممثلًا في سلسلة الهزائم والإحباطات وفشل مشاريع التنمية والنهوض العربية.
يقولون مثلًا: لقد كنا أصحاب الحضارة التي شكلت منارة هادية لبقية الشعوب وبخاصة الأوروبية، وتخلفنا وتقدم غيرنا، يوضح عبد الوهاب المؤدب في كتابه (التأزم الخطير للعالم الإسلامي) هذا الأمر فيقول: “إن العالم الإسلامي لا يزال حتى الآن يشكو من انهيار حضارته وسبق الآخرين له، إنه لم يفق من هول الصدمة حتى الآن: فهو لا يفهم كيف يمكن للمسيحيين الأوروبيين أن يتفوقوا عليه، ويصبحوا أساتذته وأسياده بعد أن كان هو أستاذهم وسيدهم، هذا الوضع المعكوس لا يستطيع المسلم أن يهضمه حتى الآن، لأنه يعتبر نفسه المالك للاعتقاد الصحيح والآخرين على ضلال، فكيف يسبقونه إذًا وهو المفضل عند الله، وهذا العامل النفسي هو الذي يدفعه للإحساس بالمرارة والنقمة والكراهية[20].
وبناء على هذا التفسير النفسي فإن الكراهية في أساسها، ليست موجهة ضد الآخر وإن استهدفه، إنها انتقام الذات الجريحة من نفسها، وكراهيتها لنفسها ولحاضرها الذي تدهور بعد أن كان عزيزًا، إنها صورة الماضي العزيز والقادم من أعماق التاريخ محتجًا ومتمردًا على الأوضاع الحاضرة البائسة.
وهناك تبرير خطير لظاهرة الكراهية عبر تسييسها لخدمة مصالح خاصة، يرى أن (قاعدة التبرير أخطر من (قاعدة التفجير)، لأن المبرر يحاول تسييس فكر التطرف عبر إخراجه من صيغها العقائدية والأيديولوجية، إلى تصويره في هيئة الضحية التي استجابت لظروف الواقع القاسية، فالإرهابيون هم مجرد شبان صغار يائسين، أرادوا إصلاح حال الأمة، لكنهم اخطأوا الطريق، وأنهم لم يأتوا إلا من استفزاز العلمانيين/ اللبراليين لهم، أو من تفشي المنكرات أو غياب العدالة عن قضايا الأمة المصيرية أو بسبب الملاحقة الأمنية[21].
خامسًا: العزلة والهجرة، وهذا من أهم أنماط ثقافة الجماعات، فمن نظرياتهم أن العصور الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري كلها عصور كفر وجاهلية لتقديسها لصنم التقليد المعبود من دون الله تعالى، فعلى المسلم أن يعرف الأحكام بأدلتها ولا يجوز لديهم التقليد في أي أمر من أمور الدين، وقول الصحابي وفعله ليس بحجة ولو كان من الخلفاء الراشدين، أما الهجرة فهي العنصر الثاني في فكر الجماعة ويقصد بها العزلة عن المجتمع الجاهلي، وعندهم أن كل المجتمعات الحالية مجتمعات جاهلية، والعزلة المعنية عندهم عزلة مكانية وعزلة شعورية بحيث تعيش الجماعة في بيئة تتحقق فيها الحياة الإسلامية الحقيقية ـ برأيهم ـ كما عاش الرسول (ص) وصحابته الكرام في الفترة المكية، ويجب على المسلمين في هذه المرحلة الحالية من عهد الاستضعاف الإسلامي أن يمارسوا المفاصلة الشعورية لتقوية ولائهم للإسلام من خلال جماعة المسلمين، وفي الوقت ذاته عليهم أن يكفوا عن الجهاد حتى تكتسب القوة الكافية، ولا قيمة عندهم للتاريخ، لأن التاريخ هو أحسن القصص الوارد في القرآن الكريم فقط.
فلا قيمة أيضًا لأقوال العلماء المحققين وأمهات كتب التفسير والعقائد، لأن كبار علماء الأمة في القديم والحديث ـ بزعمهم ـ مرتدون عن الإسلام، قالوا بحجية الكتاب والسنة فقط ولكن كغيرهم من أصحاب البدع الذي اعتقدوا رأيًا ثم حملوا ألفاظ القرآن عليه فما وافق أقوالهم من السنة قبلوه وما خالفها تحايلوا في رده أو رد دلالته.
كما دعوا إلى أمية القراءة والكتابة[22]، لتأويلهم الخاطئ لحديث موضوع هو (نحن أمة أمية…) فدعوا إلى ترك الكليات ومنع الانتساب للجامعات والمعاهد إسلامية أو غير إسلامية لأنها مؤسسات الطاغوت وتدخل ضمن مساجد الضرار، وأطلقوا أن الدعوة لمحو الأمية دعوة يهودية لشغل الناس بعلوم الكفر عن تعلم الإسلام، فما العلم إلا ما يتلقونه في حلقاتهم الخاصة، قالوا بترك صلاة الجمعة والجماعة بالمساجد لأن المساجد كلها ضرار وأئمتها كفار إلا أربعة مساجد: المسجد الحرام والمسجد النبوي وقباء والمسجد الأقصى ولا يصلون فيها، إلا إذا كان الإمام منهم.
تلك بعض أنماط ثقافة فكر جماعات التيارات الإسلامية، أو الإسلاموية، أو المتأسلمة، كلها تتداخل لتشكل فكر أمراء الجماعات، ومن نوافل القول إن فكر الجماعات يرتبط بدون وعي مع دوائر غير إسلامية تستخدم هذا الفكر وتنميه، ليكون ثغرة قاتلة من خلالها يمكن تمزيق الأوطان وتخريب البلاد.
المبحث الثالث
مستقبل الثقافة السياسية /الدينية
للتيارات التكفيرية المعاصرة
قبل الحديث عن مستقبل الجماعات الإسلامية، لا بدّ من ملاحظة أن تلك الجماعات تفشل دائمًا عند وصولها للحكم في الحالات النادرة، ومن ثم يدور السؤال: هل الإسلام السياسي تطور مرحلي مؤقت يمر به العالم الإسلامي للخروج من الأزمات والمشكلات التي يعيشها؟ أم أنه بداية جادة لمشروع حضاري ينقل به الإسلام نفسه من ظلمات الماضي إلى العصر الحديث؟[23].
الجماعات الإسلامية فئات كثيرة، فهناك التقليديون والأصوليون والإصلاحيون والعصرانيون والمتطرفون.
وهذه مصطلحات عامة وغير محددة، والسبب في ذلك في نظره أن الجماعات الإسلامية متعددة ومتشابكة ومن الصعب التمييز الدقيق بينها، ولكن من الممكن القول عمومًا إنها تمثل قوس قزح، تتوزع ألوانه بين المحافظة والتقليد للماضي في طرف، وبين الانعتاق والتحرر والحداثة في الطرف الآخر.
على أية حال نعود لأسباب فشل الجماعات الإسلامية، أو التيارات التي تتخذ الإسلام الحنبلي/الوهابي دليلًا لها، تتلخص في الآتي[24]:
1 . فساد منشأ هذه الجماعات، فأصل الفكرة خاطئ، أو فاسد، ألا وهو تحويل الإسلام كدين إلى أيديولوجيا، وفى هذا، من دون شك، انحراف بالدين عن رسالته الأساسية التي ترمى إلى تحقيق الامتلاء الروحي، والسمو الأخلاقي، والخيرية بما تنطوي عليه من تراحم وتكافل وبذل وعطاء.
2 . ينهزم أصحاب التفكير المفضي إلى العنف دومًا بعد ما يخلفه من دم ودمار، وتلك هي حكمة التاريخ، وفى تاريخ المسلمين كانت كل أو معظم حركات التكفير، تسعى للسلطة على حساب الدين، أو من خلال توظيفه، وهي محاولات لتوظيف الدين في تبرير العنف ضد السلطة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى هزيمتها واندحاره، وبعض هذه الجماعات والتنظيمات والحركات لم يبقَ منها شيء، ولم يعد أحد يأتي على ذكرها إلا من قبيل سرد وقائع تاريخية بأقلام الدارسين والباحثين.
3 . يقدم أتباع الجماعات الدينية السياسية وعودًا تنتهي إلى لا شيء، ولا تفارق مرحلة رفع الشعارات العامة التي لا تجد ترجمة صحيحة ودقيقة وتفصيلية في أرض الواقع. وفى الزمن الحديث والمعاصر، رفعت جماعة الإخوان، على سبيل المثال، شعارات مثل: “الإسلام هو الحل”، و”نحمل الخير لكل الناس”[25].
4 . يخاصم مشروع الجماعات الدينية السياسية حركة التاريخ، أو يسير عكس اتجاهه، فالعالم يتجه في ممارسة السياسة إلى الوطنية والسلمية والعلنية والمشروعية والمدنية بما يجعل الشعب مصدر السيادة والسلطات، بينما يقوم مشروع هذه الجماعات على الأممية ومحاولة إعادة زمن الإمبراطوريات الذي فارقه العالم حين دخل إلى عصر الدولة القومية، ويميل إلى العنف في ممارساته بشتى ألوانه الرمزية واللفظية والمادية، ويفضل العمل تحت الأرض في سرية ألفها واعتاد عليها، ويرفض المشروعية والشرعية، حيث يرى في القوانين المطبقة قوانين وضعية، ويدعو إلى استبدالها بما يراها القوانين الشرعية، كما يرفض الانضواء تحت سلطان الدولة الوطنية الحديثة، وبالطبع فإن هذه الجماعات تحاول إعادة زمن دولة سلاطين الفقه إن صح التعبير، عبر ما تسمى الحاكمية.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الحركات الإسلامية
يمكن طرح [26] رؤية لمستقبل حركات الإسلام السياسي، تتلخص في خمسة سيناريوهات، هي:
1 . الاستمرار في مواجهة البيئة الإسلامية دون التكيف معها، الأمر الذي يؤدي إلى تكرار المشهد الإقصائي لهم كما حدث في العهد الناصري في مصر، مع الوضع في الحسبان أن العداء أصبح ممتدًا ليشمل المؤسسات والنظام السياسي والجماهير العادية، وهو السيناريو المحتمل.
2 . التغيير الشامل لهيكل القيادات، مع تبني مراجعة فكرية، والإقرار بالأخطاء، وهو صعب التحقق، لأنه يحتاج إلى مجهود فكري كبير، وقيادات تؤمن بالدعوة الإسلامية الحقيقية، مع الوضع في الحسبان أنه بمجرد تبني هذا السيناريو، تفقد الجماعة مواردها الخارجية، وبالتالي ستقل فعاليتها في الحركة.
3 . حدوث تغيير في هيكل القيادة، دون تغيير في أسسها المعرفية، لكن مع الاعتراف بالوضع القائم، مصحوب بالإعلان عن وقف الصراع مع المجتمع، والالتزام بقواعد اللعبة السياسية، مما يعني أن الجماعة سوف تدخل في مرحلة تكيف مؤقت مع المجتمع، ومعنى هذا أن يظل التنظيم قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة.
استراتجيات التعامل
وفي هذا السياق، يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات مستقبلية للتعامل مع حركات الإسلام السياسي، تتمثل في:
1 . التأجيل: بمعنى الإبقاء على الوضع القائم، واستمرار الحركات في العمل السياسي، مما يؤدي بالضرورة لمواجهات مستمرة – سواء عنيفة أو العكس – بينها وبين الدولة والنظم القائمة.
2 . الاستئصال: وهو سيناريو كارثي، حيث تنعكس آثاره على الدولة والمجتمع والأفراد، وتكلفته السياسية والمعنوية مرتفعة، إذ إنه من الخطأ البالغ التعامل مع هذه الحركات على أنها مجرد أفكار، وإنما بحسبانها تستند لقواعد عميقة في التكوين الاجتماعي، يصعب حلها أمنيًّا فقط، كما أنه لا يمكن ضمان عدم تجاوز الأجهزة الأمنية، مهما حسنت النوايا.
3 . المواطنة: وهو السيناريو الأقرب إلى الواقع، ويتطلب إعادة بناء الدولة ثقافيًّا، وسياسيًّا، واجتماعيًّا، مع مراعاة أن تكون نقطة الانطلاق هي المساواة بين المواطنين، وتجريم التمييز بينهم، والهدف هنا هو تصفية هذا التيار بتصفية المنابع الثقافية التي تغذي هذه الأفكار، وهو ما يقتضي استراتيجية كاملة تتضمن حزمة من السياسات، تعتمد في الجانب الأساسي منها على البناء: مثل بناء دولة القانون، وجوهرها هو الحد من السلطة المطلقة، وسياسة ثقافية شاملة لتصفية الأساس الاجتماعي لها.
ولكن يبقى التساؤل ملحًا، هل يختفي الفكر المتطرف بمجرد الدعوة للتسامح والقضاء على الفقر في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم نشر العدالة الاجتماعية والقضائية ؟!.
ربما يخف التطرف عندما يواجه بفكر رسالي، ولكنه أبدًا لا يختفي، فتحقيق نوع من العدل ودعوة التسامح الديني والقضاء على الفقر، لا يقضي على الفكرة، وفكرة التطرف لها من يرعاها دائمًا، من الخارج الاستكباري، ومن الداخل الجماعاتي، كما نلاحظ هذه الأيام.
هوامش البحث:
[1] مصطلح الربيع العربي مصطلح غربي، وقد استغلته الدوائر المخابراتية العالمية لتفتيت الأوطان العربية، ولأنه شاع في الأدبيات العربية والغربية، فقد لجأنا إليه لا لإثبات خطأ هذه التسمية فقط، لأن ما حدث ما هو إلا حراك شبه ثوري تم استغلاله حتى اليوم.
[2] د. سليم حسن، موسوعة مصر القديمة، (القاهرة: مكتبة الأسرة، 1999)، المجلد 4، الصفحة 243، ونلاحظ أن التعصب للدين القديم هو نفسه التعصب للدين المعاصر، كلها تصب في قضية نفي الآخر، وتدمير آثاره، أو قتله بعد تكفيره.
[3] عبد الغني سلامة، منهج التفكير في العقل الإسلاموي، موقع الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org ، العدد: 3318، 2011 / 3 / 27
- ويُعرّف المسيحيون المصريون هذا العصر بعصر الشهداء، وقد وقع في عام 284 ميلادي في عصر القيصر دقلديانوس، وهو يعتبر بداية العام القبطي في مصر، للمزيد: الأنبا تادرس يعقوب، تفسير العهد الجديد، (القاهرة: طبع الكنيسة الأرثوذكسية، 1975).
[4] في دراسة مقارنه كتبها الباحث الشاب المرحوم فكري عبد المطلب تحت عنوان: الفريسيون وأنصار السنة… أوجه التشابه… (القاهرة: منشورات تراثنا، 2007)… قارن فيها بين فكر الفريسيين وفكر جماعة أنصار السنة، أو جماعات التطرف بصورة عامة، وجدها متشابهه لحد كبير، في تكفير الآخر والإفتاء بقتله، ما يدل مدى تغلغل الفكر المتطرف في الديانات، الاختلاف فقط في التسميات المختلفة، فإذا كانت الأديان لها أصل واحد، فإن التطرف له أصل واحد أيضًا…
[5] منهج التفكير في العقل الإسلاموي، مصدر سابق.
[6] ويل ديورانت، قصة الحضارة، مجلد 12 عصر العقل، ترجمة: محمد بدران، (القاهرة: مكتبة الأسرة،1997)، الجزء 12، الصفحة 125.
[7] منهج التكفير، مصدر سابق.
[8] الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية، (بيروت: المكتبة العلمية، 1999)، الجزء 7، الصفحة 87.
[9] الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، خطبة 323، نسخة من الكمبيوتر.
[10] في قضية مشهورة في مصر، تم تكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد وحكمت المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته، بناء على فتاوى تكفيرية، واضطر إلى الهجرة خارج مصر، حتى توفى، وكان هناك نفر لا يريدون الصلاة عليه.
[11] د.حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، (بيروت: دار الفارابي، 2008)، ببعض تصرف، الجزء 2، الصفحة 67.
[12] جلال الدين السيوطي، جامع الأحاديث، تحقيق عاطف وفدي، (المنصورة – مصر: دار الرحمة المهداة، 2000)، الجزء 29، الصفحة 291. وانظر المتقي الهندي، كنز العمال، الجزء 11، الصفحة 283.
[13] علي أبو الخير، الأكثرية والإجماع في تاريخ الأمة، (بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2013)، فصل أنواع القتل في تاريخ المسلمين، ولا بد من قراءة الواقع فيما يقوم به الإرهابيون التكفيريون.
[14] الشيخ محمد الغزالي، الحق المر، (القاهرة: دار الشروق، 1996)، وسمّى الشيخ الغزالي تدين شباب الجماعات الإسلامية بالتدين المغشوش..
[15] للمزيد يقرأ كتاب سيد قطب “معالم في الطريق”، وهو متوافر في شبكة المعلومات الدولية، ومطبوع عشرات الطبعات، وقد اعتمدنا على نسخة لدينا من طبع رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، عام 1987، فليلاحظ ذلك.
[16] المصدر السابق.
[17] كل الأحزاب ذات المرجعيات الدينية في العالم الإسلامي تعتبر الخلافة ركن الدين، ولو تأملنا سلوك حزب الحرية والعدالة في تركيا على سبيل المثال، نجده يتغنى بفكرة الخلافة ويدعو إليها، وهو ما يحدث في باقي الأحزاب، أما جماعات التكفير، فإنها تدعو للخلافة على طريقتها الدموية بصورة عامة…
[18] ربما ما نشاهده من انتشار فكر التكفير، وصعود جماعات داعش وبوكو حرام وجبهة النصرة وغيرها من المنظمات الإرهابية تؤكد فكر الكراهية الذي تتبناه الجماعات، مع العلم أن لهم فكر مستمد من التراث الإسلامي في كتب التاريخ والفقه، والذي نطالب بنقده وتنقيته..
[19] عبد الوهاب المؤدب، نقلًا عنه من مقال منشور في جريدة الشرق الأوسط اللندنية، العدد 8769، 1/12/2002.
[20] المصدر السابق.
[21] د.فؤاد زكريا، آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة، (الإسكندرية: دار الوفاء للطباعة والنشر، 2004)، الصفحة 142.
[22] ليست كل الجماعات تنادي بالأمية، ولكن منها جماعات مؤثرة، مثل جماعة التكفير والهجرة، التي اغتالت الشيخ محمد حسين الذهبي في مصر في السبعينيات من القرن الماضي، وكانت تنادي بالهجرة والعزلة والأمية، واقتصار الحروب على السيف، ومؤسس الجماعة شكري مصطفى تأثر كثيرًا بفكر سيد قطب، للمزيد: د. رفعت سيد أحمد، قرآن وسيف، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2002).
[23] جراهام فوللر، مستقبل الإسلام السياسي، نقلًا عن كتاب الاتجاهات الغربية نحو الإسلام السياسي، لمجموعة مؤلفين، (عمّان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 2000)، ما يخص كتاب جراهام فوللر، الصفحة 113.
[24] الدكتور جمال سند السويدى، السراب… الجماعات المتطرفة.. تسويق الأوهام ومتلازمة الفشل، (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2014).
[25] شعارات “الإسلام هو الحل”، أو شعار “الخلافة هي الحل” وغيرها تقوم على مداعبة الوجدان الإسلامي دون العقل، ولا توجد تفاصيل للشعارات بما يعني أنها شعارات للتدجين الديني لصالح الهدف السياسي.
[26] د. أحمد بدوي… نقلًا عن ندوة الخطاب الديني، قامت بتغطيتها أميرة البربري، مستقبل حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي، مجلة السياسة الدولية، القاهرة، عدد يناير 2015.
المقالات المرتبطة
بناء الدولة الحديثة عند الشهيد السيد محمد باقر الصدر(قده)
محمد باقر الصدر(قده) مرجعًا دينيًّا تقليديًّا، اهتم بمسائل العبادات والمعاملات وحسب، بل كان إنسانًا عالمًا مطّلعًا على مسائل العصر بمختلف أنواعها
الفكر العربي الحديث والمعاصر | علي زيعور والمدرسة النفسية
وُلِد علي زيعور في بلدة عربصاليم في إقليم التفاح جنوب لبنان عام 1937، وهو على الرغم من اهتمامه بالسير الذاتية
حضور صدر الدين الشيرازي في الدراسات الفلسفية العربية- المرحلة الثانية
الأجواء التي برزت على مستوى الدراسات الفلسفية، هيّأت الأرضية لبروز “مدرسة الحكمة المتعالية” كفلسفة متميزة، وترافق هذا الأمر بالحراك الثوري في إيران