الفكر العربي الحديث والمعاصر | زكي نجيب محمود ورؤيته الفلسفية (4)
انشغال زكي نجيب محمود بالفلسفة اللغوية، لم يجعله يأخذ الاتجاه المفاهيمي والفلسفيّ الغربيّ دون محاكمة أو إخضاعها للخصوصية الإسلامية، حيث يشكل الإنسان ككائن فرديّ ركيزتها إلى جانب الذات الإلهية؛ وانطلق في هذه الرؤية من: “النظرة الثنائية التي تناسبنا، هي نظرة متميزة فريدة تجعل الكائن الإلهي الواحد المطلق في جهة، وتجعل الأفراد الجزئية من جهة أخرى، ثم تقسم عالم الأفراد هذا إلى كثرة من عناصر بالنسبة إلى أفراد الناس، […] لأنّها نظرة تأبى أن تطمس الفرد الإنسانيّ الحر المسؤول في عجينة واحدة مع سائر مفردات العالم الطبيعيّ”[1].
فالإنسان ككلمة كليّة لغو لا قيمة ولا معنى لها، ففي عالم الطبيعة لا وجود إلا لزيد وعمرو و… والسلوكيات التي يقومون بها، والتي تظهر من خلال وحدة الفعالية، وهذا لا يعني اعتبار هذا الكائن كائنًا ماديًّا فحسب، فهو في حقيقة الأمر كائن حر وعاقل، وعلى هذا الأساس لا يكون التعاطي معه انطلاقًا من البنية الطبيعية فحسب إنّما في بنيته النفسية والاجتماعية، ولعلّ هنا يكون الحافز للانتقال بالإنسان من العلم الطبيعيّ إلى العلم الإنسانيّ الاجتماعيّ.
وهكذا، نرى أنّ زكي نجيب محمود يريد للإنسان أن يكون قاعدة الفكر الفلسفيّ، وهو ما لا نستطيع أن نعاينه إلا في سياق الحياة الاجتماعية، حيث: “حياة الإنسان مدارًا ومعيارًا لا يعلو عليه مدار ومعيار[…] وأن نكتفي بالطبيعة التي بين أيدينا لا نجاوزها إلى ما فوقها أو وراءها، حتى لا يسيغ البصر من هنا إلى هناك فتضيع من أيدينا “هنا” دون أن ندري ماذا “هناك”، أي تضيع حياة الإنسان من أجل مجهول”[2]، وهذا الموقف يغلِّب الواقعي دون أن يغفل حرية الإنسان في اختيار ما يراه مناسبًا له، يقول محمود: “أن يؤمن الناس بقدراتهم على فرض سيطرتهم على الطبيعة بالكشف العلمي عن قوانينها[… بالإضافة] إلى القول بحرية الإنسان حرية مطلقة في اختيار ما يفعله وما لا يفعله”[3].
وفي خضم هذه الواقعية المفرطة تصبح لغة الإنسان هي الإنسان، لأنّ ما نتحدث عنه غير مفارق لما هو موجود في الواقع، فهذا الكائن وصل إلى الإنسانية من خلال اللغة المتصلة بالعقل والإرادة التي تحمل عبر الرمز كلّ ما يدور في ذات الإنسان ومعه، ولعلّ هذا ما يجعل آدم رائدًا للإنسانية، يقول محمود: “والآدمية الصحيحة أن يتصرف الآدمي كما تصرف آدم نفسه[…]لقد جاء خروج آدم من الجنة رمزًا لما يتفرد به الإنسان دون سائر الكائنات جميعًا[…] بل كان خروجه من الجنة أول عمل فيه تفكير، لأنّ التفكير كذلك هو في اختيار لطريق دون أخرى[…] كان خروج آدم من الجنة رمزًا لتقرير الذات الفردية”[4]. وتركيز زكي نجيب على الإرادة انطلق من خصوصية هذا الأمر في حياة الإنسان العربي، الذي يُعطي الأولوية للعمل على حساب المعرفة، ويقول حول هذا الموضوع: “الفعل وديناميته، لا العلم المجرد في ثباته وسكونه، هو حجر الزاوية من البناء الإنسانيّ من وجهة النظر العربية. وأحسب أنّ ذلك قد انعكس في اللغة العربية وطرائق بناءها، فهي تبدأ الجملة بالفعل وتعقب عليه بالفاعل…ولما كان الفعل ينم في الأغلب عن إرادة، ثم لما كانت الإرادة توشك أن تنحصر في الإنسان دون سائر الكائنات في العالم المخلوق، كانت الوجهة التي تشغل الثقافة العربية، ليست هي مواجهة الإنسان بعقله للطبيعة بخصائصها ابتغاء الوصول إلى قوانين العلوم الطبيعية، وإنّما هي مواجهة الإنسان بإرادته للمجتمع الإنسانيّ في فاعليته، وأوجه نشاطه، ابتغاء المشاركة في فعل موحد يوصل إلى أهداف ترضى عنها القيم العليا”[5]. وهذا الكلام الذي يسوقه زكي نجيب محمود يماثل الإنسان اللغة، فطريقة بناء الجملة تعكس ميزة تسبق الفعل والإرادة على غيرهما.
وهذا الإنسان اللغوي الرمزيّ في فلسفة محمود المنفتح على العقل والحسّ، لا يُلغي جانبًا آخر في الإنسان بحسب تصوره وهو القائم على الوجدان والمشاعر، ولكلّ جانب مهامه الخاصة ووصائفه ومجالاته، فالأول مختص بالعلم والعمل، بينما الثاني يذهب باتجاه الدين بكل تفصيلاته والفن والآداب، وهذا لا يعني تشظِّي الإنسان وانقسامه، فالإنسان واحد ولكن أبعاده متعددة:
ويعتبر محمود أنّ هذه الرؤية متصلة بالقرآن الكريم، حيث ورد قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَ﴾([6]، وهذا ما يجعل الإنسان: “عابد لله وهو في مجال دينه، وهو أبضًا عابد لله وهو في دنيا العلم والعمل فوق هذه الأرض”[7].
وهذا التحليل للإنسان يقتضي مع زكي نجيب محمود تحويل معنى العقل من الرؤية التقليدية التي تقوم على اعتباره مفهومًا، إلى أخرى تعتمد المصداق، فالعقل معه يدخل ضمن الكلمات التي تضغط لنا جملة كاملة، ففيها نجد: “ذكاء، ومعرفة، وإرادة، ونوازع ومشاعر، وإدراك بالحواس واستنباطات رياضية، وخيال وتذكر، وعشرات الجوانب الأخرى، مما يكون موضوعًا علميًّا لعلم بأسره هو علم النفس، فضلًا عن الفلسفات التي عنيت بتحديده وتحليله عن طريق الاستبطان والحدس والتأمل”[8]، وهذا ما يجعل العقل فاعلية يتمظهر في أفعال ومواقف في العالم، وهو وإن تبلور في مظاهر فردية فهذا لا يعني أنّه لا يمكن أن يتحول إلى حالة جمعية عندما يطبع المجتمع بطابعه الخاص، وهذا ما دفعه إلى اعتبار الحضارة الغربية حضارة عقل: “طابعه الأصيل العميق هو النظر إلى الوجود الخارجيّ، بعقل منطقيّ تحليليّ يقف عند الظواهر مشاهدًا لها، وهي تطرد وتتابع، فيجعل من إطراد الحدوث على وتيرة واحدة قانونًا علميًّا، ولا بدّ لمثل هذه النظرة، من السير في خطوات استدلالية، تنزع النتائج الصحيحة، وتلك هي نظرة العلم”[9].
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ محمود يشبه المجتمع بالإنسان الفرد ويربط بينهما ربطًا وثيقًا، فالمراحل التي تمرّ بها الحضارة مماثلة لمراحل نمو مدارك الفرد الواحد:
الحضارة الإنسانية تجارب أولية بالعالم المحيط وظواهره (التعبير الأسطوريّ) عصر العقل.
الفردية الإنسانية الطفل يبدأ بالتقاط اللغة ويحاكيها معرفة كيفية استخدام اللغة في أمور الحياة.
فالعقل فاعلية تحليلية يتسلط على المبادئ لاستخراج الأحكام، وهذا ما لا يتوافق مع الحدس والشعور الذي تتسم به الحضارة العربية الإسلامية في بعض حقبها التي ساد فيها اللامعقول في الألفاظ والكلمات: “وحسبنا من لا معقولية هذا العصر أن نرى كم من الألفاظ الضخمة التي تحرك جماهير الناس إلى حدّ القتال وسفك الدماء. إنّما هي ألفاظ تسير الناس، لا بما تدل عليه في وقائع الدّنيا حولهم، بل بما ربطه لهم أولوا الأمر في أنفسهم من معان لها […] لأنّ أمثال تلك الألفاظ الهامة الملقنة المحفوظة بما تستتبعه من ردود الفعل، هي في الحقيقة شحنات وجدانية يشحن بها صدر الآدمي ودماغه […] فماذا تكون اللاعقلية إن لم تكن هذه الحالة واحدًا من معالمها”[10].
وهذا التصور يجعل من العقل ضابطة صارمة، تقوم على قواعد واضحة تظهر النتائج وتعرفها بشكل دقيق، ولعلّ هذا ما ميّز الجاحظ في تاريخ الأدب العربي، إذ قام بنقل من الشاعرية الوجدانية إلى النثرية العلمية، وهذا ما فعله إخوان الصفاء في نقل الفكر من الرومانسية الشعورية إلى الفكرية العلمية.
فمحمود يريد أن ينتقل بالعقل من طابعة الروحيّ المنفصل عن الجسد إلى الجانب السلوكيّ، حيث يصبح مشدودًا إليه متصلًا به، حيث يتجلى بالخارج من خلال أقوال واضحة ودالة وأفعال يمكن مراقبتها والحكم عليها انطلاقًا من النتائج التي توصل إليها، دون أن يعني ذلك اعتبارهما أمرًا واحدًا: “فالعقل بداهة ليس عضوًا من أعضاء الجسد كاليدين، والقدمين، والقلب، والمعدة، بل إنّه ليس هو المخ الذي هو كتلة من مادة تملأ تجويف الجمجمة، بل العقل وظيفة يؤديها من أجهزة البدن ما يؤديها، وأرجو أن تفرق بين العضو والوظيفة، فليست اليد هي عملية القبض على الأشياء […] وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من البدن، وتتميز تلك الوظيفة بنمط معين من الأداء هو الذي نسميه عقلًا[…]وإذا شئت فقارن بين رجلين: رأيت أحدهم يحطم أثاث بيته من شدة الغضب، والآخر يجلس إلى مكتبه محاولًا إقامة البرهان على نظرية هندسية، فكلتا الحالتين سلوك، لكنّهما سلوك من نمطين مختلفين وثانيهما دون أولهما هو عقل”[11].
وما قدمنا يثير مجموعة من الأسئلة :
- هل صحيح أنّ موضوع الفلسفة هو الإنسان؟ وهل هذا الكلام يقود بشكل تلقائي إلى إلغاء موضوع الفلسفة كما ورد في التعريفات التقليدية؟
- هل صحيح أنّ اللغة هي الإنسان، وكلما توضحت اللغة، أصبح فهم الإنسان ممكنًا؟
- وهل أزمة الإنسان المسلم في اللامعقول القائم على النظرة الميتافيزيقية؟ وهل علينا أن نغير نظرتنا إلى العقل، ونعتبره مجرد فعالية ربط وتحليل؟
- هوامش البحث:
[1] تجديد الفكر العربي، مصدر سابق، الصفحة 284.
[2] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق. الصفحتان 464- 465.
[3] المصدر نفسه، الصفحة 465.
[4] زكي نجيب محمود، شروق من الغرب، مصدر سابق. الصفحتان 76- 77.
[5] زكي نجيب محمود، نافذة على فلسفة العصر، سلسلة كتاب مجلة العربي، الكويت، الكتاب 27، 14 افريل 1990، الصفحتان 58-59.
[6] سورة الشمس الآيات 5 و6و7و8.
[7] زكي نجيب محمود، في تحديث الثقافة العربية، مصدر سابق، الصفحة 77.
[8] زكي نجيب محمود، وجهة نظر، مصدر سابق، الصفحة 109.
[9] زكي نجيب محمود، أفكار ومواقف، مصدر سابق، الصفحة 48.
[10] زكي نجيب محمود، المعقول واللامعقول، مصدر سابق. الصفحة 372.
[11] زكي نجيب محمود، بذور وجذور، مصدر سابق، الصفحة 177.
المقالات المرتبطة
الفكر العربي الحديث والمعاصر | علي زيعور رائد المدرسة النفسانية العربية – المؤلفات والتسويغ للمشروع
يعتبر الدكتور علي زيعور الرائد في مجال النفسانيات، فهو من الأوائل الّذين أدخلوا هذا العلم إلى العالم العربيّ، ويمكن اعتباره
المفهوم السياسي لمصطلح أهل السنة والجماعة
الكثرة الغالبة من المسلمين يتبعون مذهب ما يُعرف بأهل السنة والجماعة، وكان من المفترض المنطقي أن يكون أهل القرآن والجماعة
مسيرة ومحاولات تجديد الخطاب الديني في مصر
بعضهم يساري مثل عبد الرحمن الشرقاوي، وكاتب إسلامي مثل خالد محمد خالد، وبعضهم ليبرالي مثل القاص والأديب نجيب محفوظ، الذي لم يكن باحثًا ولكنه في رواياته يدين وينتقد الخطاب الديني