المفهوم السياسي لمصطلح أهل السنة والجماعة
مقدمة
الكثرة الغالبة من المسلمين يتبعون مذهب ما يُعرف بأهل السنة والجماعة، وكان من المفترض المنطقي أن يكون أهل القرآن والجماعة، وهو ما نرمي للحديث عنه وفيه…
وقبل كل شيء نثبت أن المسلمين على اختلاف مذاهبهم يحبون القرآن الكريم، وعلى مدى مئات السنين، حفظ الملايين من المسلمين القرآن كاملًا، وهو حفظ روحي قلبي متماسك، بعض من حفظ القرآن وضع فهمًا قاصرًا للآيات القرآنية، فسار في درب الإرهاب.
وفي المقابل أدرك الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والرؤساء مدى حرص المسلمين على تلاوة القرآن وحفظه، فاستغلوا هذا الحب، وقاموا عبر العصور، على تكريم حفّاظ القرآن الكريم، وجعلوا يوم ختم القرآن يوم تكريم، ولكنهم في المقابل لم يعطوا جوائز أو تكريم على فهم القرآن الكريم، فقد خشي من ثورة يقوم بها من فهم القرآن ثوريًّا، كما حدث مرارًا في تاريخ المسلمين، وأيضًا هؤلاء الحكّام أنفسهم، هم من قتلوا العارضين والمفكرين الذين فهموا القرآن فهمًا نورانيًّا وليس حفظًا فقط.
ولا ننتقد مصطلح أهل السنة والجماعة، فهذا ليس تقليلًا من شأن مذهب أهل السنة والجماعة، ولا أي مذهب آخر يتعبّد به المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
والمؤكد أن مصطلح “أهل السنة والجماعة” شاع وانتشر وحظي بالقبول من أكثر أبناء الأمة، في مقابل الطوائف الإسلامية الأخرى، مثل الشيعة والإباضية والظاهرية، ويشمل مصطلح أهل السنة والجماعة المذاهب الأربعة الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وهي كلها أمور معلومة ومعروفة.
لماذا ليس أهل القرآن والجماعة؟
ولكن يظل التساؤل حائرًا، لماذا أهل السنة والجماعة، وليس أهل القرآن والجماعة، فالقرآن الكريم هو الأصل، والسنة فرع، القرآن ثبوتي، والسنة ظنية، ثم أين هي الجماعة الواحدة التي ينتسب إليها المسلمون؟ كلها تساؤلات حقيقية نبحث عنها، لا من أجل البحث، ولكن من أجل التأكيد على أن جماعات الإرهاب السياسي المنتسبة للإسلام، ورجال الدين الذين يريدون تجديد الخطاب الديني يأخذون الدين بعيدًا عن القرآن الكريم وروحه، بعد أن أضاعت الأحاديث الموضوعة منهج الإسلام الرباني المصدر، المحمدي الأداء.
إن مصطلح أهل السنة والجماعة مصطلح مطاط، فالمسلمون يدينون بمذاهب متعددة كلها جميعًا تعود إلى السلف وتدخل في إطار الاجتهاد، سواء فيما يتعلق في الفقه أو المعاملات. صحيح أن الأزهر الشريف على سبيل المثال، قام على أساس أنه يمثل أهل السنة والجماعة، والأزهر له اجتهادات متنوعة ومتعددة، ففيما يتعلق بالعقيدة، خاصة فيما يسمّى بالعقيدة الأشعرية التي تؤول صفات الله جل وعلا.
وأما ما يتعلق بالفقه الإسلامي فقد تنوع الفقه الأزهري، بحيث أخذ من كل المذاهب، ولنضرب مثالًا على ما نقول، المصريون ظلوا منذ الدولة الأيوبية على مذهب الإمام الشافعي في العبادات المختلفة.
أما في الزواج فقد أخذت مصر منذ قرون بمذهب أبى حنيفة النعمان، لأنه المذهب الذي أقرّ بأن للمرأة أن تزوج نفسها بدون ولي، ولا يشترط عدالة الشاهدين، كما أنه قال بأن دية المرأة تعادل دية الرجل وغيرها من الفتاوى الحياتية والشخصية.
المصطلح الديني لأهل السنة والجماعة
الفقهاء يعرّفون المصطلح بقولهم: “إن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة الذين أخبر النبي (ص) عنهم، بأنهم يسيرون على طريقته دون انحراف، فهم أهل الإسلام المتبعون للكتاب والسنة، المجانبون لطرق أهل الضلال، كما روى الترمذي قول النبي (ص): “إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة”، فقيل له: ما الواحدة؟ قال: “ما أنا عليه اليوم وأصحابي”، أي أن نسبة 1.3% فقط هم الناجون، والباقي في النار، وقد تسابق الوهابيون السلفيون على تلك النسبة، وقتلوا وسفكوا تحت شعار الفرقة الناجية، أما باقي المسلمين من أهل السنة والجماعة، فقد أوّلوا الحديث، فلا يخرجون أهل القبلة من المسلمين من ربقة الإسلام.
وقد سمّوا “أهل السنة” لاستمساكهم واتباعهم لسنة النبي (ص)، وسُموا بالجماعة، لقول النبي (كما رووا): “هم الجماعة”، ولأنهم جماعة الإسلام الذين اجتمعوا على الحق، ولم يتفرقوا في الدين، وتابعوا منهج أئمة الحق، ولم يخرجوا عليه في أي أمر من أمور العقيدة، وهم أهل الأثر أو أهل الحديث.
وأضاف الوهابيون كعادتهم بطبيعة الحال أنه “من كان على الحق، فهو جماعة ولو كان فردًا واحدًا”، وهو أمر مفهوم لأناس اعتقدوا أنهم احتكروا الحق، أو نصروا الباطل ولم يخذلوا الحق، ثم جاؤوا بالبراهين المؤيدة لأقوالهم؛ أي أنهم وضعوا النتيجة النهائية، ثم رصدوا الدرجات بحيث تتفق مع تلك النتيجة.
الظهور السياسي لمصطلح أهل السنة والجماعة
منذ بداية الدعوة الإسلامية، كان يوجد مصطلح شيعة علي، حتى أثناء العهد النبوي، فكل الصحابة مسلمون، ولكن يوجد من يوالون الإمام علي ويميزوه عن غيره، ولم تحدث أي مشاكل سياسية، ولم يكن موجودًا مصطلح أهل السنة، ولكن بالعودة إلى كيفية وسبب انتشار مصطلح أهل السنة والجماعة، كان سياسيًّا بامتياز، ذلك أنه في حرب صفين، وعندما رُفعت المصاحف من قبل أصحاب معاوية وعمرو بن العاص، طلب علي بن أبي طالب (ع) من أصحابه أن لا ينخدعوا بمكيدة رفع المصاحف، وقال عن المصاحف: “لقد قاتلتهم على تأويله كما قاتلتهم على تنزيله”، فقد تأول معاوية الآية القرآنية 33 من سورة الإسراء ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً﴾، ليبرر لنفسه الخروج عن الجماعة التي تمزقت منذ الجمل ثم صفين، وهو تأويل فاسد، وقد لجأ للتأويل الفاسد، لأنه لم يجد حديثًا يعتمد عليه في الخروج على أمير المؤمنين (ع)، ولكنهم رأوا مخرجًا بعد مذبحة كربلاء، فرووا حديثًا موضوعًا يبرئ ذمتهم أمام الناس، فقد رووا عن النبي (ص)، أنه قال في حديث أخرجه مسلم “من أتاكم وأمرُكُم جَمِيْعٌ على رجل واحد، يُريد أن يَشُقَّ عَصَاكُم، أو يُفَرِّقَ جَمَاَعَتَكُم، فاقتُلُوهُ بالسيف كائنًا من كان”، ورغم أنه حديث مروي في العصر العباسي، لكن الإمام مسلم أخذه بالتصديق، وزاد بعضهم أن قال مثل “محي الدين بن العربي” في كتابه “العواصم من القواصم”: “إن الحسين قُتل بشرع جده”، صحيح أن المسلمين يحبون الحسين وأهل بيت النبي عليهم السلام، وهو حب روحي، وغير ثوري في نفس الوقت، وحديث شق العصا، اعتمد عليه الخلفاء والسلاطين لقتل المعارضين بحجة أنهم شقوا عصا الجماعة المسلمة، وهي تخريجات لا شأن لعوام المسلمين بها، وهنا بدأ يظهر مصطلح أهل السنة والجماعة ضد الشيعة، فهم ثوار دائمًا، وكان لا بدّ من وجود تيار ديني يغطي الدور السياسي- الاستبدادي.
تدوين الحديث
كانت الأمة تأخذ دينها منذ وفاة الرسول الكريم، وحتى رفع المصاحف، من القرآن وتفسيراته، فالمسلمون ظلوا منتبهين أن الرسول منع كتابة السنة أو الحديث النبوي.
ومن ثمّ لم يأت ذكر السنة إلا نادرًا في ذاك العصر الأول، لكن وبعد مقتل الإمام علي (ع)، ثم مجزرة كربلاء عُرفت جماعة باسم الشيعة الذين كان اسمهم معروفًا منذ زمن النبوة، وكان لا بدّ من وجود مصطلح ليصد الفكر الرسالي، وتحالف في ذلك كثير من الفقهاء مع كثير من الحكّام، لأنه في مقابل كل تلك الطوائف الإسلامية المختلفة مثل القدرية والمرجئة وغيرها، لم تعرف الأغلبية التي تدين بالطاعة قهرًا للخلفاء الأمويين والعباسيين اسمًا لها، هم مسلمون وكفى، يجرى عليهم ما يشاء الخليفة، ويعتقدون بقداسة منصب الخليفة، وظل القرآن الكريم والسنة العملية هي التي يدين بها هؤلاء الكثرة الغالبة.
ولم تدون الأحاديث إلا في العصر العباسي، وشاع مذهب القدرية بين المسلمين، والذي يرى أن كل شيء مكتوب، وليس منه مهرب، خاصة في منع الخروج على الحاكم، ثم شاعت أحاديث تحض على طاعة الخليفة، حتى لو أخذ المال وضرب الظهر وقطع الرأس، وخلال أواخر العصر الأموي بدأت تخرج أحاديث مثل (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، وحديث: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، ولم يرد مثلًا أي حديث يقول: (من رغب عن قرآني فليس مني).
عمر بن الخطاب نفسه رفض بشدة تدوين السنن، بعد أن ظل يستخير الله شهرًا، وضرب المكثرين من الرواة خاصة أبو هريرة، وأوصى الجيش الفاتح لفارس أن لا يشغل المسلمين عن القرآن بالحديث.
اعتماد كتب الحديث مقابل كتاب الله
في كل الأحوال، اعتمد الخلفاء العباسيون كتب الصحاح والأسانيد، وصارت كلها من المعلوم من الدين بالضرورة، ثم بدأ استعمال مصطلح أهل السنة والجماعة رسميًّا.
وتداوله المسلمون في بداية العصر العباسي الثاني، عام 445 هـ/ 1054م بعد سقوط الدولة البويهية الشيعية على يد السلاجقة الأتراك المتطرفون، في عهد الخليفة القائم بأمر الله العباسي، للتفريق بين الشيعة، وبين أغلب المسلمين.
والإمام علي (ع) أدرك ذلك منذ البداية، فقال لأبي ذر الغفاري عندما أخرجه عثمان منفيًّا مطرودًا، قال الإمام (ع) في موعظته لأبي ذر (ولا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه)، وهو قول صائب، فدائمًا أهل الحق قليل، ودائمًا القرآن ينص على أن أكثر الناس لا يعقلون – لا يعلمون – لا يفقهون… إلخ.
لقد كان القرآن مقدمًا على كل ما عداه، ولكم ابتعد عنه المسلمون منذ بداية الإسلام، كلما ابتعدوا عن القرآن واقتربوا مما دونوه في كتب السنن والسير.
البعد التدريجي عن القرآن وتقديس الحديث
ينتمي أغلب أهل السنة والجماعة إلى المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، ولو تأملنا أصحاب المذاهب السنيّة الفقهية الأربعة، لوجدنا أقربهم في الاعتماد على القرآن أقربهم لعصر التابعين، فكانوا أقرب للنهج النبوي، ومنهم من تعلّم على أفكار أئمة أهل البيت (ع)، ومنهم من عاصر هول كربلاء..
أبو حنيفة النعمان اعتمد الرأي المتفق مع القرآن، فقال مثلًا دية المرأة نفس دية الرجل، وأن المرأة يمكن أن تزوج نفسها بدون ولي كما ذكرنا، وأنكر معظم الأحاديث، وكانت فتاواه قريبة من الفهم النبوي بصورة نسبية، وكانت تلمذته على يد الإمام جعفر الصادق (ع) من أسباب نهله من القرآن، وتعرض للتعذيب أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، ومات داخل سجن أبي جعفر المنصور.
والإمام مالك أخذ برأي أهل المدينة وقدمه على الحديث الأحادي، وابتعد معه القرآن خطوة للوراء، رغم وجود الآلاف التي تحفظ القرآن كاملًا عن ظهر قلب.
أما الإمام الشافعي فقد أخذ بالحديث والرأي، وأسس ما عُرف بعلم أصول الدين، وكان من المفترض تطور الفقه والنهل من القرآن، ولكن حدث خلاف فقهي بين الشافعي والإمام مالك، فقام جهلاء المالكية، بضربه في مسجده بالنعال، ومات بسبب الضرب في مدينة القاهرة، وضاعت على الأمة فكرة العودة للأصل القرآني والفهم النبوي.
في النهاية، تغلّب فكر الحديث على فكر القرآن، عندما جمع الإمام ابن حنبل الحديث، فجاءت أحاديث كثيرة في مسنده، تنقض القرآن وروح التسامح فيه، ثم جاء البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، فرووا بما يعارض القرآن. وكان عصر الخليفة العباسي المتوكل بداية الجمود والخمود الفكري، حيث انتصرت الآراء على النصوص، وانتصرت أحاديث طاعة الحكام على فكر الثورة.
لقد ضيّق ابن حنبل الفقه، ثم ضيّق ابن تيمية ما هو ضيق، وضيق الوهابيون ما هو أضيق، فبدأت أفكار التكفير تظهر في فترات الضعف، ثم خرجت في العصر الحديث جماعات التكفير، وجميعهم يدينون بالولاء لمذهب ابن حنبل، ثم ابن تيمية، ثم لابن عبد الوهاب، كلها سلسلة متصلة.
خاتمة
نختم بكلام من أصدق ما قيل في هذا الأمر، هو ما قاله الشيخ المعاصر محمد الغزالي في كتابه “العودة إلى القرآن لماذا وكيف”، قال: “هجر المسلمون القرآن إلى الحديث، ثم هجروا الأحاديث إلى أقوال الأئمة، ثم هجروا أقوال الأئمة إلى أسلوب المقلدين، ثم هجروا المقلدين وتزمتهم إلى الجهال وتخبطهم… وكان تطور الفكر الإسلامي، على هذا النحو، وبالًا على الإسلام وأهله…”. وأضاف الغزالي: روى ابن عبد البر عن الضحاك بن مزاحم: “يأتي على الناس زمان يعلق فيه المصحف حتى يعشش عليه العنكبوت، لا ينتفع بما فيه، وتكون أعمال الناس بالروايات والحديث. وسبيل الرشد في هذه العماية أن نعود إلى القرآن، فنجعله دعامة حياتنا العقلية والروحية، فإذا وصلنا إلى درجة التشبع منه، نظرنا في السنة فانتفعنا بحكمة رسول الله (ص) وسيرته وعبادته وخلقه وحكمه.
ولا يجوز أن يتكلم في السنة رجل قليل الخبرة بالقرآن، أو قليل الخبرة بالمرويات أو ضعيف البصر بمواقعها ومناسباتها…. إذن فما يحدث للقرآن الآن من تعامل شاذ وغريب، ما هو إلا نتاج ميراث ورثناه من القرون الماضية، تحول فيها المسلمون عن القرآن بالتدريج حتى صار إلى ما هو عليه الآن، وحين يتساءل بعضنا عن عدم قدرتنا على الانتفاع بالقرآن كما انتفع به الصحابة، لا بدّ أن تبدأ الإجابة بتشخيص حالنا مع القرآن”.
وذلك ما نقصده من المقال، لا بدّ من العودة إلى الجذر الإسلامي الأول، وهو القرآن العظيم، ليكون كل المسلمين (أهل القرآن والجماعة)… كل المسلمين بعيدًا عن أي تصنيف، هذا إذا أردنا أن يكون المسلمون جماعة، جماعة قرآنية، الخلاف حولها سيكون بسيطًا… والأمر لله من قبل ومن بعد…
المقالات المرتبطة
منهجية سيد قطب في قراءة الإسلام
شكّل الإسلام السياسي منذ سقوط السلطنة العثمانية، وإلى يومنا هذا، الشغل الشاغل للمهتمين بالواقع السياسي للعالمين العربي والإسلامي…
مقاربة الوجود في الحكمة المتعالية وفق صياغة فلسفية (1)
واجهت الفلسفة في العالم الإسلامي هجومًا شديدًا وعداءً سافرًا في تهافت الغزالي، وفتاوى ابن الصلاح، ومقدّمة ابن خلدون، وموقف ابن تيمية ومدرسته.
الشيطان وتكامل الإنسان(3)
عرّف القرآن إبليس بوصفه عدوًّا مبينًا للإنسان ﴿اَلَمْ اَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ اَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾