تاريخ علم الكلام | الدرس السادس | كلام غير الإماميّة في حقبة التنظير: عقائد المعتزلة

تاريخ علم الكلام | الدرس السادس | كلام غير الإماميّة في حقبة التنظير: عقائد المعتزلة

أهداف الدرس

1- تبيين أهمّ أفكار المعتزلة الكلاميّة ومعتقداتهم؛

2- إيضاح الاختلافات داخل مدرسة المعتزلة؛

3- تحليل التحوّلات الأساسيّة التي طرأت على الفكر المعتزلي.

 

تذكرة

تبيّن في الدرس السابق أنّ مدرسة المعتزلة الكلاميّة هي إحدى أهمّ المدارس الكلاميّة عند أهل السنّة، وأنّ هذه المدرسة القائمة على منهج عقليّ كانت قد ظهرت في بدايات القرن الثاني للهجرة، وبعد طيّها لسير تكامليّ وصلت في القرنَين الرابع والخامس إلى أوجها، وقدّمت في نهاية المطاف نظامًا كلاميًّا منسجمًا.

وتبيّن أيضًا أنّ هذه المدرسة قد عرفت تشعّبات وانقسامات في تاريخها، كان أهمّها ظهور فرعَيها المتمثّلَين بمعتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، اللّذَين عرفا اختلافات جدّيّة في مواضيع عدّة. وقد قدّم علماء المعتزلة أصولًا خمسةً بوصفها أصولًا مشتركةً بين متكلّمي المعتزلة، بنحو يُعرف الشخص على أنّه معتزليّ بقبوله لهذه الأصول، ولو أنّ شخصًا أنكر أيًّا منها فلا يُعدّ في مصافّ المعتزلة، وإن اتّفق معهم بقبوله لباقي الأصول. هذه الأصول كانت عبارةً عن: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتَين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

القضيّة الهامة هنا هي أنّ المعتزلة بيّنت اختلافاتها عن باقي الفرق والمدارس الكلاميّة والفكريّة ضمن هذه الأصول الخمسة، وبعبارة أخرى فإنّ كلّ واحد من هذه الأصول يوضح تفاوت المعتزلة واختلافها عن مدرسة فكريّة أو أكثر. ويرى المعتزلة أنّ كلّ شخص يخالف فكرهم في أحد هذه الأصول الخمسة كافر أو فاسق أو مخطئ ولا يُعدّ معتزليًّا.

يكمن اختلاف المعتزلة عن كلّ من الملحدين والمعطّلة والدهريّة والمشبّهة في أصل التوحيد، ويظهر اختلافهم عن جميع الفرق والتيّارات الجبريّة في أصل العدل، فيما يوضح أصل المنزلة بين المنزلتَين اختلافهم مع التيّار الفكري للخوارج. وفي النهاية، كان طرح أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرساؤه من قِبَل بعض المعتزلة من أجل بيان الاختلافات بين آراء المعتزلة والتيّار الفكري والكلامي للشيعة.

الأصول الاعتقاديّة عند المعتزلة

الأصل الأوّل: التوحيد

يُعدّ أصلا التوحيد والعدل أهمّ الأصول الفكريّة للمعتزلة والتي على أساسها اكتسبت هذه الفرقة أسماء من قبيل <أهل التوحيد والعدل> و<أهل العدل> و<العدلية> و<الموحّدة>، ويمكن القول إنّ أكثر الأبحاث الكلاميّة في مدرسة المعتزلة تتعلّق بتبيين هذَين الأصلَين وتوضيحهما.

ويعني أصل التوحيد في اصطلاح متكلّمي المعتزلة أنّ الإنسان مكلّف بأن يعترف بالله الواحد، فالله واحد لا يشاركه غيره في الصفات التي يستحقّها. وقد كان تأكيد المعتزلة على مسألة التوحيد يتمحور في الأساس حول مسألة الصفات الإلهيّة، وكان التأويل العقلي للصفات الخبريّة هو ما شكّل الاختلاف الأساس بينهم وبين أصحاب الحديث وتيّارات أخرى كالحشويّة والمشبّهة، وهو أحد الأبحاث الواسعة التي بُحثت في أصل التوحيد.

كان المعتزلة يؤوّلون – استنادًا إلى العقل وأحكامه – الصفات الإلهيّة الواردة في القرآن الكريم أو الروايات التي تشير ظواهرها إلى معان تشبيهيّة وتجسيميّة. ومن نماذج هذا التأويل ما يُذكر في مسألة اليد التي استُعملت في بعض الآيات الكريمة مثل {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}[1] أو {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}[2]، حيث ذكروا أنّها بمعنى القدرة. فالمعتزلة اعتبروا أنّ استعمال اليد في مثل هذه الموارد بمعناها الظاهريّ مستلزم للتشبيه، وبما أنّهم ينزّهون الله عن كلّ شبه بالمخلوقات، حملوا هذه الصفات – كاليد هنا – على معنى آخر من المعاني التي تحتملها هذه الكلمات والأوصاف.

ومن المواضيع الأخرى التي بحثها المعتزلة في أصل التوحيد التمايز بين صفات الذات وصفات الفعل، حيث قسّموا الصفات الإلهيّة إلى قسمَين: ذاتيّة وفعليّة. فأمّا الصفات الذاتيّة فهي صفات قديمة أزليّة ولا يمكن أن نسلبها عن الله، وأمّا الصفات الفعليّة كالخالقيّة والرازقيّة فهي صفات حادثة وناتجة عن فعله تعالى، وبالتالي فمن الممكن أنّ نتصوّر عدم اتّصاف الله بها في زمان ما.

ومن جملة الصفات التي عدّها متكلّمو المعتزلة من ضمن الصفات الفعليّة صفتا الإرادة والكلام، في حين عدّها المحدّثون وتيّار أهل الحديث والأشاعرة من الصفات الذاتيّة وقالوا بقدمها، وهو – أي القول بالقدم – ما استتبع نتائح عديدة في المسائل الكلاميّة. وقد كان من جملة الموضوعات التي خلّفتها مسألة القول بفعليّة صفة الكلام وحدوثها مسألة بعنوان <خلق القرآن>.

فبما أنّ متكلّمي المعتزلة كانوا يعتقدون بأنّ الكلام الألهيّ صفة فعليّة وبأنّه مخلوق، فقد طرحوا مسألة كون القرآن – بما هو كلام لله – مخلوقًا وحادثًا، ووقعت هذه المسألة موردًا للنقاش بين تيّار أصحاب الحديث والمعتزلة، وتبع ذلك جملة من الحوادث تُذكر في التاريخ تحت عنوان <المحنة> أو <فتنة خلق القرآن>. وقد استفاد المعتزلة في عصر كلّ من المأمون والمعتصم والواثق من تأييد الخلافة ودعمها في فرض اعتقادهم هذا على المجتمع الإسلامي، وقد شهدت هذه المرحلة ظهور العديد من الحوادث.

وعلى كلّ حال، تُعدّ مسألة خلق القرآن مسألةً مهمّةً في تاريخ الفكر والكلام الإسلاميَّين؛ فهذه المسألة المتفرّعة عن مسألة الصفات الإلهيّة وصفات الفعل قد وقعت موردًا للخلاف بين الفرق الإسلاميّة وأعقبت حوادث عدّة.

من الموضوعات الأخرى التي بحثها المعتزلة في أصل التوحيد مسألة العلاقة بين الذات الإلهيّة والصفات الذاتيّة، فمن الأسئلة التي كان الفكر المعتزليّ منشغلًا بها: هل لله صفات منفصلة عن الذات؟ وهل يمكن أن نفرض لله حقائق بوصفها صفات ذاتيّة قديمة وأزليّة؟

ذكرنا سابقًا أنّ هدف المعتزلة في أصل التوحيد كان تنزيه البارئ عن كلّ نحو من أنحاء التشبيه والشراكة، ولهذا يرى المعتزلة أنّ الاعتقاد بوجود حقائق وجوديّة قديمة تحت مسمّى الصفات الذاتيّة لا يتناسب مع القول بالتوحيد. ومن هنا كان إشكالهم على تيّار الحديث، حيث إنّ الاعتقاد بوجود صفات قديمة من علم أو قدرة أو حياة أو سمع أو بصر أو إرادة أو تكلّم لا يتلائم مع أصل التوحيد ووحدة الله وبساطة الذات، ويلزم منه إشكالان في مجال العقيدة هما تعدّد القدماء ونسبة الاحتياج إلى الله، ولأجل الفرار من هذه الإشكالات اتّجه المعتزلة ناحية القول بنفي الصفات. وبشكل عام، يُعرف عن الفكر المعتزلي في مسألة الصفات الإلهيّة القول بنفي الصفات، ومن هنا كان من بين الأسماء التي تُطلق عليهم من قِبل مخالفيهم اسم <النُّفاة> بمعنى النافين للصفات الإلهيّة، ولقد قُدّمت وبُيّنت العديد من النظريّات في مسألة نفي الصفات عن الله أو العلاقة بين الله والصفات الذاتيّة، نشير باختصار إلى ثلاث نظريّات مهمّة منها:

1- النظريّة الأولى كانت بعنوان <عينيّة الصفات والذات>، واعتقد أصحابها من متكلّمي المعتزلة أنّ لله أوصافًا إلّا أنّها على الصعيد الوجودي عين الذات الإلهيّة، فلا وجود للتعدّد بين الصفات والذّات وإن اختلفا مفهومًا، حيث إنّ مفهوم هذه الصفات مغاير لمفهوم الذات[3].

2- النظريّة الثانية عُرفت بعنوان <النيابة>، واعتقد أصحابها أنّه لا صفات لله حقيقةً غير أنّ الذات الإلهيّة تنوب مناب الصفات، بمعنى أنّ كلّ ما ننتظره من أفعال كنتيجة لاتّصاف الذات بصفات معيّنة، فإنّ الذّات الإلهيّة ستكون منشأً لهذه الأفعال المتوقَّعة من دون أن تتّصف بهذه الصفات، وهكذا فإنّ الله لا يتّصف بصفة العلم مثلًا إلّا أنّه يفعل فعل العالمين. ولقد حظيت هذه النظريّة المعروفة بالنيابة بقبول عند كثير من متكلّمي المعتزلة وارتبطت كثيرًا بأبي عليّ الجبّائيّ[4].

3- النظريّة الثالثة التي طُرحت من قبل أبي هاشم الجبّائيّ عُرفت بنظريّة <الأحوال>، حيث اعتقد أبو هاشم أنّ الصفات الإلهيّة ليست موجودةً وإلّا لزم تعدّد القدماء، كما اعتبر نظريّة النيابة التي تنفي الصفات بشكل كليّ غير مقبولة أيضًا. من هنا، اعتبر أبو هاشم وجود صفاتٍ لله إلّا أنّه كان يعتقد أنّ هذه الصفات عبارة عن أحوال، أي إنّ لله أحوالًا تُشكّل منشأً لهذه الصفات[5]. وفي الواقع، فإنّ الأحوال في نظريّة أبي هاشم ليست معدومةً، إلّا أنّها ليست موجودةً أيضًا كي لا ينجرّ الأمر إلى القول بتعدّد القدماء، وتوضيح هذه النظريّة يحتاج منّا مجالًا أكبر لا يسعه المقام هنا.

المسألة الأخيرة التي كان تُبحث في أصل التوحيد هي صفات الله السلبيّة، وقد كان من أهمّ ما طُرح فيها مسألة نفي الرؤية عن الله تعالى، إذ من غير الممكن رؤية الله عن طريق العين والحواسّ. فكان المعتزلة يعتقدون أنّ الرؤية البصريّة تستلزم المكانيّة والجسميّة والحال أنّ الله منزّه عن جميع هذه الأوصاف، ولذا فإنّ إمكان رؤية الله مستحيل في نظر المعتزلة سواء في الدنيا أو في الآخرة.

 

الأصل الثاني: العدل

العدل في اصطلاح المعتزلة بمعنى تنزيه الله عن ارتكاب الفعل القبيح وترك الواجب[6]، وقد بُني أصل العدل عندهم على أساس الحسن والقبح العقليَّين اللذين يُعدّان البنى التحتيّة لمباحث العدل، فجميع المسائل التي تُطرح في هذا الأصل يتمّ إثباتها اعتمادًا على الحسن والقبح العقليَّين.

اعتقد المعتزلة أنّ الأفعال تحتوي في ذاتها على حسن أو قبح، وأنّ للعقل القدرة على إدراكها. وقد شيّدت المعتزلة فكرها الكلامي اعتمادًا على هذا القول، وكانوا بذلك يقفون وجهًا لوجه في قبال أهل الحديث الذين كانوا يعتبرون حسن الأفعال وقبحها تابعَين للإرادة الإلهيّة، ومن هنا كانوا يعتقدون بأنّ الحسن والقبح شرعيّان.

ومن جملة القواعد الكلاميّة التي يكثر استخدامها في كلام المعتزلة قاعدة بعنوان اللطف، وهذه القاعدة بدورها تثبت بناءً على القول بالحسن والقبح العقليَّين. حيث اعتبر متكلّمو المعتزلة كلّ فعل يؤدّي إلى تقريب المكلّف من الطاعة وإبعاده عن المعصية واجبًا على الله بعنوانه لطفًا، أي إنّ كلّ فعل تكون نتيجته قربَ المكلّف من طاعة الله وبعدَه عن معصيته فهو فعل ضروريّ ولازم لله. ولقد كانت هذه القاعدة من القواعد المهمّة كثيرة الاستعمال في مباحث العدل، وقد اعتُمد عليها في إثبات مسألة النبوّة وكثير من المسائل المرتبطة بالمعاد.

وحظيت اثنتان من المسائل باهتمام كبير في أصل العدل؛ أولاهما مسألة نفي الجبر وإثبات الفاعليّة الحقيقيّة للإنسان. حيث اعتقدت المعتزلة أنّ إجبار الناس على عمل معيّن يستلزم الظلم وارتكاب القبيح، وهذا غير جائز على الله. من هنا، ولمّا كان الله لا يرتكب القبيح، فإنّ الناس أصحاب اختيار وحريّة في هذا العالم، وما يقومون به من أفعال يُنسب إليهم. لقد كان علماء المعتزلة يؤكّدون في قبال أفكار أهل الحديث وبعض التيّارات كالجهميّة وآرائهم على مبدأ حريّة الإنسان واختياره، وقد حظيت مجموعة الأبحاث والمسائل المتعلّقة بالفاعليّة الحقيقيّة للإنسان باهتمام في أبحاث العدل.

المسألة الأخرى التي بُحثت في ضمن هذا الأصل وعُدّت من المسائل الكلاميّة المهمّة هي مسألة النبوّة وإرسال الرسل، وكما بيّنّا سابقًا فقد عملت المعتزلة على إثبات ضرورة إرسال الرسل استنادًا إلى قاعدة اللطف التي تُعدّ قاعدةً عقليّةً مبتنيةً على مسألة الحسن والقبح العقليَّين.

وقد كانت مسألة علاقة إرادة الله وفعله بأفعال الإنسان من أهمّ المسائل التي طُرحت في بحث الفاعليّة الحقيقيّة للإنسان، وكان تفسير هذه العلاقة إحدى الاختلافات التي وقعت بين المعتزلة وسائر الفِرق الكلاميّة، حيث أنكرت المعتزلة الإرادة التكوينيّة بالنسبة لأفعال الإنسان تجنّبًا للوقوع في الجبر. وأما ظواهر الكتاب والسنّة التي تدلّ على عموميّة الإرادة والمشيئة الإلهيَّين، فقد تمّ تأويلها من قبل المعتزلة، كما اعتبروا أيضًا، في سياق إثبات الفاعليّة الحقيقيّة للإنسان، أنّ إرادة الله مقيّدة ومحدودة بالأمور التكوينيّة دون الأفعال الاختياريّة للإنسان، واعتقدوا نتيجةً لذلك أنّ الإنسان خالق أفعاله وأنّه هو من يقوم بهذه الأفعال استنادًا إلى القدرة التي منحه الله عزّ وجلّ إيّاها سابقًا، ولهذا يُعدّ مسؤولًا عن أفعاله.

 

الأصل الثالث: الوعد والوعيد

الوعد في اصطلاح متكلّمي المعتزلة عبارة عن كلّ خبر يتضمّن إيصال منفعةٍ إلى الغير أو دفع ضررٍ عنه في المستقبل، والوعيد بدوره عبارة عن الخبر الذي يتضمّن إيصال ضرر أو منع وصول منفعةٍ إلى شخص ما في المستقبل، وقد اعتقدت المعتزلة أنّ من اللازم على الله أن يثيب المحسن ويعذّب العاصي بمقتضى عدله. وقد كانت مسألة الوعد والوعيد، في الواقع، مستندةً إلى فكرة الاستحقاق، إذ كانت المعتزلة تعتقد أنّ الإنسان المكلّف يستحقّ الثواب أو العقاب وفقًا للأعمال التي يقوم بها، ولو أنّ الله لم يمنح هؤلاء ما استحقّوه فذلك سيكون منافيًا للعدل الإلهيّ، بل إنّ خُلف الوعيد بالخصوص سيؤدّي إلى تشويق المكلّفين لاقتراف القبائح والمعاصي.

جدير بالذكر أنّ خُلف الوعد قبيح في نظر جميع المسلمين، وإجماعهم قائم على أنّ الله لا يُخلف وعده. نعم، يُرجع البعض دليل هذه المسألة إلى العقل ويرجعه آخرون إلى السمع. ولكن اختلاف المعتزلة مع سائر الفرق كان في مسألة الوعيد، وأنّه هل يجوز أن يخلف الله وعيده؟ يعني هل من الممكن أن يخلف الله ما توعّد الناس به فيشملهم عفوه يوم القيامة على الرغم من أنّ القرآن الكريم قد هدّدهم وتوعّدهم بالعذاب الإلهيّ؟

يعتبر أكثر المتكلّمين والعلماء المسلمين خُلف الوعيد جائزًا، أمّا المعتزلة فقد كانت تعتقد أنّ هذا الخلف يستلزم الإغرار والخداع، وبالتالي فهو أمر قبيح ولا يليق بالله الاتّصاف به، وهكذا يستحيل أن لا يفي الله بوعيده.

ومن جملة الأمور التي بحثها متكلّمو المعتزلة في هذا الأصل أيضًا مسألة تعويض أفعال غير المكلّفين، حيث كانوا يعتقدون أنّه كما أنّ المكلّفين يستحقّون الثواب أو العقاب حال طاعتهم للتكاليف أو تخلّفهم عن أدائها، فإنّ الأشخاص الذين لم يلحقهم التكليف في الدنيا كالأطفال والمجانين يستحقّون العوض مقابل المصاعب التي تحمّلوها، ومن الواجب أن يمنحهم الله في الآخرة عوضًا في مقابل هذه المصاعب والمتاعب.

فرع آخر من فروع هذا الأصل كان نظريّة الإحباط والتكفير، حيث ذهب المعتزلة، واستنادًا إلى حكم العقل، إلى أن أعمال الإنسان الذي حاز في سجلّات أعماله على الأعمال الصالحة وعلى الذنوب والمعاصي ونتائجَها تخضع لموازنة فيما بينها، فيمكن لبعض الأعمال الصالحة أن تشكّل سترًا وغطاءً على المعاصي، كما ويمكن أيضًا أن تكون بعض المعاصي سببًا في انتفاء جميع الأعمال الصالحة أو بعضها وذهابها، فيُعبّر عن هذه المسألة بالإحباط والتكفير. فالمقصود من الإحباط الانتفاء والإعدام، بحيث تكون المعاصي سببًا لانتفاء وانعدام بعض الأعمال الصالحة وثوابها، فيما التكفير معناه التغطية والستر، بحيث يؤدّي العمل الصالح إلى تغطية بعض المعاصي والذنوب وسترها. بناءً عليه، فسجلّات أعمال الإنسان الذي عرفت سجلاته كلا النوعَين من العمل ستخضع للموازنة، وفي حال كان المرجّح والباقي عملًا صالحًا فسيؤول الأمر به إلى الجنّة، وأمّا في حال كانت معاصيه وذنوبه أكثر فسيرمى به في جهنّم.

مسألة أخرى هي مسألة الشفاعة، فلمّا كانت المعتزلة تعتبر الالتزام بالوعيد واجبًا على الله تعالى، فلن يكون للشفاعة حينئذٍ – بمعنى العفو والتسامح عن الأخطاء والذنوب المقترفة – محلٌّ عندهم، ولذا ذهبوا إلى تفسير الشفاعة برفع درجة المحسنين، وهكذا تكون الشفاعة من نصيب أهل الجنّة وحسب.

 

الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتَين

ذكرنا سابقًا أنّ مسألة المنزلة بين المنزلتَين كانت السبب في اعتزال واصل بن عطاء درسَ الحسن البصريّ ونشوء مدرسة المعتزلة، والمراد من هذا الأصل أنّ الشخص الذي يرتكب المعصية الكبيرة لا هو مؤمن ولا هو كافر، بل يلحقه حكمٌ بين هذَين الحكمَين.

ترى المعتزلة أنّ مرتكب الكبيرة لا يستحقّ وصف المؤمن؛ لأنّ لفظ المؤمن مدح لا يستحقّ عاصٍ كهذا الاتّصاف به، ومن ناحية أخرى لا يمكننا أن ننعته بالكفر بسبب اعتقاده بالله والنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، إضافةً إلى وجود بعض الأعمال الصالحة في سجلّ أعماله. من هنا، فإنّ مرتكب الكبيرة لا يستحقّ وصفه بالمؤمن ولا بالكافر على السواء، ولن يلحقه حكم أيّ منهما، بل هو لناحية العقيدة شبيه بالمؤمن ولناحية العمل شبيه بالكافر، وبالتالي فهو فاسقٌ حكمه بين حكم المؤمن وحكم الكافر. تُعدّ هذه المسألة في نظر المعتزلة من المسائل الشرعيّة، فالأدلّة التي تُقام عليها أدلّة سمعيّة، أمّا العقل فلا سبيل له إلى نيل ذلك.

 

الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

معلومٌ أنّه لا اختلاف بين المسلمين حول مسألة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث تُجمع كلّ الفرق الإسلاميّة على وجوب هذه الفريضة الإلهيّة، ودليل هذا الوجوب هو كلّ من الكتاب والسنّة والإجماع.

أمّا مورد الاختلاف في هذه المسألة فنجده في شرائط هذا الوجوب، فالمعتزلة كانت تذكر لهذه المسألة مجموعةً من الشروط من جملتها أنّه لا بدّ أن يكون الآمر والناهي عالمًا بالمعروف والمنكر، ومنها أيضًا أن لا يكون الأمر أو النهي مؤدّيًا إلى ضرر أكبر، بمعنى أنّه إذا أدّى الأمر أو النهي إلى ضرر أكبر يلحق بالمجتمع الإسلاميّ فحينئذ لن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبَين. وكمثال على ذلك، إذا أدّى النهي عن شرب الخبر إلى مقتل عدد كبير من المسلمين فهو ليس واجبًا حينها. ومن الشروط الأخرى التي اعتبروها العلمُ بتأثير هذا الأمر أو النهي، أي أن يعلم المكلّف بأنّ أمره أو نهيه سيؤثّر في العاصي.

أمّا المسألة التي أصرّت عليها المعتزلة فهي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في صورة استجماع شرائطه وإن أدّت إلى الحرب والقتال، فاعتبروا أن النهي عن المنكر إذا استلزم الوقوع في الحرب والقتال فإنّه واجب على كلّ شخص يمتلك القدرة والاستطاعة المطلوبة على القيام به. وعلى الرغم من أنّهم يعتبرون أنّ النهي أو الأمر يقعان بدايةً على عاتق الإمام وحاكمي المجتمع الإسلامي، إلّا أنّه في حال عدم قيام هؤلاء بالأمر والنهي فإنّ هذه الفريضة تُصبح واجبةً على كلّ مكلّف قادر على القيام بها، ولو أدّى ذلك إلى الحرب والقتال، كما أسلفنا.

ولقد أشار بعض متكلّمي المعتزلة في سياق بيان هذا الأصل إلى أنّه يوضح الاختلاف بين الفكر المعتزلي والفكر الشيعي، حيث إنّ الشيعة الإماميّة لا يجوّزون الجهاد الابتدائي والقتال من دون إذن الإمام وحضوره، في حين أنّ المعتزلة تؤكّد وتصرّ في قبال ذلك على وجوب هذه الفريضة، حتّى من دون حضور الإمام ومن دون إذنه أو إجازته.

تحتوي هذه الأصول الخمسة التي أوضحناها باختصار على كثير من الموضوعات التفصيليّة، بحيث يتطلّب التعمّق بها والتعرّف بشكل أكبر على الفكر المعتزلي الرجوع إلى الكتب المفصّلة التي دُوّنت في هذا المجال، إضافةً إلى الآثار العلميّة الموجودة التي وصلت إلينا عن متكلّمي المعتزلة أنفسهم ككتاب كالقاضي عبد الجبّار الذي طُبع مؤخّرًا طبعةً مُنقّحةً.

التحوّلات الطارئة على الفكر المعتزلي

النقطة الأخيرة التي تجدر الإشارة إليها هي طروء بعض التحوّلات على الفكر المعتزلي خلال مرحلة الرشد والتكامل؛ حيث عُرضت نظريّات مختلفة من قبل متكلّمي المعتزلة وظهرت اختلافات بين المتكلّمين، لا سيّما في مسائل من قبيل العدل والتوحيد والوعد والوعيد، حتّى أنّ بعض الاختلافات قد حصلت بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد في بيان هذه الأصول.

من أهمّ التحوّلات التي واجهها الفكر المعتزلي في مرحلة البلوغ والرشد ما حصل بعد القاضي عبد الجبّار مع شخصيّة مميّزة من متكلّمي المعتزلة تُدعى أبو الحسين البصري، حيث دخل الكلام المعتزلي مرحلةً جديدةً ازداد فيها مستوى اختلاطه واندماجه بالفلسفة اليونانيّة، ودخلت بعض مباني الفكر الفلسفي إلى النظام الكلامي للمعتزلة. هذا الاندماج كان سببًا في ظهور اختلافات مع التيّار الجديد الذي عُرف نتيجةً لذلك بعنوان <متأخّري المعتزلة>، ولا يسع المقام في هذا الكتاب للبحث التفصيلي فيها، وما نكتفي بذكره هو أنّ الفكر المعتزلي عرف الكثير من الاختلافات عبر مراحل التشكّل والتوسّع ومراحله الأخيرة، وقد خضعت نظريّات المعتزلة في هذه المراحل إلى تغيّرات عديدة. وعلى الرغم من ذلك كلّه بقي متكلّمو المعتزلة محافظين على أصول الاعتزال الخمسة في جميع هذه المراحل.

خلاصة الدرس

ـ يرسم المعتزلة في كلّ أصل من أصولهم الخمسة حدودًا لهم تميّزُهم عن فرقة من الفرق الأخرى أو أكثر.

ـ تؤكّد المعتزلة في أصل التوحيد على تنزيه الله عن كلّ تشبيه، وأهمّ مسألة طُرحت في هذا الأصل تكمن في بيان علاقة الذات بالصفات الإلهيّة.

ـ يُعالج أصل العدل مسألة تنزيه الله عن فعل القبيح استنادًا إلى الحسن والقبح العقليَّين، ويتمّ التأكيد في هذا الصدد على اختياريّة الإنسان في أفعاله.

ـ كان عدم تجويز خلف الوعيد الإلهيّ من الآراء التي انفردت بها المعتزلة والتي نتج عنها تفسير مختلف لمسألة الشفاعة.

ـ يُعدّ عدم اشتراط حضور الإمام وإذنه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نقطة اختلاف بين المعتزلة والإماميّة.

 

أسئلة الدرس (لا تفوّتوا فرصة الحصول على شهادة تحصيل المادّة عند إجابتكم على الأسئلة في نهاية كلّ درس عبر التعليقات)

1- أوضح مجملًا أهمّ نظريّات المعتزلة في مسألة العلاقة بين صفات الله وذاته.

2- بيّن رأي المعتزلة في مسألة رؤية الله ذاكرًا الدليل.

3- أوضح رأي المعتزلة في مسألة الأفعال الاختياريّة للإنسان.

4- ما هي الاختلافات بين المعتزلة وسائر الفرق الكلاميّة في أصل الوعد والوعيد؟

5- كيف رسمت المعتزلة حدودها وميّزت نفسها عن الآخرين في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

[1] سورة الفتح، الآية 10.

[2] سورة ص، الآية 75.

[3] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 64.

[4] المصدر نفسه، الجزء 1، الصفحة 92.

[5] محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، الملل والنحل، مصدر سابق، الجزء 1، الصفحة 92.

[6] عبد الجبّار بن أحمد، شرح الأصول الخمسة (القاهرة: مكتبة وهبة، ط3، 1416 هـ.ق)، تحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان، الصفحة 301.


الكلمات المفتاحيّة لهذا المقال:
المعتزلةالتنظيرتاريخ علم الكلام

المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | من الشخصانية إلى الغدية الحلقة الأخيرة من فلسفة الحبّابي

من الشخصانية إلى الغدية الحلقة الأخيرة من فلسفة الحبّابي (4) الدكتور أحمد ماجد   بعد أن استكمل محمد عزيز الحبّابي

صورة الله بين العقل والوهم

شهد العالم الغربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، نزوعًا لافتًا نحو المادية. وامتد تأثير ذلك إلى الساحة الإسلامية. والمقصود بالمادية هنا رؤية فلسفية تقوم على أساس التفسير المادي الحصري للعالم بدعوى العلمية.

منطلقات مهمة في عملية التفسير

إنّ هناك جملة من المنطلقات المهمّة في العملية التفسيرية، والتي لا بدّ من توضيحها، والتي تشكّل الأساس في التفسير، وما ينبغي على المفسر مراعاته

تعليق واحد

أكتب تعليقًا
  1. محمد ابراهيم
    محمد ابراهيم 7 أغسطس, 2021, 08:46

    رأى المعتزلة فى مسألة العلاقة بين صفات الله وذاته:
    ————————————————-
    1- نظرية عينية الصفات والذات:حيث ترى هذه النظرية أن صفات الله هى عين الذات ، وليست زائدة عليها ، ولا وجود للتعدد بين الصفات والذات، بالرغم من اختلاف الاطار المفاهيمى بين الذات والصفات.
    2- نظرية النيابة: هذه النظرية تنفى الصفات اللالهية حيث لا توجد صفات الهية فى الحقيقة ولكن الذات تقوم مقام الصفات أى تنوب عنها بمعنى أن الذات ستكون منشأ الأفعال الالهية من دون أن تتصف بهذه الصفات، وطبقا لهذه النظرية لا يتصف الله بصفة العلم ولكنه يفعل فعل العالمين وأهم القائلين بهذه النظرية هو أبى على الجبائى.
    3- نظرية الأحوال: رفض ابى هاشم الجبائى نظرية النيابة وقال بنظرية الأحوال التى ترى أن هناك صفات لله تعالى ولكن هذه الصفات هى عبارة عن أحوال، فالله أحوال تشكل منشأ لهذه الصفات.
    رأي المعتزلة في مسألة رؤية الله بالدليل:
    ————————————–
    نفى المعتزلة رؤية الله سبحانه وتعالى عن طريق العين العين والحواس فى الدنيا والآخرة ودليلهم على ذلك ان الرؤية البصرية تستلزم المكانية والجسمية وكلاهما يستلزم ان يكون الله مركب والمركب ناقص يفتقر الى غيرة وهو مايستحيل على الله الذى هو واجب الوجود لا يحتاج الى احد فى وجودة، ويتنافى ايضا التركيب مع التوحيد فالله بسيط غير مركب.

    رأي المعتزلة في مسألة الأفعال الاختياريّة للإنسان:
    ————————————————
    رأى المعتزلة أن الانسان حر فى اختيار أفعالة وليس مجبوراً عليها، لأن اجبار الانسان على عمل لا يريد أن يفعلة يمثل نوع من الظلم والظلم قبيح وتعالى الله عن أن ان يفعل الظلم أو القبح لانه عدل ، كما ان الله وعد الانسان ان يحاسبة وفقاً لأفعالة فكيف يحاسبة على افعال لم يقم هو بفعلها وكان مجبوراً عليها؟ومن هنا نرى أن مسألة الافعال الاختيارية للانسان ارتبطت عند المعتزلة بمسألة الحسن والقبح العقليين.

    الاختلافات بين المعتزلة وسائر الفرق الكلاميّة في أصل الوعد والوعيد:
    ——————————————————————-
    رأى المعتزلة أن الله لا يخلف وعده ووعيدة للناس، فقد وعد الله المتقين والمؤمنيين الجنه والنعيم، ووعد الكافرين والظالمين النار والعذاب ، ووعده مأتيا لا يخلفه أبداً لأن خلف الوعد من القبائح التى تستحيل على الله تعالى ولا يليق به، بينما يرى أغلب الفرق الكلامية كالاشاعرة تجويز أن يخلف الله وعدة وان يكون الحساب ليس على أساس العمل فى الدنيا اذا اراد الله ذلك، فاذا ارا د الله ان يدخل فلان العاصى فى الدنيا الجنه أدخله واذا اراد ادخال فلان المؤمن فى الدنيا النار أدخلة.

    حدود المعتزلة وتميزها عن الفرق الكلامية فى أصل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
    ———————————————————————————-
    رأت كل الفرق الأسلامية على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومورد الاختلاف بين المعتزلة وبين هذه الفرق أن المعتزلة رأت ان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب عل كل مسلم يستطيع ان يقوم بهذا الفعل ومن لم يقم بذلك فهو آثم، وعدت الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض عين على كل مسلم حتى فى حالة عدم وجود امام المسلمين ولا يستلزم ذلك أيضاً الاذن أو التجويز من الامام، ولكنها رأت أيضاً اذا كان الامر بالمعروف والنهى عن المنكر يؤدى الى ضرر كبير بالمجتمع ففى هذه الحالة تسقط الوجوبية، على خلاف رأى الشيعة التى رأت ان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر منوط بحضور الامام واذنه بالجهاد والقتال.

    الردّ على هذا التعليق

أكتب تعليقًا

<