نحو فلسفة القيم الحضارية (مساهمة إسلامية)

by الشيخ شفيق جرادي | نوفمبر 29, 2021 4:45 ص

عندما يلف الوجوم وجه العالم، يقع الإنسان في عمق وجدانه فريسة القلق القاتل. حينها تسقط حضارات وتتغير وجوه من قيم أمم وشعوب، لطالما كانت تتأرجح بين خيارات متناقضة في جوهرها.

يبحث المرء عن حقيقته وينشد فهم هويته وسلوكه، ليضمن أفق الخلاص. ليرسم سبل الوصول نحو شاطئ من الحقيقة أخشى ما يخشى فيها أن تكون سرابًا بقيعة يحسبها الأمل، فلا يجد فيها إلا الفراغ والانهيار.. كل شيء يؤول إلى التفكّك، ويصير نحو وجه الموت القاتم.

وأفظع ما في الأمر أن تصل حضارة الإنسان في بناءاته لتترامى سعة الأرض، وتستظل في سماء لا تغيب عنها الشمس.

حضارة سلطانية تتحوّل في منعطفها التاريخي إلى إمبراطورية القوة التي وصلت ذروةً ما فوقها سنام.

عند هذا الواقع، تبرز الأسئلة حول معنى الحضارة، والأمة، والهوية، حول معنى القيم والذات، بل معنى الحياة والموت في تجربة اللذة المنتصرة والمرارة المنكوبة.

إنه السؤال، وليد الحياة الممزوجة بالموت. المفتوح من الخصوصية على المطلق. إنه الأنا حينما تنقسم على ذاتها لتسأل من أنا؟

وفي غمرة الزهو تتحوّل عند ذاتها إلى وهم يعيد إليه كل الأشياء. ذلك أن انسلاب السؤال من حدود (أناه) جعل كل واقع، بل كل معنى تجلٍّ له. والخيبة في فلسفة قيم الخيبة. حينما يكتشف سؤال (الأنا) ضياعه في سرابه المفترض. وأسوأ ما في الأمر أن تنقاد المعاني إلى مخيال وهم (الأنا) السيادية المسوَّرة بضعفِ الأمم والشعوب.

وأسوأ ما في الأمر أن تتحوّل قيم السيادة المزهوّة، ثقبًا أسود في تجويف حياة الإنسان يجذب إليه كل حقيقة وواقع، ليحيلهما أشياء لا تنجذب إلا نحو التدمير الذاتي. هنا، مع تعاظم منطق العسر، يشرع الأمل المكنون في أفق القيم، المتجاوز حدود اللحظة والوضعية المحدودة، ليقدّم إرهاصات نجاة خارج حدود المألوف، وهنا يتولّد صراع حقيقي بين قيم تدافع عن أصل وجودها، وأخرى استُلب منها إرادة التدبّر والتدبير باسم مقولات وقيم ومفاهيم شاخت رغم قوة سطوتها. وهنا يقف الإنسان في إنسانيته بين انقسام الأمل ونقيضه، واليأس ومتنافراته. ومن أبرز تداعيات هذا الصراع في مستواه المرتبط بالقيم الحضارية، قابلياته على إنشاء تداول في الحوار والحضور.

من هنا، يمكن لنا فتح صفحة لهذه الجدلية تقوم على دراسة موضوعة القيم ببعدها الحضاري المرتكز على اتساقات فلسفية تربط بما لا انفصام له بين التجربة والواقع من جهة، والمستوى النظري المتجاوز لسكونية المفاهيم التجريدية من جهة أخرى.

 الحضارة أمام إشكالياتها

لقد تجاوز العقل الاصطلاحي كما التحليلي في تحديده لمعنى الحضارة، الوقوف عند الفروقات البشرية بين الأجناس والأعراق والألوان، حتى أثمر ذلك تجاوزًا لأصناف الحضارات المعتمدة قديمًا. وأخذ يتجه نحو التفريق بين الحضارة والحضارات. فيعتبر أن “الحضارة – في مفهومها العام – هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواءً أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودًا أم غير مقصود، وسواءً أكانت الثمرة مادّية أم معنوية”[1][1].

فالأصل في البناء الحضاري هو التراكم في الجهد البشري والمعرفة البشرية بمستوييها المادي والمعنوي في سياق تاريخي منتظم، يجعل لهذا الجهد هويته الخاصة النابعة من القصدية الإرادية، أو القصدية الطبعية عند أمة واحدة، أو مجموع من الأمم الداخلة في انسياب زمني وقيم وانتماءات محدّدة. وهذا ما يسمّى بالقيم التراكمية التي تشتغل بمفاعيل التاريخ والزمن. والتاريخ شرط ضروري في فهم الحضارة، إذ بدون معرفة ماهية التاريخ يختلّ أي فهم لمعنى الحضارة وتحديد هويتها..

وإذا ما كانت الحضارة في هويتها تحتاج إلى عقل حضاري متسق ومنظِّم للسجيّة الحضارية، فإن فصل مكوِّنات هذا العقل الحضاري عن تداولاته التاريخية هو فصل تعسّفي في الحقيقة. دون أن يعني هذا أن العقل الحضاري هو محض تاريخي، بل المقصود أن العقل الحضاري هو قيم متسامية تتفرّع عن مثال أعلى أو مُثُل عليا، تمثّل قيم هذا العقل التأسيسية، في الوقت الذي هو فيه عقل يخبر الواقع في زمانياته وتاريخيته ليتمثّل قيمًا وثقافة ورؤى تشكّل خصائص لون حضاري ما.

ولا ينبغي أن يُفهم من هذا الكلام أن الإنسان، والتاريخ، والقيم، والمعرفة وحدها التي تصنع حضارة معيّنة، إلا أننا نقصد أن هذه هي الأصول التأسيسية لصنع أي حضارة. في الوقت الذي نعتقد فيه أن لأمور أخرى تأثيراتها معها، من مثل البيئة الجغرافية، وما تفرضه على الإنسان من قيم عند مسعى تكيّفه، من تأمّلات وتنكّبات وأعمال يقوم بها، فتدفع بشخصيته الجمعية نحو بناء من المؤهلات والقدرات والكفاءات تستلزم ميولًا وقيمًا خاصة.

ويناءً على هذا، فما من شعب إلا وله مستواه الحضاري. وهذه النتيجة طرحت إشكالية أساسية فرَّق فيها العقل الغربي بين معنى الحضارات، وبين الحضارة حسب المعايير التي وضعتها العقلية الغربية، والتي أخرجت فيها التقسيم القديم من التداول: البدوية والحضرية، إلى اختراع ملاكات وقيم محدّدة لما هو حضاري، مما ليس بحضاري. الأمر الذي استوجب جملة أسئلة من مثل:

هل للحضارة مقاييس؟ هل هناك معايير نحكم بمقتضاها على إنسان أو جماعة بأنه أو أنها متحضّرة؟ وأين تكمن الأولوية الحضارية، هل هي في مستوى القيم المعنوية؟ أم القيم المادية؟ وما هي الغايات الحضارية الكبرى، هل هي:

الأمان، بما يشمل الأمن على النفس والمال والأهل والوطن، وكل ما يهم الفرد؟

أو الاطمئنان، بما هو شعور داخلي يميل نحو البعد عن الآلام والأخطار؟

أو الكفاية، بما هي تلبية لمشاعر الإنسان بالاحتياج إلى أمور معيّنة أو طموحات خاصة؟

وهل لتوسّع النفوذ والتأثير في الأمم والشعوب الأخرى مدخلية في حضارية هذه الأمة أو تلك، وأفضليتها على بقية الحضارات؟

وبعد هذا يجيء السؤال الأكثر إشكالية: ما محور حضارية أي أمّة أو شعب أو جنس؟

هل هو الدين أم الأسطورة والفن والفلسفة؟ هل هو الاقتصاد أم السياسة أم الثقافة؟ أم أن محور حضارة ما يكمن في القيم التي تكوِّن وتسند تلك الحضارة؟ ثم ما الشروط الموضوعية لنهضة حضارة ما؟ هل هي سهولة اللغة وقابليتها للانتشار والتعلّم، أم أنها الكتلة التاريخية القادرة على تمثيل روح الأمة وبث الوعي الارتقائي في مسارها الحضاري؟

وأخيرًا، هل يمكن للقيم الحضارية أن تشيخ؟ وهل هي تنتهي بفعل انتهاء حقبات من التاريخ؟ أم أن صلة القيم الحضارية بالإنسان ألصق من صلته بالتاريخ؟ بحيث إنها تمتلك القابلية على بث الفاعلية الدائمة والمتجددة، وعلى إعطاء التاريخ نفسه معنى يختلف عن معناه القديم؟

ينبغي علينا قبل الدخول في بحث الموضوع ضمن المناخ العام لهذه الأسئلة أن نستبق النتائج، ونؤكّد على أن العقل الحضاري الغربي استطاع أن يتحكّم بمسارات هذا النقاش. إذ استطاع أن ينطلق من القيم والثمار الحضارية الخاصة، ليضع ضوابط معيارية في نقاش أي مشروع حضاري أو بناء حضاري.

ولعلّ بؤرة المعنى الأكثر فاعلية في هذا النقاش هو: (الحداثة) كمنعطف قسَّم التاريخ، بل والحضارات المعاصرة إلى حداثية وغير حداثية، وإلى ما قبل الحداثة، والحداثة، وما بعد الحداثة.

وهو ما أدخل إلى حقل التداول مصطلح “الحضارة العالمية” المبنية على الحداثة بمقارباتها الثقافية التعددية “وهكذا يكون تفاعل قوة وثقافة الغرب مع قوة وثقافة الحضارات غير الغربية محورًا مركزيًّا للسياسة في عالم ما بعد الحرب الباردة”[2][2]. هذه الثنائية القوة بما هي قيمة القيم في أصل التكوّن السيادي للحضارة الواحدة في العالم، والثقافة بما هي الأرضية التي تحتضن بقية الحضارات – الأطراف ضمن تأثيراتها الجاذبة لها إلى الحضارة السيادية الواحدة. هي الثمرة الأخيرة التي ابتدعها العقل الغربي لتأكيد سطوته. والتي استطاعت الحداثة على الطريقة الأمريكية أن تخندقها بخندق الدولة الأم، أو الدولة المركزية العالمية الامتداد والتي اختزلت مصالح العالم بمصالحها الخاصة حتى حوّلتها إلى قيم تتكيف معها الحضارات الفرعية ولو عن غير ما وعي أو إرادة. وأرست مفهومًا جديدًا مفاده: أن الثقافة والقيم والقوة، ينبغي أن تتضافر مع الأطر والمؤسسات والنماذج الإرشادية لتأكيد محورية حضارة الدولة الواحدة في امتدادها العالمي. وهكذا صارت الحضارة تعني اليوم الثقافة، والثقافة تشير إلى مجمل أسلوب الحياة المتشكّل بلون الأحادية الحضارية، والحياة هي عبارة عن مجمل قيم ومعايير ومؤسسات وطرائق تفكير ينبغي أن تعمل الأجيال على إرسائها ليتشكّل مطلق تاريخي حاكم يقف السيد السامي على رأس الهرم فيه وتشكّل مصالحه بنية قاعدة الهرم. أما الشكل المعبِّر عن ناظم هذه الحضارة الكونية، عالمية الانتشار الثقافي والقيمي، فهي الدولة، ذاك الشكل الذي تحوَّل إلى مفهوم تأسيسي في كل ناظم على امتداد العالم. وتقع هذه الدولة على رأس المنظومة الحضارية الحداثوية التي يمثلها الغرب. ومن هنا، تأتي سطوة الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها (دولة العالم الكونية). والتي ورثت الغرب بعد الحرب الكونية ومثلت روح الحضارة السيّدة في العالم. وصار كل تأسيس لمسار سياسي أو ثقافي، أو أنظومة قيمية حضارية لا بدّ أن تعتمد على الالتفاف حول الدولة المركز والتي تمثل حسب – هانتنغتون – منعطف الحضارة الكونية. وهو منعطف يقع بين مرحلة من حاكمية سابقة للغرب الأوروبي، ومرحلة يفترضها كحل لفساد واحتمال انتهاء موقعية الغرب الأمريكي عبر عودة أمريكا إلى حاضنة الثقافة والقيم الغربية الأوروبية. لينطلق المشروع الجديد، بتجديداته لكل قيمه السيادية، الضابطة للكل الحضاري المتوزّع في الحضارات الخمس الكونية. وإذا كان المشروع العام لأطروحة صدام الحضارات عند هانتنغتون “يتضمن: مفهوم الحضارات، مسألة الحضارة الكونية، العلاقة بين القوة والثقافة، ميزان القوى المتغيّر بين الحضارات، العودة إلى المحلية والتأصيل في المجتمعات غير الغربية، البنية السياسية للحضارات، الصراعات التي تولّدها عالمية الغرب، العسكرية الإسلامية، التوازن والاستجابات المنحازة للقوة الصينية، أسباب حروب خطوط التقسيم الحضاري والعوامل المحرّكة لها ومستقبل الغرب وحضارات العالم”[3][3]. فإنّ المشروع الخاص بهذه الأطروحة يكمن بافتراض أن تماهي القوة الأمريكية بالثقافة الغربية الأوروبية، وإيجاد توسّع عالمي لقيم هذه القوة والثقافة كفيلة بلملمة القواسم المشتركة بين الحضارات عبر رافعة التحديث. خاصة أنّ المشروع يسعى لإغراء تلك الحضارات بالمائز بين التغريب بما هو شأن سلبي لهذه الحضارات، والتحديث بما هو قيمة القيم المؤسّسة لواقع أي معاصرة ومدنية، بل سعى لإبرازه كمعطىً نهضوي لعموم الحضارات، إذ “يؤدّي التحديث إلى الابتعاد عن التغريب وانبعاث الثقافة المحلية على نحوين: على المستوى الاجتماعي، يعزّز التحديث القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للمجتمع ككل، ويشجّع شعب ذلك المجتمع على الثقة بثقافته، وأن يصبح ميّالًا لتوكيدها. وعلى المستوى الفردي، يولّد التحديث مشاعر الاغتراب واللامعيارية، حيث تنفصم عرى التقاليد والعلاقات الاجتماعية، وتنشأ أزمة الهوية التي يقدّم لها الدين حلًّا”[4][4]. وهذا ما يفسح للحضارات أن تعبّر عن نفسها بما هي حضارات حداثوية تعمل على التوأمة بين قيمها التقليدية، والاتجاه الحداثوي الحاكم على هذا المسار التاريخي. والذي تقع فيه الدولة الكونية إذا ما تماهت مع ثقافتها الغربية الأوروبية موقع الضامن لعدم نشوب أي صراع حضاري متفجّر.

عليه، فالقيم قادرة على تجديد نفسها وقيمها ضمن شروط تاريخية دقيقة. كما أنه وإن كانت كل كتلة من الشعوب الموحّدة بقيمها ومساراتها الحياتية هي حضارة ما، فإنّ الحضارة المركز هي واحدة قائدة لما عداها. هذا، وأن كل مفصل من مفاصل البحث الحضاري، وإن ارتكز على فلسفة قيم خاصة، فإنّ للهوية موقعها المتميّز في هذه الفلسفة القيمية الفاصلة بين مستقبل الهويات وماضيها. كما سيفضي إلى ضرورة أن يدرس هذا الغرب الأمريكي نقطة البدء في معالجاته. إنْ كانت تقوم على كيفية مواجهة ما ليس بغربي من حضارات وثقافات، أم أن البداية الطبيعية هي في قراءة نظام الثقافة والقيم الخاصة داخل كل دولة كبرى من بلدان الغرب الذي قرن ما بين الحضارة وموقع الدولة. ونأى بذلك وبطريقة تعسّفية عن خصوصية محورية الإنسان في ما خصّ بؤرة المعنى لأي حضارة من الحضارات فضلًا عن الحضارة الغربية. متجاوزًا عبر هذه الزحزحة كل نقاش حول زمنية القيم الإنسانية أو عدم زمنيتها المفضية لتحديد الرؤية والمكوّن الأخلاقي والبناء السياسي والفكري والديني لمسألة الحضارة.. وهذا ما التفت إليه بعض فلاسفة الحضارة المعاصرين.. وقد اشتغل هذا المشروع على تقصّي ونفي احتمالات معنى وميزة الحضارة الكونية الجديدة.. ليفترض أنّ الكلام حول القيم والأخلاق المشتركة ليست عاملًا جديدًا بين أمم وشعوب الحضارات، وبالتالي، فليست هي ملاك وجود الحضارة الكونية. ثم افترض أنّ مصطلح الحضارة الكونية يمكن أن يستخدم للإشارة إلى ما هو مشترك بين المجتمعات المتحضّرة مثل المدن، معرفة القراءة والكتابة، والذي يميّزها عن المجتمعات البدائية، إلا أنّ هذا التفسير يقسّم ما هو حضاري مما ليس بحضاري، ولا يشرح خصوصية الكونية الجديدة. الافتراض الثالث أن يذهب المصطلح إلى ما يصدر عن الغرب من قيم ومبادئ تسمّى بثقافة دافوس، والذي يخرج عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، وهي بحقيقتها جملة من الأمور النخبوية التي من غير المعلوم مدى تمثيلها لعميق الجذور الشعبية والإنسانية لدى الشعوب، أو سياسات الحكومات. وقد يفترض البعض أنّ المصطلح الكوني يقوم على أساس أنّ انتشار أنماط الاستهلاك الغربية والثقافة الشعبية المتولّدة عنها سوف يؤدّي إلى حضارة عالمية، أو لعلّ الإعلام العالمي هو الأصل في مثل هذه الحضارة.. أو لعلّ وجود دين عالمي أو لغة عالمية هي التي تهيء مناخ الحضارة الكونية العالمية، إلا أنّ حقيقة الأمر – حسب هذا النقاش – أنّ اللغة يعاد رصفها ويعاد بناؤها لكي تتلاءم مع الهويّات وخطوط الحضارات، كما أنّ عالمية الدين أقلّ حظًا من عالمية اللغة. خاصة أنّ ما نشهده هو انبعاث لصحوات دينية متفرّقة ومتعددة.

إلا أنّ الأطروحة تخلص للقول: “إن مفهوم الحضارة العالمية إنتاج مميّز. للحضارة الغربية.. ففي نهاية القرن العشرين، فإن مفهوم الحضارة العالمية يساعد على تبرير بسط السيطرة الثقافية الغربية على المجتمعات الأخرى، وحاجة تلك المجتمعات إلى تقليد الممارسات والمؤسسات الغربية. العالمية هي أيديولوجيا الغرب لمواجهة الثقافات غير الغربية”[5][5]. والطريق للوصول نحو هذه العالمية، إنما يكمن في التحديث الذي هو – حسب أصحابه – “عملية ثورية، تقارن فقط بالتحوّل من المجتمعات البدائية إلى المجتمعات المتحضّرة.. وتختلف توجّهات الناس وقيمهم ومعارفهم وثقافاتهم في المجتمع الحديث عنها في المجتمع التقليدي. ولأنّ الحضارة الغربية كانت أول حضارة تقوم بالتحديث، فإنّها تعتبر القائدة في استحواذها على ثقافة التجديد”[6][6].

فقد ورث الغرب حضارات الماضي، وأنشأ القانون والدستور وقيم التعدّدية التي منها تشكّلت فكرة الهيئات النيابية، وأشعل روح الفردانية وتراث الحقوق والحريات الفردية. وهذه الأمور – حسب اعتقاد الأطروحة – جزء من ماهية الغرب التي أهّلته لإنتاج التحديث. لذا، فمع توسّع الغرب بدأ العالم ينعم بالحداثة.

إلا أن الملفت في هذا التحليل التوصيفي جنوحه نحو تسويغية أيديولوجية لفكر (الدولة الحضارة)، إذ بقليل من التأمّل في بناءات ماهية الغرب نستكشف أنّ كل العناصر والقيم المساقة في الطرح تتجه لجعل المحورية الحضارية والسيادة السياسية هي للدولة الحضارة. وبالمناسبة، فإنّ نقاشًا ساخنًا مثلًا، جرى حول واحد من أهم القيم الحداثوية، ألا وهو التعدّدية، وحينما استشعر منظّرو السلطة الحضارية خطر هذه القيمة على قوة الدولة الحضارية (الولايات المتحدة الأمريكية).. أخذوا يروّجون لثقافة تحمل لغة في الداخل هي غيرها في الخارج.. فالثقافة بما هي القوة الليّنة بيد الغرب، والتي لا بدّ وأن تحقق مطامح القوة الكيانية القاهرة، صارت هي المحور في تحديد الصداقات والعداوات، وهذا ما يفتح الباب واسعًا أمام الهويات.. لذا، فإن رفضًا لقيم التعدّدية صار ملموسًا في الداخل، إذ “الثقافة الغربية تواجه تحدّيات من داخل المجتمعات الغربية. أحد هذه التحدّيات يجيء من المهاجرين الذين قدموا من حضارات أخرى، ويرفضون الاندماج، ويواصلون الالتزام بقيم وعادات وثقافات مجتمعاتهم الأصلية والترويج لها”[7][7]. و “عندها يفشل الاستيعاب أو الاندماج. في مثل هذه الحالة، ستصبح الولايات المتحدة دولة متشققة أو مصدوعة، مع كل ما يستلزم ذلك من احتمالات الصراع والتفكّك الداخلي”[8][8].

من هنا، فإن دعاة قيم التعددية في الوقت الذي يتحدّثون عن ضرورة استمرارها كتعبير عن دولة الحضارة العالمية التي تجمع حضارات العالم. فإنهم يرفضون التعددية الداخلية. إذ، حينها لن تكون أمريكا هي الولايات المتحدة، بل الأمم المتحدة.. وهنا، منطق الدولة الأم على منطق القيم الحضارية الحداثوية.. أما في الخارج عن بلاد الغرب فالدعوة هي لتعددية ثقافية وحضارية ودينية تشعل الهويات داخل بلدانها، وتدفع الكل نحو المركز.

وهذا ما استوجب ردًّا من منظرين غربيين من مثل دييتر سنغاس وغيره، إذ إنّ هذا المنطق من الطرح يُفرّغ الحضارات من معناها، كما يفرّغ الثقافة والقيم من أي مدلول وتأثير لنكون على عتبات نهايات حضارية لا قارّ لها. وهو اقتضى توجيه دعوة غربية لإجراء نقد جدّي في المضمون القيمي والثقافي داخل الغرب، ليطلّ بعده على عالم حضارات خارجه..

كما أنّ الدعوة توجهت إلى الحضارات غير الغربية أيضًا بالبدء بمراجعة داخل حضاراتها، إذ بحسب وجهة نظر (سنغاس) في كتابه (الصدام داخل الحضارات)، أنّ المخاطر الحقيقية من تفجّر صراع كوني، لا تكمن في العلاقات بين الغرب وغيره، بل إنّ السياقات الثقافية داخل كل حضارة هي أكثر قابلية لتفجّر مثل هذه الصراعات. ثم إنّ العالم الإسلامي لا تكمن مخاوف حربه مع الغرب الأمريكي أو الغرب الأوروبي بالدرجة الأولى؛ فمخاوف حرب كونية إسلامية – هندوسية هي أكثر حظًا من تلك..

إلا أن الملفت في هذه الفرضية أنها تأتي في سياق البحث عن الكيفيات اللازمة لنشر الحداثة، وإزالة الإشكاليات من أمامها، ذلك أنها تعترف بالقيم الخاصة لكل حضارة، وتعتبر أنّ هناك مستويان من صراعات القيم أو الثقافات:

المستوى الأول: يقوم داخل الحضارة نفسها في طريقها الذي تشقه نحو التقدّم والتحديث. والذي لا بدّ أن تشهد فيه صراعات حادّة بين ثقافات متباينة داخل المنظومة الحضارية الواحدة، أو صراعات بين البنى التقليدية للثقافة والتوجّهات الحداثوية داخل هذه الحضارة أو تلك.. وهو يعتبر أنّ سرعة الغرب في تحقيق الحداثة، إنما يعود إلى طبيعة قيمه الثقافية، وإلى مساره التاريخي الخاص الذي أنتج مثل هذه الإنجازات الحداثوية التي ما زال جديدها يتوالى إلى اليوم. لذا، فلا بدّ أيضًا من الاعتراف بقيم خاصة داخل بقية الحضارات، من مثل القيم الآسيوية، أو القيم الإسلامية.

المستوى الثاني: وهو الذي يقوم على الحوار بين ثقافات حضارات مختلفة، والحضارة الغربية. من هنا، فإنّه ينطلق معتبرًا أنّ “الحضارات يجري تصويرها دائمًا باعتبارها مناطق اجتماعية مستقلة، أو حتى قوى فاعلة رئيسية في السياسة الدولية. الافتراضات الزاعمة أنّ الثقافة تمثل جوهرًا ثابتًا هي التي تحدّد طابع الخطاب حتى في الحوار الثقافي المعني اليوم بالصراع بين الثقافات.. وأنّ الافتراضات الزاعمة بجوهرية الثقافة هي السائدة دائمًا وأبدًا في الحوار الثقافي الدائر بشأن القيم الآسيوية والإسلامية وكذا الغربية”[9][9]. وهذا ما بنى عليه جملة أمور منها:

1- إنّ الاختلافات التقليدية حتى في الغرب، كانت قبل أي بدء بعملية تحديث، وأن الحداثة وإن أتت في نفس السياق التطوري للغرب، إلا أنها جاءت كعامل ضغط على بقية الحضارات.

2 – إنّ الصراعات داخل الثقافات التقليدية أو غيرها، يساهم في تطور الوعي بالذات.

3 – إن قيم أساسية للحداثة كالتعددية، إنما جاءت كنتيجة للتسويات التي جرت في الغرب بين القوى المختلفة، بل إنّ التأكيد على الفردية إنما جاء لصالح اللوردات في مواجهة سلطة الحاكم الواحد.

4- حققت أوروبا في مسارها الحداثي توسّعًا استعماريًّا ترتّب عليه نشوء هياكل تابعة لها، ونتيجة لهذا، وقع العالم غير الأوروبي تحت ضغوط تحديثية من الخارج، وإن تباينت أزمنتها ودرجاتها[10][10].. ولمّا وصل التحديث إلى الداخل تزايد حجم الضغط واحتدم الجدال حول عمليات التحديث. والعامل الأكثر بروزًا في تسلسل الحداثة في داخل الحضارات هو ضعف المقاومة فيها.

5- بناءً عليه، “ينبغي أن يكون منطلق الحوار الثقافي الدولي هو عمليات الاختلاف والتباين التي تجري بالفعل داخل الثقافات التقليدية، وتشمل عمليًّا العالم كله[11][11].. لذا ليس لنا أن نندهش حينما نجد الدراسات الدولية حول الإطار القيمي للمجتمعات تؤكّد أنّ التصدّعات الثقافية هي داخل الحضارات، وداخل كل مجتمع على حدة، وليست بالضرورة فيما بين تلك الحضارات والمجتمعات[12][12]..

6- كلما توغّلت عمليات التحديث ازدادت حرارة الانتماءات التقليدية وحمي وطيس النزاع بين الثقافة الواحدة وتعددية القيم الحياتية، ومآلات هذا الصراع إما التجديد أو الاستمرار بالمقاومة – حسب رأي صاحب الفرضية –

وهنا، على هامش هذه النقطة، لا بدّ أن نذكر أن هذه التعددية تصبح مرضًا حسب المعايير الغربية حينما تتضارب مع حفظ مركزية الجنس والدولة الحضارية، والتي ليس إلا الدولة القومية المنتشرة استعماريًّا..

7- إنّ القيام بمثل هذا التحديث في الحقل الإسلامي يحتاج – حسب الفرضية –  إلى إعادة قواعد الشريعة إلى مناخات انطلاقها، وقراءة النص قراءة تاريخية ألسنية، والتأكيد أنّ ما نحن عليه ليس ما كانت عليه الشريعة في ابتداءاتها. لذا، فتجسير العلاقة بين الإسلام والغرب إنما يمر بهذه الحركة الإصلاحية لفكره، وأن تكون حركة جذرية تفرّق بين معنى الديمقراطية والشورى.. وبين الشريعة والقانون.. هذا فضلًا، عن أن مشكلة التنمية تمنع، وبرغم كل التلاوين الثقافية المضافة، من القيام بتجسير العلاقة بين الإسلام والحداثة. هذا في الوقت الذي ينبغي أن نلحظ فيه “أن القيم الآسيوية (من مثل إعلاء قيمة الأسرة والجماعات والتكوينات الجمعية، وكذا توفّر الحس بالنظام والأخلاق العامة، واحترام السلطة المرجعية لأشخاص بعينهم أو المكانة الاجتماعية أو السن أو غير ذلك)، هذه القيم تبدو في ترابطها مع الاقتصاد الحديث والكفوء والمنافس دوليًّا تعبيرًا عن نمط مميّز للحداثة الآسيوية”[13][13].

بعد هذا يخلص إلى ضرورة الاعتراف “بالتحدّي الفكري الذي يواجهنا، وهو نشوء فلسفة مبنية أو نابعة من المقارنة بين الثقافات”[14][14].

ثم يرسم أولويات هذا الحراك الفلسفي، إذ في الوقت “الذي يراودنا الأمل في إجراء حوار مثمر بين الثقافات، ومن ثم صوغ فلسفة سياسية واجتماعية مقارنة بين الثقافات، فإنّ هذا الأمل معقود على واقع أنّ جميع الثقافات تعاني اليوم المزيد من الصراع والاضطراب الداخلي، أكثر مما عانت في الماضي. وأدّى هذا إلى أنها أصبحت أكثر تأمّلًا لذاتها، وليس بالإمكان الشروع في حوار مثمر وحداثي بين الثقافات إلا في ظل هذا الشروط. ولن يكون فقط حوارًا بين ثقافة وثقافة، بل بين القطاعات الثقافية في كل أنحاء العالم”[15][15].

* * * *

هذا، وإن كنا هنا نوافق على مثل هذه الحوارية الداخلية للحضارات، إلا أنّ ما ينبغي الإلفات إليه، هو إيماننا أن الأسئلة الإشكالية المركزية خاصة تلك المتعلقة بقيم الجماعات والسياسة والحضارات لم تعد إشكالات ينفصل فيها الخاص عن العام، أو الداخل عن الخارج، لذا ففي الوقت الذي نبحث فيه عن هذه الجدليات الثقافية.. لا بدّ أن نقدّم مشروعًا ينبني على فلسفة قيم كونية يلحظ القيم بذاتها من جهة، والقيم النابعة من إرث الكنوز الحضارية التي يأخذ فيها الدين موقعه الأكثر تأثيرًا من جهة ثانية، ثم القيم النابعة من التجربة الحيّة المعاشة في علاقة الحضارة بذاتها أو بغيرها من بقية الحضارات. واقتصار هذه المشاريع السابقة على الثقافات المتداولة في حركتها العملية وحدها لا يسجل بالواقع، إلا رأس الجبل من القيم المؤثرة في حياة المجتمعات والحضارات. كما أن جعل الهدف هو التحديث تحديدًا فيه مصادرة لنتائج أي نقاش جدّي، بل فيه تحول لفلسفة الحضارة أو الثقافة إلى أيديولوجيا الحضارة والثقافة، تأتي من سياق غربي محدّد لخدمة مشروع الحضارة الكونية بصورتها المتمثّلة بقوة وسطوة التوسّع الاستعماري للولايات المتحدة الأمريكية، والذي ظهر كيف أنه بموجبه يتم الحكم على القيم والحضارات والشعوب على ضوء إرساء مفادات جديدات لمعنى الهوية والأحكام المتعلقة بها، بحسب قرب تلك الهويات من (الدولة – الحضارة)، أو بعدها عنها.. وهنا سوف نقدّم واحدة من المساهمات المنطلقة من الانتماء الإسلامي لمعالجة فلسفة القيم البانية لأفق لقاء بين الحضارات ومكوِّنات لمواطنية كونية.

قراءات إسلامية لموضوعة القيم، الحداثة، الحضارة

رغم علمنا أهمية المساهمات الأولى التي تلت انهيار الدولة العثمانية، وصعود سيادة الغرب في العالم الإسلامي وما أفرزته هذه المرحلة، وما تلاها من مرحلة ثقافة الإسلام الحركي التي مثلتها الأحزاب الإسلامية.. إلا أننا سنقصر معالجة هذه الموضوعة على بعض النتاجات الإسلامية المتصلة بمشاريع ثقافية حوارية مع الحداثة، أو تلك المتصلة ببناء أفق لمشروع حضاري إسلامي أخذت معالمه تتضح بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وبنائها دولة تحتضن هذا المشروع..

أما الأنموذج الأول الذي سنعالجه فهو مشروع “العالمية الثانية للإسلام”: والذي تولّد عنه مشروع ثقافي تحت عنوان، إسلامية المعرفة التي سعت لمواجهة النتاج الثقافي والفكري الحداثوي بأسلمة هذا النتاج. وبغض النظر عن مدى موفّقية هذا المشروع، وعن الإشكاليات المنهجية التي وقع فيها، فإن الملفت فيه هو اعتباره أن العلوم حيادية الذات والشكل، وأنها لو أعطيت روح قيم غربية فستوظّف غربيًّا، كما أنها لو نفخ فيها من روح القيم الإسلامية فستتجه للتماهي أو التكامل مع الأطروحة الثقافية الإسلامية.. وهذا يعني أن الإيجابية هي القيمة الحاكمة في مثل هذا المشروع، ولو انطوى على قيمة إضافية حكمت المسار الرؤيوي للمشروع وهي التوفيقية بين النتاجات الحضارية، بل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانوية، والرافد الإسلامي.

توفيقية، قد يستشعر القارئ دخولها بشكل إسقاطي. ولعلّ من أخطر تجلّيات هذا المشروع الأساسي هو ما قدّمه (محمد أبو القاسم حاج حمد) في كتابه (الحاكمية) من قراءة نقدية لمفهوم الحاكمية عند الحركات الإسلامية. ومحاولته التأسيس، على بناءات قرآنية، لمفادات قسَّم فيها مفهوم الحاكمية إلى مراحل من التوظيفات القيمية.

أولها: اعتبار أن الحاكمية تندرج في سياق الجبرية اللاهوتية التي إذا ما ارتبطت بالتشريع، فإنّ الله فيها سيعمد إلى أربعة أمور:

1 – قيادته المباشرة للمجتمع. وما دور الأنبياء إلا إجراء التنفيذ اليومي.

2 – أن يبرز خوارق الهيمنة على الطبيعة والإنسان.

3 – أن يحدّد لحاكميته أرض مقدّسة.

4 – أن يقابل كل خطيئة بعقاب صارم ومباشر.

ثانيها: حاكمية الاستخلاف، التي يقودها ملوك لا أنبياء.. من مثل داوود وسليمان، وهي تقوم على قاعدة التسخير لقوى الكون.

ثالثها: الحاكمية البشرية، والتي تلت مرحلة نبوّة رسول الله محمد (ص)، إذ صارت الرسالة الإلهية خطابًا عالميًّا لا ينحصر بالقبلية، “ثم نفهم حاكميتنا البشرية التي تتجاوز بنا عبر الكتاب (القرآن) ضيق اللاهوت الجبري، وضيق العلمانية باتجاه الوعي الكوني المطلق”[16][16]. لذا، وجّه اهتمامه إلى إصلاحية تتجاوز قراءة النص أو اعتماد أو معرفة مقاصده، نحو السبر في خلفيات النص، إذ “بالمنهجية القرآنية كوعي يعادل موضوعيًّا الوجود الكوني وحركته، وعبر الجمع بين القراءتين، حيث يتحقق الوعي الإنساني بالوحدة الجدلية الرابطة بين الغيب والإنسان والطبيعة، يطرق الإنسان أبواب عالميته الإسلامية الشاملة. وكذا يطرق أبواب وجوديته الكونية”[17][17].

لكن المشروع في حقيقته لم يسع – وبرغم مفردياته الممكنة، في مقابلة الحداثة الغربية على محورية البشرية – إلا إلى حل مشكلة قيم المعرفة العلمية المعاصرة، وإعطائها صفة العالمية. باعتبار العالمية صارت واقع الحياة المعاصرة.

الأنموذج الثاني: وهو الذي قدّمه المفكّر المغربي “طه عبد الرحمن” في مساهمته التي قدّمها حول قراءة الحداثة، والتي ميّز فيها بين روح الحداثة، وهي روح عامة مبنيّة على جملة من القيم الخاصة، ومصداق الحداثة التي تختلف من حضارة لأخرى. والتي تمثل فيها الحداثة الغربية مجرّد نموذج له خصوصياته القيمية، وهو أمرٌ لا يمنع الإسلام والمسلمين من أن تكون لهم حداثتهم وقيمهم الحداثوية الخاصة أيضًا.

فبعد أن أخد “عبد الرحمن” باستعراض التعريفات الخاصة بالحداثة من مثل أنها: حقبة تاريخية متواصلة ابتدأت في أقطار الغرب، أو هي مجموعة مواصفات طبعت هذه المرحلة، أو هي النهوض بأسباب العقل والتقدّم والتحرر، أو هي ممارسة السيادة على الذات والطبيعة والمجتمع عن طريق العلم والتقنية، ومن قائل: إنها قطع الصلة بالتراث وأنها العقلنة، أو الديمقراطية أو حقوق الإنسان إلخ.. ليخلص إلى تبنّي ما قاله هابرماس إنها مشروع غير مكتمل. ومن هنا، فإنّ “عبد الرحمن” يطرح رأيه بأن روح الحداثة غير واقع الحداثة الغربي.. وأنّ هذه الروح الخاصة بالحداثة تقوم على مبادئ ثلاث، هي: مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول[18][18].

وأنها بمقتضى المبدأ الأول فإنها تنقل الحضارة من القصور والتبعية إلى الرشد والاستقلال كما الإبداع. وبمقتضى المبدأ الثاني، فإنها تؤمّن الانتقال من حال الاعتقاد إلى الانتقاد القائم على ركنين: التعقيل، والعقلنة هي التفصيل في الأمور للتمييز بينها. أما بمقتضى المبدأ الثالث، فإن الأصل في الحداثة الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول؛ والمقصود من الخصوص، حدود مجال المعلومة، وحدود المجتمع. أما الشمول، فإنّه يتوسّع بالحداثة إلى كل مرافق الحياة فتؤثر في مجالات الفكر والدين والعلم والأخلاق. أما التعميم الذي تقدّمه الحداثة فهي تجاوزها لمجتمع خاص نحو العالمية [19][19].

وبهذا، فإنّا نلحظ الطابع القيمي الحاكم على المبحث بمجمله، بحيث لا يمكن الدخول إلى الحداثة بما هي روح الحضارة القائمة ذات الحاكمية السيادية، إلا من باب تفصيل القيم البانية لها والمتفرّعة عنها، كما يمكن أن نلحظ أن لا موقفًا سلبيًّا من المصطلح الحميم عند الغرب. بل هو واحد من تقاطعات الصلة الكونية بجدلية بانية للرسالة العالمية، والتي لم يتخل الباحث عن تقديم نموذج إسلامي حيّ يحمل كل مكوّناتها القابلة للتعميم – حسب رأيه – والذي طرحه في كتابه “الحداثة والمقاومة”.. وذلك بعد قيامه بتقديم تعريفه الخاص للحداثة: “إن الحداثة عبارة عن نهوض الأمة، كائنة ما كانت، بواجبات واحد من أزمنة التاريخ الإنساني بما يجعلها تختص بهذا الزمن من دون غيرها وتتحمل مسؤولية المضيّ به إلى غايته في تكميل الإنسانية”[20][20].

إذن، لا بدّ من حراك يبعث الحياة من داخل الحضارة نفسها، ولا بدّ من جهد واجتهاد لتحقيق الأهداف والقيم الإنسانية العليا. ويعتقد أنّ الحكومات الإسلامية وإن فقدت القدرة على إحداث مثل هذه الغاية، إلا أنّ الشعوب بحركاتها المقاومة، باعتبار المقاومة قيمة تتفرّع عن أصول القيم الكبرى، هي المؤهّلة لقيادة المشروع الحداثوي الإسلامي. من هنا، فإنه يقول: “إن الأنموذج الإسلامي في المقاومة، متمثلًا في حرب تموز 2006 أدخل الأمة في طور فاصل من أطوار الحداثة الإسلامية التي ابتدأت يوم أن قررت الأمّة أن تتولى أمرها بنفسها”[21][21].

إلا أنّ هذا الأنموذج لمقاربة الحداثة، ليس على نفس السياق مع من يرفضون مبدأ الحداثة ومشتقاته من الإسلاميين، إذ يعتبرون أنّ نهوض حضارة الأمة يقوم على مقصد التجديد وليس الحداثة.

الأنموذج الثالث: وهو الذي يمثل الوعي المتوتر في رفض أي مقولة تنتمي إلى الغرب وحضارته، ومن موقع أنّ القيم الإسلامية لا يمكن لها أن تستقيم على وفاق مع قيم الحضارة الغربية. ويعد “عبد الوهاب المسيري” في كتابه (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، واحدًا من أكثر المتبنّين لهذا التناقض القيمي بين حضارتي الإسلام والغرب.. وهو تناقض عبّر فيه عن سلبية الحضارة والحداثة الغربية في مقالة مطوّلة له في مجلة “وجهات نظر” تحت عنوان: (نحو حداثة إنسانية)، يعتبر فيها أن التعريف الذي قدّمته الحداثة لنفسها على مستوى (المعاجم) ليس هو ما يُعبِّر عن حقيقتها بحسب الواقع والمسار التاريخي للحداثة الغربية. إذ إنّها ليست مجرّد استخدام للعقل والعلم والتكنولوجيا، بل هي استخدام كل ذلك بشكل منفصل عن القيم. علمًا أنّ العالم المتجرّد عن القيم هو عالم منفصل عن الإنسان، عالم الصيرورة المادّية، حيث يخضع الإنسان لسطوة المادة، ويقع رهن النسبية وعدم القدرة على التمييز بين الخير والشر. ففي غياب القيم المطلقة يصبح الفرد أو الجماعة هما مرجعية أنفسهم  والخير ما يرونه ضيرًا، وكذا الحق والصواب. “وقد أدّى هذا إلى ظهور القوة والإرادة الفردية آلية واحدة لحسم الصراعات وحل الخلافات”[22][22].

وهكذا رأى المسيري سواءً في تحليله للحداثة أو العلمانية أنهما تقومان على قيم غربية بحتة نزعت القداسة عن العالم، وشيّأت الإنسان وطرحت العقلنة والترشيد لتحوّل المعاني والروح والقيم إلى مجرّد أرقام، وهذا ما يفتح العالم على القلق الذي لا منفذ منه إلا بالعودة نحو القيم المطلقة.. إلا أن هذا الأنموذج من النفاذ للمنظومة الغربية يضعنا على أبواب توقع البديل دون أن نلمس عندهم ما يلج في قلب المشروع العملاني للحضارة الإسلامية.

ولعلّ اهتمامهم بالجانب المعرفي فاق كل اهتمام. لكن والحق يقال: إن مشروع “طه عبد الرحمن” قد دخل إلى موضوعات القيم الإنسانية والحضارية من نافذة الطروحات المعرفية العميقة لمبادئ القيم الإسلامية، بحيث إننا لا نستطيع في أي مبحث للقيم أن نتجاوز طروحات هذا المفكّر النوعية، التي وإن غلبت عليها الروح الصوفية، لكنها يبقى لها قصب السبق في التصدّي لهذا الموضوع البالغ الحساسية.

الأنموذج الرابع: وهو الذي واكب من موقعه الاجتهادي مرحلة ثقافة الإسلام الحركي، خاصة في تحدّياته مع المد الشيوعي واليساري، ثم تفاعل مع مرحلة بدايات الإسلام الحضاري الذي بنى لنفسه دولته الخاصة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.. وهذا الأنموذج يتمثّل بالسيد محمد باقر الصدر الذي سعى للمزاوجة بين الاجتهاد الفقهي ومواكبته الفكرية للنموذج الماركسي، وبعض مظاهر الليبرالية الرأسمالية.. وقد صنّف بسبب هذه المزاوجة كتابَي: “فلسفتنا” و”اقتصادنا” كمسعى جدّي لخوض غمار الجدل الديني والفلسفي مع الماركسية، ومحاولة رسم بعض معالم المذهب الإسلامي على المستوى الاقتصادي.

إلا أن السيد الصدر، وانطلاقًا من مرحلة الإطلالة على الشأن العام من موقع الناقد لبعض الأنظومات الغربية، وبرغم معايشته للمرحلة الأولى لبدايات الإسلام الحضاري ظلّت أفكاره تتمحور حول أن المشكلة الأساسية في العالم هي المشكلة الاجتماعية. من هنا، رأينا كيف أنه توّج مرحلته الأولى بكتاب المدرسة الإسلامية الذي قال فيه: إن الإشكالية الأساسية هي حسب قوله: “مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمسّ واقعها بالصميم، هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟”[23][23]. فالمشكلة الاجتماعية إذن، هي الأصل ولا حديث له حول أفق حضاري ما، وإن عمل دومًا وبشكل جدّي على البحث عن منظومة الموضوعات الاجتماعية الحسّاسة من مثل: المذهب الاقتصادي أو المذهب الفكري، ولقد كان يدمج على الدوام هذه القراءات بأصول من القيم العليا البانية لتلك الأنظومات الثقافية والاقتصادية وغيرها..

وتأسيسًا على هذه المرحلة من حياته الفكرية التي غلب عليها إطار المعالجة النقدية للأنموذج الماركسي في قراءته المعرفية بالأساس، وللنموذج الغربي بالتبع. فإنه ومع التقائه بالمرحلة الثانية من تطوره الذي واكب فيها مشروع الإسلام الحضاري أخذ يقدّم بعض القراءات للنهضة الإنسانية للإسلام، وكيف أنها تُبنى على قيم قرآنية مؤسِّسة للحياة المستقبلية، وكيف أن هذه النهضة تطمح لتأخذ موقعها الرائد في بناء المشروع السياسي للإسلام والمساهمة التاريخية لبناء العالم، وإن على أصول من القيم السامية الناشئة من مبدأ الاستخلاف الإلهي.. وبالرغم من إرهاصات التنوّع الثقافي والذي يشي بإمكانية التقدّم نحو بناء فكر وقيم حضارية إسلامية خاصة، إلا أنّ مشروع السيد الصدر لم يعالج موضوعة الحضارة بشكل مباشر.. على الرغم من قراءته في كتاب “السنن التاريخية في القرآن” لأهم عناصر مرتكزات الحضارة، وهي: “أولًا الإنسان، ثانيًا الأرض أو الطبيعة على وجه عام. ثالثًا العلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بالأرض والطبيعة، وتربط من ناحية أخرى الإنسان بأخيه الإنسان، وهذه العلاقة المعنوية هي التي سمّاها القرآن الكريم بالاستخلاف”[24][24].. هذا، وبالرغم من تقديمه لمرتكزات البناء الحضاري.. إلا أنه أطلق عليها اسم: عناصر المجتمع.. فهل هناك من موقف سلبي تجاه الحضارة؟ أم أن المصطلح لم يكن واردًا في ثقافته؟ أم أن الحضارة بمعناها الفعلي لم يشتغل بها العقل المسلم إلا كتاريخ مضى، وهو لم يعد يطمح لها بعد ذلك؟

هذا، مع العلم أنّ السيد الصدر بكَّر بربط عقيدة خروج المهدي (عج) بحدوث فراغ حضاري تعاني منه الإنسانية، يستلزم التمحور حول أمل يتمثل بحضارة تختلف عن الحضارات القائمة. وهذه الحضارة هي الإسلامية الواعدة بخروج المهدي الموعود.. فهو في معرض معالجته للظروف التي سيخرج فيها المهدي (عج) يقول: “هناك افتراض أساسي واحد بالإمكان قبوله على ضوء الأحاديث التي تحدّثت عنه، والتجارب التي لوحظت لعمليات التغيير الكبرى في التاريخ، وهو افتراض ظهور المهدي (عج) في أعقاب فراغ كبير يحدث نتيجة نكسة وأزمة حضارية خانقة. وذلك الفراغ يتيح المجال للرسالة الجديدة أن تمتد. وهذه النكسة تهيء الجو النفسي لقبولها، وليست هذه النكسة مجرّد حادثة تقع صدفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، وإنما هي نتيجة طبيعية لتناقضات التاريخ المنقطع عن الله – سبحانه وتعالى – التي لا تجد لها في نهاية المطاف حلًّا حاسمًا فتشتعل النار التي لا تبقي ولا تذر. ويبرز النور في تلك اللحظة ليطفئ النار ويقيم على الأرض عدل السماء”[25][25].

إننا نتلمّس في هذا النص وعيًا خارج إطار اللحظة، يعيش الحضارة الإسلامية مستقبلًا جديدًا بقيادة العصمة الإلهية التي يمثلها القائد الإلهي، ضمن ظروف موضوعية ونفسية تجعل اللجوء إلى الدين هو الملاذ الذي يُخرج الإنسانية بسبب انقطاعها عن القيم المطلقة من ظلمات الألم والعذاب والقلق، إلى عدل السماء بعد أن تتصل الأرض بالسماء عبر قيم إحقاق الحق والعدل.

الأنموذج الخامس: وهو الذي انطلق من محورية قيم العدالة الإلهية في مشروعه التنظيري المواكب لحركة الواقع. والذي عاش في أحضان قيادة ثورية إسلامية طامحة لبناء الإسلام الحضاري المعاصر.. وهذه الشخصية هي “مرتضى المطهري” الذي أكثر ما ركّز أبحاثه على قيم الإسلام في معالجاته المتنوّعة.. إذ ركّز على قيم التوحيد في الرؤية الإسلامية للعالم.. وقيم الحق في إطلاقه عند مناقشته للقيم النسبية. وقيم العدالة في مقاربة الإسلام لمتطلبات الحياة والإنسانية بمتغيراتها. وقيم الحرية والاستقلال عند مواكبته لبدايات النهضة الإسلامية المعاصرة لمشروع الإسلام الحضاري الذي ابتعثه الإمام الخميني (قده).

هذا، ويمكننا القول: إنه نظر للعدالة أو العدل كقيمة مركزية كبرى في الرؤية والتفريغ الإسلامي “فإذا دققنا النظر في القرآن وجدناه يدور حول محور واحد هو العدل… فالعدل في القرآن قرين التوحيد وركن المعاد، وهدف تشريع النبوة، وفلسفة الزعامة والإمامة، ومعيار كمال الفرد، ومقياس سلامة المجتمع”[26][26].. ففي الموارد التي يتعلق فيها العدل بالنبوة أو التشريع والقانون، فإنه يعتبر معيارًا ومقياسًا لمعرفة القانون، أما في الموارد التي يتعلق فيها بالإمامة والقيادة، فإنه يعدّ نوعًا من اللياقة، وفي الموارد الأخلاقية يعتبر أملًا إنسانيًّا، وفي المجالات الاجتماعية يعدّ مسؤولية”[27][27]. فالعدل في الإسلام – حسب المطهري – قيمة تنطوي في القرآن الكريم على امتدادات تتصل بالتوحيد بإفاضة الكمالات اللائقة بالموجودات، وهي، هذه القيمة، سر الحساب يوم القيامة، وعليها ينبني حكم مصير الإنسان، وهي الغاية العظمى لبعثة النبوّات والرسالات، كما أنها ملاك تكامل جهاد الفرد في بناءاته الذاتية والنفسية المتصلة بانعكاس العدل على موقع الإنسان في تدبيره للحياة والشأن العام، ومستويات تحمّله للمسؤولية، بل إن قيمة العدل هي التي تعطي للمبادئ الأخلاقية أفقها الإنساني الذي يثمر أملًا وتوقًا طامحًا نحو السعادة والكمال. وجملة هذه القيم المتفرّعة عن قيمة العدل الكلية والمتسامية النابعة من قيمة الارتباط بالمطلق سبحانه، هي التي تقدّم منارات التفكّر في مسار وبناء ومصير الحضارات في علاقاتها، أو في تأسيساتها، والتي لا بدّ أنها تنتظر تحقّق هذه القيم ببعدها الفلسفي والنظري، بالأنموذج العملي الذي يولّد قيمًا خاصة بحدود معيّنة أو محكومة بحيثيات زمنية ومكانية تشاطر القيم العليا روحها النافحة حياةً وتساميًا في المطلب والأصل الإنساني.

وحول طبيعة وأنواع القيم عند المطهري يتحدّث صاحب كتاب مبدأ العدل عند الشهيد مرتضى المطهري، أنّ المطهري يلفت إلى وجود نزعات مقدّسة عند الإنسان، ووجود نزعات تمحورية؛ ومقصوده بالنزعات التمحورية أنّ هناك قيمًا تدور مدار محورها وجودًا وعدمًا. وعلامة قيمة شيء لشيء هي مؤثريته فيه. ويدور هذا التأثير مدار الحاجة والنقص بأن يكون سادًّا للحاجة ومتمّمًا للنقص. وتارة ننظر للقيم المحورية كعلاقة مباشرة بشيء معيّن مثل قيمة الأمن للاستقرار النفسي عند الإنسان مثلًا.. وأخرى تنظر لعلاقة قيمة معيّنة بالإنسان لا بذاته، بل لتأمين احتياجات أخرى من الكمالات والرفاهية والمتع[28][28]..

إلا أن للشهيد المطهري نظرة خاصة للنزعات المقدّسة غير التمحورية، إذ يرى أنها “نزعات يراها الإنسان في وجدانه في مرتبة أعلى وأرفع. وكلما ارتفع ميزان تمسّك الإنسان بهذه الميول، ازداد اعتبار الناس لرفعة هذا الإنسان”.

وهكذا، فإن مبحث القيم عنده انطلق من قيم تتجاوز الإنسان ليطمح لها في كيانه ووجدانه، وهي القيم العليا، وقيم تتمحور حول الإنسان، وهي القيم التي تتفرّع وتتشعّب حسب المصالح والاحتياجات والرغبات الإنسانية، ومنها ما هو مادي مآله الزوال، ومنها ما هو معنوي يحفظ استمرار الذات.. إلا أنّ هذا النوع من مباحث القيم يلبّي قراءة الحياة الفردية للإنسان، أو الفرد داخل جماعته، إلا أنها لم تصل لتكون أبحاثًا تطال بشكل مباشر القيم الحضارية أو المؤسسة للحضارة، وإن كانت في بعض مظاهرها تصلح لتكون القيم المؤسِّسة للقيم الحضارية الإسلامية.

 القيم الإسلامية أمام التحدّي الحضاري

انطلاقًا من سياقات ما مرّ معنا، من المفيد أن نؤكّد أن العقل المسلم اليوم يعيش تحدّيات حقيقية اتجاه المشروع الحضاري، إلا أن المساهمات التي قدّمها اقتصرت على أجزاء مفصولة من نقد الحضارة الغربية، وعلى تقديم تأمّلات أو أبحاث ومعالجات لقيم فلسفية وقرآنية ومجتمعية تصلح بمستوىً من المستويات للاعتماد عليها في مقاربة المشروع الحضاري الذي ما زال هذا العقل يعيشه كمنجز من ماضٍ مجيد يترك في النفس الأسى من فقدانه، وكأمل مستقبلي يتمنّاه ولا يلج فيه. وذلك بسبب عدم معايشة الرساليين المسلمين لمشروع حضاري إسلامي فعلي، يمكن البناء عليه بطروحات نظرية وفكرية.. وهنا لا بدّ من النظرة إلى المحيط الإسلامي الذي تعايش حكوماته فواصل حادّة عن شعوبها، وانفصامات في شخصيتها السياسية والفكرية – الدينية.. فالدول ذات الغالبية المسلمة ما زالت تتعامل مع الأطروحة الإسلامية كبصمة بروتوكولية في دستور البلاد المتماهي مع فصل الدين عن الشأن العام، أو وضعه تحت تصرّف الحاكم، وبما يحقق توظيفات رغباته وسياساته.. فمن الإرث الذي كانت تمثله تركيا للخلافة الإسلامية وانعطافها الحاد نحو العلمانية الصلبة، ثم الاستفاقة الإسلامية التي لم تتصالح بعد مع استقرار واضح في نموذجها. إلى مصر التي برغم ما تمثله من دور ريادي للمؤسّسة الدينية (الأزهر) فإنها شقّت طريق الربط الثقافي عربيًّا مع الغرب، وابتعثت نهضة القومية الغربية في المنطقة، وصولًا لمآلات اصطفافها بالمشروع الأمريكي الذي يعمل على توليد شرق أوسط جديد يحفظ لإسرائيل مركزية خاصة. إلى المملكة العربية السعودية التي وبرغم دورها وموقعها المعنوي، إلا أنها لم تستطع الخروج نحو الأنموذج الإسلامي في قيم السيادة والسلطة السياسية. فضلًا عن تحقيق شرط التمثيل المستقل للحضارة الإسلامية بسبب وجود العلاقات الدولية التي ترتبط بها.. مما أفسح بالمجال لإيران وبرغم اللغة والقومية والمذهب كمعوّقات انتشار لها في العالم العربي – الإسلامي، أن تتفرّد بمطمح تقديم الأنموذج الإسلامي الذي يطل على خلق مناخات حضارة إسلامية جديدة. تدخل في مناخات من حراك الحوار والصراع الحضاري مع بقية الحضارات، سيما الحضارة الغربية المركزية الأمريكية منها، أو تلك المتفرّعة أوروبيًّا.

الأمر الذي يفرض علينا منهجيًّا أن ندرس إرهاصات ولادة الحضارة الإسلامية من خلال الأنموذج الإيراني، الذي قدّم فيه رائده المؤسّس، الإمام الخميني (قده)، نقطة انطلاق نظرية نحو هذا المشروع الحضاري، كما أنه عمل وقيادة الثورة والدولة الإسلامية على صوغ وممارسة حراك عملي انطلاقًا من أصول ومباني النظرية التي قدّمها الإمام الخميني، والتي تمّ التوافق على تسميتها بنهج الإمام الخميني، أو نهج ولاية الفقيه.. وهو نهج لم يقتصر على بناء الدولة، وإن كان للدولة موقعها المركزي فيه. إلا أنه تعدّى ذلك نحو بناء مؤسّسي لمرافق الدولة التي أخذت تؤسّس لانتماءات يصح تسميتها، في رحاب الحاكمية الإسلامية، ولأول مرة، بمؤسسات المجتمع المدني، التي تتوسط العلاقة بين الدولة والمجتمع الأهلي بانتماءاته الدينية والتقليدية. كما أن لهذا الأنموذج دوره المتميز في حلبة الصراع الحضاري عبر ما تثيره إسلامية النظام من جهة، وطموحات التقدّم العلمي والتقني والثقافي الذي بدأ يثير القلق في مخيال الغرب عمومًا، ودولة الحضارة العالمية تحديدًا. بل هو تعدّى هذه الحدود نحو تواصل لنموذجه مع شعوب وتيارات وحركات في المنطقة تتجاوز الأطر المذهبية وتمثل الريادة الشعبية في بلدانها، كما تمثل قيادة التصدّي لأهم قضايا المنطقة وهي قضية فلسطين والصراع الوجودي مع إسرائيل. مما يوفّر لهذا النهج الإطار الجديد للمراجعة الداخلية للحقل الإسلامي بمستوياته المتنوّعة والمتعدّدة، وهو شرط الدخول إلى الحوار العالمي بين الإسلام الحضاري، والحضارات الأخرى.

انطلاقًا من ذلك، وانطلاقًا من الاستفادة من كل جهد تنظيري للمراحل السابقة التي عالجت هواجس الأمة، يمكن لنا مقاربة الموضوع الحضاري من منطلق مبحث القيم دون غيره.. ذلك أن الثقافة لا تمثل بؤرة المعنى في فهم الحضارة الإسلامية بسبب الاختلاطات التي عانتها في معترك ملاقاتها للصدمة الحضارية مع الغرب.. كما أنّ السياسة لا تصلح لأخذ هذا الدور، إذ لم يبرز دور سياسي استثنائي للجماعة أو الجماعات الإسلامية يؤهّلها لرسم مسارات حضارية لنشاطها، ونفس الكلام يمكن قوله فيما خصّ الموضوع الاقتصادي.

بينما يمكننا التأكيد على الدور الاستثنائي لمركزية ومحورية القيم الإسلامية في إنشاء حضارة إسلامية جديدة. وهي فضلًا عن ذلك تستوعب في مباحثها وفاعلياتها الشؤون العقيدية والشرعية فضلًا عن الثقافة والسياسة والاقتصاد، بل وأمور المجتمع، وبلغة بحثية لها طابعها الفلسفي. فمن المعلوم أننا على بدايات القرن الواحد والعشرين نعيش اهتمامًا جامحًا يرتبط بموضوعة القيم.. مما يسمح لنا أن نتحدث حول فلسفة قيم النهوض الحضاري.. وهذا الاهتمام إذ يواكبه عودة حضور الدين في صحواته العالمية. مما يؤهّل المبحث أن يدمج ما بين الدين والقيم في فلسفة مضافة أخذت تنتشر في شؤون الحياة، إضافة لعلوم كانت حتى الأمس خارج أي حكم قيمي، وباتت اليوم في قلب مبحث القيم والأخلاق.

هذا، وللقيم الإسلامية ميزتها الخاصة في عالمنا المعاصر.. إذا استطاعت العولمة، والعولمة الاقتصادية بنحو خاص، إذ وبعد أن فتحت العالم على مصراعيه أقامت جملة من القيم التبادلية – الاستهلاكية الخاضعة لمنطق السوق والرغبة، مما أعطى القيم معنى الأرقام والأشياء، وأفرغها من أي موضعية أو ثبات ليربطها بارتهانات الحاجة والكماليات، والرغبة المتبدّلة والنسبية.. وهو ما أحدث، وما زال، ضجيجًا هائلًا في مباحث وأطروحات القيم اليوم.. لأنه كلما ازدادت صبغة عولمة القيم، كلما تقوّضت الأصول الثابتة للقيم، وهذا ما يتجه بها نحو العدمية العابثة بكل شيء عبر فوضى الحقائق والمعاني، وفوضى الحراك الحياتي المحكوم بنفس الوقت بمنطق عنف الدولة، ودولة القوة القاهرة المسمّاة بباعث الحضارة العالمية الكونية.

إنّ هذا الفراغ الحاصل والذي عبّرت عنه بعض مؤسّسات اليونسكو بحوارات أجرتها حول القيم على أعتاب القرن الواحد والعشرين. هي واحد من أهم الأسباب التي تفتح الباب واسعًا أمام المشروع الحضاري الإسلامي ليقدّم نموذجه، بل منظومته القيمية الخاصة، وليشكّل البرنامج الإرشادي للحراك الحضاري لإنسان العالم.

ونحن في هذه العجالة، يمكن أن نرسم بعض وجوه هذه المنظومة القيمية، والتي تقوم على سردية للذات الإنسانية بخطاب إلهي مما يزاوج الذات الإنسانية بين وجهها البشري وانتمائها الإلهي. وذلك حينما تحدّث القرآن عن خلق الكون، وجعل الإنسان فيه خليفة الله في أرضه بعد أن كوّنه من طين يربطه بحيثيات الأرض، ويجعله مظهر جلالة القدرة الإلهية “خلقت الإنسان بيدي”، كما أنه سوّاه وكرّمه بنفخ الروح فيه لتسجد له رموز مُثل السماء من ملائكة الله التي ترمز للقيم الإلهية الخاصة بالإنسان من هداية الوحي، إلى رمز الرزق، ورمز الموت، ورمز الخير الذي خرج عنه رمز الشر أيضًا. ثم سخّر قدرات الأرض، وأودع فيه قدرة المعرفة ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاء كُلَّهَا﴾[29][29]. وقدرة التعبير والتواصل ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾[30][30]، وإرادة المصير ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾[31][31]… وابتعثه ليعيش صراع الحياة البانية للمستقبل (الهبوط نحو الأرض ليعدو بعضهم خلف بعض في مستقر وقتي لمتاع زائل هو الدنيا الراسمة للمستقر الدائم المسمّى بعين الحياة؛ ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾[32][32]).

وهذا الاستخلاف الجعلي من الله للإنسان أولد أول قيمة إنسانية، وهي (الخلافة)؛ والخلافة كقيمة تعني أن الإنسان ليس مالكًا مستقلًّا.. بل هو مستأمن على ما استُخلف، وهنا تأتي القيمة الإنسانية الثانية (الأمانة) كقيمة تفرض بمنطقها دلالة أن في الإنسان طاقات هائلة تؤهّله لنيل الثقة الإلهية وتحمله بنفس الوقت القيمة الكبرى الثالثة، وهي (المسؤولية)؛ والمسؤولية هنا تبدأ عن حفظ أمانة الذات الإنسانية على مقتضى الفطرة، والفطرة هي منبع قيم هائلة تعبّر عن مضامين الذات المتجهة بجهدها واكتسابها لاكتساب هويتها الفردية والجماعية عبر بذل (الجهد) كقيمة عنونها الإسلام بالجهاد الأكبر والأصغر، والذي يفتح مع القيمة الموصولة على كل تجربة لتطبيق أصول الهداية، ولو ببذل النفس حفظًا للمبادئ وحسن سير التجربة.

ومجموع هذه القيم تمثل الدائرة الأوسع والأولى في حلقة تواصل القيم. وهي التي يمكن لنا أن نسمّيها بالقيم الفطرية أو الجعلية.. والتي عنها يمكن أن تتولّد أمة القيم التي تتصل بكل حضارة وجماعة وأفراد من الناس على اختلاف شرائعهم ومناهجهم. وقد تواصل نهج الإمام الخميني، في أدبياته مع هذه الدائرة، عبر تسميتها بجبهة المستضعفين في الأرض.

وقد تكوّن بموجب هذه الحلقة الأولى من القيم، حلقة ثانية يصح تسميتها بالقيم العقيدية – التشريعية. والتي تمثل الولاية كقيمة مركز المعنى فيها. لذا، فإنها تمتد إلى كل منحىً من مناحي العقيدة: ولاية الله، ولاية الرسول، ولاية المعصوم، ولاية الفقيه.. كما وتمتد إلى كل مورد تشريعي. إذ لا يمكن إضفاء معنى للأحكام القانونية والتشريعية خارج إطار الولاية. ولتأخذ هذه القيمة حيّزها الموضوعي النافذ بما يتلاءم مع المنظومة الإسلامية الكلية، فإنها ترتبط بما لا انفكاك له بقيم العدالة. إذ العدل هو صنف التوحيد، وهو الخالق لبيئة الصلاح في مسار القيم الإسلامية التأسيسة منها والفرعية. وبموجب هذه القيمة التوسطية بين القيم العليا (المثل العليا) والقيم الإجرائية تنبني الأمة الإسلامية كحاضن لهذه الحلقة من القيم ﴿جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾[33][33]. ولعلّ موضوعة الشهادة هي الواصل الأكثر حساسية بين حلقة قيم الفطرة الجعلية، وقيم الأمة الإسلامية العقيدية – التشريعية.

ثم وبموجب هذه الحلقة من القيم الوسطى تتفرّع قيم الجماعات والمجموعات بما هي شعوب وقبائل ودول وقوميّات وأوطان ومؤسسات، وترتبط هذه الحلقة من القيم بالقيم الوسطى (الأمة) كمدى لحراكها الولائي المبني في فاعليته على قيمتي التولّي والتبرّي المعبِّر عن الهوية المشتركة لذوات ثقافية ووطنية وقومية متنوعة تخوض بفعل ارتكازاتها على الزمن والبعد الجغرافي ومسار تاريخها الخاص، ما يرفد خصوصيات هويتها العامة ببناءات من الذات المتعددة الأبعاد التي توصلها بالأنا والنحن والآخرين..

وما أودّ الإشارة إليه هنا، أنّ هذه الحلقات الثلاث موصولة ببعضها، بحيث تشكّل عرى الهوية العامة للحضارة الإسلامية، وهي مشدودة على الدوام لتتحيّز ضمن وقائع وذوات وحقائق ومسارات، ذلك أنّ القيم كالماء، وإن كان منها كل شيء حي، إلا أنها تأخذ أشكال الأوعية التي تتقوّم بها، والتي تظهر القيم من خلالها..

فالقيم وإن غابت عن المرأى، فلا لانعدام فيها، بل لفقدان القابل لها.. بل إنّ بعض هذه القيم يفقد مبرّر وجوده إذا كان ينتمي إلى حلقة الإجراء البانية للجماعات والمجموعات. ولم يتوفر لحراكها أن يكون حاضرًا. هذا، ومن المفيد هنا أن نؤكّد على ضرورة الخوض التفصيلي بالجوانب التالية:

أولًا: ما هي القيم؟ وكيف يجري بحثها اليوم؟ وما هو موقفنا منها؟

ثانيًا: إذا كان هناك إجماع على أنّ أصول المبحث الحضاري يتقوّم بعناصر الإنسان، الطبيعة، علاقة الإنسان بغيره وبالطبيعة،.. فمن أين نستخرج القيم الحضارية السامية والمتحيّزة والتبادلية؟

ثالثًا: كيف نقرأ موقع إيران والجماعات الإسلامية في هذا الحضور الحضاري العالمي.

إلا أنّ هذه المباحث تحتاج إلى تفصيل لا تسعه هذه العجالة، على أمل أن تتاح الفرص لخوص غمارها لاحقًا..

 

*[34] رئيس معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، بيروت- لبنان.

[1][35] – حسين مونس، الحضارة، عالم المعرفة، 1978، ص 12.

[2][36] – هانتنغتون، صدام الحضارات، ص 48.

[3][37] – صدام الحضارات، م.س، ص 30.

[4][38] – صدام الحضارات، م.س، ص 125.

[5][39] – م.س، ص 109.

[6][40] – م.س، ص 113.

[7][41] – م.س، ص 492.

[8][42] – م.س، ص 493.

[9][43] – دييتر سنغاس، الصدام داخل الحضارات، دار العين للنشر، ط أولى، 2008م، ص 15.

[10][44] – م.ن، ص 19.

[11][45] – الصدام داخل الحضارات، م.س، ص 21.

[12][46] – م.ن، ص 21.

[13][47] – م.ن، ص 157.

[14][48] – الصدام داخل الحضارات، م.س، صل 31.

[15][49] – م.ن، ص 50.

[16][50] – أبو حمد، الحاكمية، ص 35.

[17][51] – م.ن، ص 117.

[18][52] – روح الحداثة، ص 24.

[19][53] – أنظر، روح الحداثة الفصل الأول.

[20][54] – طه عبد الرحمن، المقاومة والحداثة، ص 20.

[21][55] – م.ن، ص 42.

[22][56] – راجع كتاب العلمانية الشاملة والجزئية، دار الشروق، الطبعة الأولى 2002، ومجلة وجهات نظر، العدد التاسع والثمانون.

[23][57] – السيد محمد باقر الصدر، المدرسة الإسلامية، دار الزهراء، عام 1973م، ص 11.

[24][58] – السيد الصدر، السنن التاريخية في القرآن، دار التعارف، ص 98.

[25][59] – السيد الصدر، بحث حول المهدي، دار التعارف 1981، ص 90.

[26][60] – الشهيد مطهري، العدل الإلهي، الدار الإسلامية، 1997م، ص 46- 47.

[27][61] – م.ن.

[28][62] – سمير خير الدين، مبدأ العدل، دار المعارف الحكمية، ص 215.

[29][63] – سورة البقرة، آية 31.

[30][64] – سورة البقرة، آية 33.

[31][65] – سورة الإنسان، آية 3.

[32][66] – سورة العنكبوت، آية 64.

[33][67] – سورة البقرة، آية 143.

Endnotes:
  1. [1]: #_ftn2
  2. [2]: #_ftn3
  3. [3]: #_ftn4
  4. [4]: #_ftn5
  5. [5]: #_ftn6
  6. [6]: #_ftn7
  7. [7]: #_ftn8
  8. [8]: #_ftn9
  9. [9]: #_ftn10
  10. [10]: #_ftn11
  11. [11]: #_ftn12
  12. [12]: #_ftn13
  13. [13]: #_ftn14
  14. [14]: #_ftn15
  15. [15]: #_ftn16
  16. [16]: #_ftn17
  17. [17]: #_ftn18
  18. [18]: #_ftn19
  19. [19]: #_ftn20
  20. [20]: #_ftn21
  21. [21]: #_ftn22
  22. [22]: #_ftn23
  23. [23]: #_ftn24
  24. [24]: #_ftn25
  25. [25]: #_ftn26
  26. [26]: #_ftn27
  27. [27]: #_ftn28
  28. [28]: #_ftn29
  29. [29]: #_ftn30
  30. [30]: #_ftn31
  31. [31]: #_ftn32
  32. [32]: #_ftn33
  33. [33]: #_ftn34
  34. *: #_ftnref1
  35. [1]: #_ftnref2
  36. [2]: #_ftnref3
  37. [3]: #_ftnref4
  38. [4]: #_ftnref5
  39. [5]: #_ftnref6
  40. [6]: #_ftnref7
  41. [7]: #_ftnref8
  42. [8]: #_ftnref9
  43. [9]: #_ftnref10
  44. [10]: #_ftnref11
  45. [11]: #_ftnref12
  46. [12]: #_ftnref13
  47. [13]: #_ftnref14
  48. [14]: #_ftnref15
  49. [15]: #_ftnref16
  50. [16]: #_ftnref17
  51. [17]: #_ftnref18
  52. [18]: #_ftnref19
  53. [19]: #_ftnref20
  54. [20]: #_ftnref21
  55. [21]: #_ftnref22
  56. [22]: #_ftnref23
  57. [23]: #_ftnref24
  58. [24]: #_ftnref25
  59. [25]: #_ftnref26
  60. [26]: #_ftnref27
  61. [27]: #_ftnref28
  62. [28]: #_ftnref29
  63. [29]: #_ftnref30
  64. [30]: #_ftnref31
  65. [31]: #_ftnref32
  66. [32]: #_ftnref33
  67. [33]: #_ftnref34

Source URL: https://maarefhekmiya.org/14065/ethicsphilosophy/