by الأستاذ علي يوسف | مارس 30, 2022 6:01 ص
الهدف من طرح هذه الإشكالية هو الإجابة على سؤال: هل تتقبّل الرؤية الإسلاميّة فكرة المواطنة بمفهومها الحديث؟
أمّا الدافع إليه فهو أنّ مفهوم المواطنة بمبانيه الفكريّة ولوازمه التشريعيّة ومقتضياته الإجرائيّة جاء في سياق تطوّرات اقتصاديّة واجتماعيّة وعلميّة وفكريّة وسياسيّة عرفها الغرب الأوروبي في العصر الحديث (ابتداءً من القرن السادس عشر)، وانتهت هيمنة الرؤية الليبرالية في الاقتصاد والديمقراطية في السياسة، والتخلي نسبيًّا عن الميتافيزيقيا، وتبني الفلسفة العقلانيّة بمعناها الحديث في النظرة إلى الوجود والحياة والإنسان والمعرفة والعلم.
وإذا كانت هذه الفلسفة قد عرفت في ذلك السياق تسميات مختلفة منها الربوبيّة والوضعيّة والعلمانيّة والماديّة، فإنّها التقت على التعاطي مع عالم الشهادة باستقلال كليّ عن عالم الغيب.
وهذا ما يتعارض جوهريًّا مع الرؤية الإسلاميّة القائمة على التوحيد بكلّ أبعاده الألوهيّة والربوبيّة، ويعطي لفكرة المواطنة بالتالي، صورة الوافد من هذا السياق وحقله الدلاليّ الخاص إلى الرؤية الإسلاميّة وحقلها الدلالي المختلف كليًّا، ويجعلها ترتبط، في وعي المسلم، بتجربته المرّة مع الغرب الأوروبيّ، التي جعلته حذرًا من كلّ ما يفد إليه من هذا الغرب من رؤى ومفاهيم وأفكار.
كما أنّه بصرف النظر عن الإشكالية ودواعي تناولها فإنّ بحثها يقتضي:
المواطنة
المواطنة، بكلّ بساطة، هي الاشتراك على قدم المساواة في حقوق وواجبات يفرضها الانتماء إلى مجتمع سياسيّ.
والمواطن هو مَن يعترف المجتمع السياسيّ بانتسابه إليه، ويكتسب بذلك، التمتّع بتلك الحقوق ويحظى بحمايتها من قبل المجتمع المعنيّ من جهة، ويتحمّل عبء الواجبات ويحاسب على التقصير في أدائها من جهة ثانية.
بهذا المعنى، تنتسب المواطنة إلى دائرة العام الذي لا يخصّ فردًا بعينه أو جماعة بعينها، وبذلك فهي تفترض وضع كلّ الخصوصيات من قبل المواطن ومن قبل المجتمع السياسي بين مزدوجين، أي خارج التأثير على التعاطي مع المواطن وحقوقه وواجباته، ما يعني انعدام التراتب في المواطنة.
كما أنّه منظورًا من زاوية التطوّر التاريخي، يلاحظ أنّ المواطنة شكّلت وصفًا جديدًا للعلاقة بين طرفي الإمرة والطاعة في المجتمع السياسيّ الذي يقوم على التساوي بين مَن يتولون موقعًا من مواقع الإمرة وبين أي مواطن من جهة، وعلى التكافؤ في الحقوق والواجبات بينهما من جهة ثانية.
هذا الوصف حلّ محل وصف “الراعي والرعية” في المجتمعات السياسيّة التقليديّة حيث كان للراعي أن يأمر فحسب وللرعية أن تطيع دون أي قيد.
مباني المواطنة
– للمواطنة مبنى فكريّ رؤيويّ يقوم على النظرة إلى الناس بوصفهم متساوين في القيمة والاعتبار لمجرد انتمائهم إلى النوع الإنساني؛ فلا الجنس ولا اللون ولا الموطن ولا النسب يعطي لأيٍّ منهم ميزة على الآخر.
– ولها مبنى تشريعيّ يقوم على اعتبار الناس في مجتمع سياسي معيّن متساوين في الحقوق والواجبات، وعلى تكافؤ الحقوق الممنوحة والواجبات المطلوبة.
– ولها مبنى إجرائيّ يقوم على تحديد جهات في المجتمع السياسي للسهر على تطبيق المساواة والتكافؤ المشار إليها، وتحديد آليّات للمطالبة بإصلاح أيّ خلل يقع في ممارسة هذه الإجراءات.
سؤال الرؤية الإسلاميّة
هذا السؤال يدور مدى تقبّل الرؤية الإسلاميّة للمباني المذكورة أعلاه.
أ. فيما يعود للمبنى الفكريّ الرؤيويّ، يلاحظ:
ب. لعودتهم إلى نفس واحدة، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً..﴾[1][1]، و﴿ َهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾[2][2].
إلى هذه الآيات وبالاتجاه نفسه يضاف الحديث الشريف: “كلّكم لآدم وآدم من تراب”، و”الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربيّ على أعجميّ ولا أبيض على أسود..”
ج. لأنّهم مزوّدون بفطرة واحدة أي باستعدادات ومؤهلات متشابهة سابقة لأي اكتساب: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾[3][3]. وهي الفطرة التي يولد جميع الناس عليها كما في الحديث الشريف: “كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه”.
د. لأنّهم جميعًا مكرّمون ومفضّلون على كثير من الخلق: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[4][4]، ومستخلفون من قبل الخالق: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً﴾[5][5].
نستنتج ممّا تقدّم، وكثير من الآيات والروايات، تؤكّد حقيقة أنّ الإسلام ينظر إلى الناس بوصفهم متساوين في الاعتبار والقيمة لمجرد انتسابهم إلى النوع الإنساني ولا تفاضل بينهم من هذه الناحية.
فالمفاضلة في هذه الرؤية تأتي ممّا يكتسبه الإنسان لنفسه بعد أن يبلغ الرشد ويصبح مكلّفًا بأداء ما عليه من حقوق اتجاه نفسه ومحيطه الاجتماعيّ والطبيعيّ، واتجاه الخالق الذي أنعم عليه بنعم لا تحصى.
وعلى أساس هذا الكسب يصنّف الناس في الإسلام تبعًا لمعايير متنوّعة في مقدّمتها معيار الإيمان وما يترتّب عليه من مقتضيات تفصيليّة في العبادات والأخلاق والمعاملات.
ومن الطبيعيّ أن تدور المعايير الأخرى لتصنيف الناس في إطار هذا المعيار الأساس.
وبملاحظة التصنيفات الواردة في القرآن الكريم، نلاحظ ما يلي:
أ. عند الكلام عن المسلمين نلاحظ أنّ في القرآن الكريم وما اتصل به من السنّة الشريفة: حق الإيمان ومَن يعبدون الله على حرف، وطورًا بين المؤمنين والفاسقين والمنافقين، وثالثةً بين المجاهدين في سبيل الله بأحوالهم وأنفسهم، والقاعدين والخالقين والمثبطين… ولكنّه لا يرتّب على هذه التصنيفات اختلافات في الحقوق والواجبات الاجتماعيّة والسياسيّة، ويترك الجزاء المقابل لهذه التصنيفات إلى الله جلّ وعلا، حيث سيحاسب كلٌّ على ما أحسن أو أساء تبعًا لما أمر الله به ونهى عنه في اليوم الآخر.
أمّا في هذه الدنيا، فلا يلقى جزاءً ماديًّا أو معنويًّا، إلا إذا أقدم على أعمال تعتبر تعدّيًا على الحدود، وإفسادًا في الأرض مع مراعاة المساواة بين الجميع في الخضوع لهذه الأحكام.
ب. من جهة ثانية هنالك التمييز بين الرجال والنساء، حيث ينصّ القرآن الكريم: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾[6][6].
وإلى ذلك ففي ميراث الذكر مثل حظ الأنثيين: ﴿ يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ﴾[7][7].
ولهذا التمييز مبررات تكوينيّة (بيوفيزيولوجيّة) ومبررات اجتماعيّة واقتصاديّة، وتتعلّق جميعها باختلاف الوظيفة البيوفيزيولوجيّة والتربويّة والاقتصاديّة لكلّ منهما، والمهم هنا، هو أنّ المسلمين المؤمنين يتقبّلون هذا التمييز، وأنّهم يظلّون متساوين في الخضوع لأحكامه.
أ. هنالك، من جهة ثالثة، التصنيف إلى أحرار وأرقاء، ونمسك عن البحث في هذا التصنيف ودوافعه التاريخيّة وما رسمه الإسلام من سبل لتجاوزه لأنّه لم يعد قائمًا.
وإن كان من الملفت في هذا المجال أنّ الإسلام جعل على الأَمة نصف على الحرّة من عقاب إذا اقترفتا الخطأ نفسه، ما يؤخذ منه أنّ المسؤولية ينبغي أن تتناسب مع درجة الوعي المكتسب من المحيط الاجتماعيّ عبر التربية، وهو إلى جانب درء الحدود بالشبهات من روائع التشريع الإسلاميّ.
ب. عند الكلام على ما يعود لغير المسلمين وعليهم في المجتمع السياسي الإسلاميّ في النص المؤسس، وفي التجربة السياسيّة يقسّم الإسلام الناس إلى ثلاث فئات رئيسيّة على الصعيد الدينيّ: المسلمين، وأهل الكتاب، وعبدة الأوثان أو المشركين.
وإذ لم يتسامح القرآن مع المشركين، فقد تسامح مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى… وبلغ هذا التسامح حدّ الاستقلال الذاتي والتشريعي والقضائي للنصارى واليهود [والصابئة وغيرهم ممّن لهم شبهة كتاب].
ويرتكز هذا التسامح وما ترتّب عليه من استقلال تشريعيّ وقضائي إلى آيات قرآنيّة تفيد أنّ التنوّع أو التعدّد مشيئة إلهيّة إذ لو شاء الله لجعل الناس أمّة واحدة، ولكنّه لم يشأ ذلك لأنّه يعطّل حريّة الإنسان واختياره، ويسقط عنه مسؤولية الاستجابة أو عدمها لما هداه سبحانه إليه، بما أعطاه من فطرة وما أنزل إليه من رسالات تهديه سواء السبيل: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾[8][8].
يعلّق مؤلّف كتاب “تعدد الأديان وأنظمة الحكم” على ذلك بقوله: وإذا تركنا جانبًا ما طرأ على الصدام اليهوديّ الإسلاميّ من مدّ وجزر وأثّر هذا التقلّب في النصّ القرآني أمكننا أن نجمل، فنقول: “إنّ مذهب القرآن في هذا المجال على قدر كافٍ من الوضوح مضمونًا وصياغة، ويفسح مجالًا واسعًا للتوازن بين حسن الوحدة وبين الاعتراف بالتعدديّة التي شاءها الله لنفسه منذ بدء الخلق..”.
وينقل المؤلّف نفسه في هامش الصفحة 211 عن كتاب للمطران تاوفيطوس إدلبي ما يلي: “لم يدر في خلد النبي صلّى الله عليه وآله قط أن يفرض شريعته على أمّة أخرى، وذلك إجلالًا منه للوحي المتقدّم النزول، وتوفيرًا لمشيئة الله الذي أراد أن تتعدد الأديان”[9][9].
ولمّا كنّا لا نريد الاستفاضة في إظهار هذه السمة من سمات القرآن الكريم، فإنّنا نكتفي بالإشارة إلى ما ورد في المقدمة التي كتبها عالم القانون د. إدمون باط للكتاب المذكور في رفضه لاقتراح المؤلّف بتبنّي العلمانية لتجاوز مسألة تعدد الأديان في الاجتماع السياسي الواحد بهدف الحفاظ على مقتضيات الرؤية الإسلاميّة فيما يعود للتعاطي مع واقع التعدد والتنوّع الديني اعتمادًا على قاعدة “لا إكراه في الدين”.
لكن، ومع ذلك، فإنّ ما يترتّب على القبول بهذه التعدّدية يؤدّي إلى تفاوت في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغيرهم داخل المجتمع السياسيّ الواحد، وهذا ما يتعارض مع فكرة المواطنة بمفهومها الحديث، إذ يتعلّق الأمر باختلاف المبنى التشريعي للمواطنة:
فتعدّد المذاهب الفقهيّة لدى المسلمين فيما يعود لأحكام الأحوال الشخصيّة والحدود وبعض المعاملات أوجد حدًّا من التنوّع وإن بسيطًا في الأحكام التي يمكن أن يخضع لها المسلمون، وكذلك تعدّد الأديان وتعدد مذاهب كلّ دين، فيما يعود لتنوّع الأحكام التي تخص الأحوال الشخصيّة والحدود وبعض المعاملات التي ترك الإسلام الحكم فيها لعلماء كل دين وكل مذهب.
هذا التنوّع الممكن في الأحكام سواء فيما يعود للمسلمين أم لأهل الكتاب داخل مجتمع سياسي إسلامي واحد في المجالات المذكورة أعلاه تؤدّي إلى تفاوت واختلاف في الحقوق والواجبات وأمام القانون، وبالتالي تشكّل عائقًا أمام احتمال تبنّي الإسلام لمفهوم المواطنة بمعناها الحديث.
ولكن ينبغي هنا أن نلاحظ:
أنّ التفاوت أو الاختلاف في الأحكام المشار إليها تدخل، كما يقول مؤلّف “تعدّد الأديان وأنظمة الحكم”، في عداد الحرميّ وتنبع منه لأنّها ترتبط بالعقيدة وبالتالي بالإيمان، حيث لا يمكن إجبار غير المؤمنين بالعقيدة على القيام بواجباتها، ولا أن يتمتّعوا بكامل الحقوق المترتبة عليها.
فلا يمكن مثلًا إجبار أهل الذمّة بالجهاد، أو بدفع أموال الخمس والزكاة، أو بتطبيق أحكام الإسلام في الزواج والطلاق والإرث، وما يحلّ وما لا يحلّ من الطعام..
كما لا يمكن إعطاءهم حق المشاركة في غنائم حرب لم يخوضوا غمارها، وما يُقال في الاختلاف بين الأديان يُقال في الاختلاف بين المذاهب داخل كلّ دين، لأنّ المذهب هو عبارة عن قراءة خاصة للدين، وبالتالي فإنّ له في نظر المؤمنين به ما للدين نفسه من حرمة وتقديس.
أنّ هذا التنوّع والاختلاف في الأحكام وثيق الصلة بحرية الاعتقاد التي لا يمكن النيل منها بأيّ من وسائل الضغط والإكراه لأنّها مسألة قلبيّة، وإذا أمكن منع ما يترتب عليها من ممارسات خارجية (عبادات، تطبيق أحكام…) فإنّه لا يمكن منع الإيمان بها وتحيّن الفرص لاستعادة حرية وممارسة ما يترتب عليها.
كذلك التنوّع والاختلاف في الأحكام وفي المجالات المذكورة لا يمنع أن يتمتّع المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وأهل الكتاب على اختلاف مذاهبهم أيضًا بالحقوق والواجبات نفسها فيما يعود للأحكام المدنيّة وأحكام الملكيّة والتجارة.. إلخ، ولا يشمل التنوّع والاختلاف إلا مجال الأحوال الشخصيّة[10][10].
إنّ ما عزّز التمييز القانوني في الأحوال الشخصيّة حثّ القرآن لكلّ طائفة دينيّة على تطبيق التعاليم التي نصّت عليها كتبها المنزلة ﴿لكلٍّ جعلنا شرعة ومنهاجًا﴾، ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ﴾[11][11] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاء﴾[12][12].
ولكن، وعلى الرغم ممّا تقدّم، ما زالت تثار مسائل تبدو معيقة أمام قبول الإسلام لمفهوم المواطنة بمعناها الحديث. من هذه المسائل ما يعود للتفاوت في الحقوق والواجبات بين المسلمين أنفسهم (أحكام الزواج والطلاق والإرث)، وما يعود للتفاوت في الحقوق والواجبات بين المسلمين وأهل الكتاب (الجزية، عدم أهليّة الكتابيّ للشهادة ضد المسلم، ولشغل الوظائف العامّة، التفاوت في قيمة الديّة للمقتول ظلمًا، تقنين بناء الكنائس).
إنّ إثارة هذه المسائل تستدعي الملاحظات التالية:
أ. أنّ أحكام الزواج والطلاق والإرث العائدة للتفاوت بين المسلمين، وحكم الجزية فيما يعود للتفاوت بين المسلمين والكتابيين هي أحكام حرميّة، وأنّ عدم أهليّة الكتابيّ للشهادة ضد مسلم ولشغل الوظائف العامّة.
وكذلك التفاوت في قيمة الديّة للمقتول ظلمًا وتقنين بناء الكنائس… هي من الأحكام التي وضعها الفقهاء استجابة لأوضاع محدّدة وخاصّة، ويمكن بالتالي تجاوزها إذا تغيّرت الظروف، وخير دليل على وضعها المتقدّم عدم ورودها في القرآن ولا في السنّة والتفاوت الكبير بين الفقهاء في شأنها.
ففي نظر أبي حنيفة، مثلًا، حياة الذمّي تساوي حياة المؤمن، ويتساوى المعتدي عليها في الديّة وفي العقوبة، وعند ابن حنبل تساويها ولكن بشرط أن يكون القتل عن عمد وإلا فالنصف.
أمّا عند مالك تساوي نصف حياة المؤمن، وعند الشافعيّ لا تساوي أكثر من الربع.
وما يُقال عن التفاوت في قيمة الديّة يُقال عن أهليّة الكتابيّ لشغل وظيفة عامّة أو للشهادة ضد مسلم ولتقنين بناء الكنائس، فالماوردي مثلًا يجيز للذمّي شغل الوظيفة العامّة حتى رتبة وزير شرط أن تكون وظيفة تنفيذيّة لا وظيفة تفويضيّة.
ويشير فرم تأكيدًا لما أورده عن الماوردي، “ويتعذر أن نجد عهدًا خلت فيه إدارة الحاضرة الإسلاميّة من الذمّيين[13][13].
وخير دليل على الدوافع السياسيّة والاجتماعيّة لهذه الأحكام، وعلى أنّ هدفها تسهيل مهمّة الاجتماع السياسيّ الإسلاميّ في تحقيق أهدافه بما فيها الحفاظ على وحدته واستقراره ما يعود إلى تقنين بناء الكنائس الذي لا ينطبق إلا على المدن التي قاوم أهلها الدعوة الإسلاميّة وتمّ فتحها عنوة.
أمّا المدن التي لم تقاوم الفتح الإسلاميّ فقد أبيح لها بناء الكنائس وترميمها دون أي قيد أو شرط.
وغنيّ عن البيان أنّ التقنين نفسه كان مدفوعًا بالدوافع نفسها، وليس له أي طابع حرميّ، وبالتالي فإنّه ممكن التجاوز.
أ. أنّ أحكام أهل الذمّة ذات الطابع الحرميّ تنقسم إلى قسمين هما:
إذا صحّ أنّ ذلك هو الهدف من قتال أهل الكتاب وإلزامهم بدفع الجزية، فإنّه يتّضح الطابع السياسيّ لهذا الحكم، وبالتالي الطابع التاريخيّ والظرفيّ له ولسببه، فإذا كان المنطق بزوال الحكم بزوال سببه فهل يبقى للحكم من حاجة.
إذا التزم الكتابيّون بالصالح العام والخير المشترك لمجموع المجتمع الذي ينتمون إليه، وأخلصوا لهذا الصالح العام، وإن تمّت قراءته والتعاطي معه على قاعدة الشريعة الإسلامية؟
نجد الإجابة الواضحة في دستور الجمهورية الإسلاميّة المبني على الإسلام وأحكامه.
ولكن إذا عدنا إلى حكم الجزية في واقعه التاريخي، وحاولنا أن ننظر إليه من زاوية العدالة فإنّنا نلاحظ:
أ. أنّ هذه الجزية، منظورًا إليها من زاوية كونها تكليفًا أو واجبًا ماليًّا، مقابل حقّ هو تأمين الحماية لهم من قبل المجتمع السياسيّ الإسلاميّ لدخولهم في ذمّته، فإنّ المسلمين في المجتمع نفسه مكلّفون بالدفاع الخارجيّ والأمن الداخليّ ودفع أموال الزكاة والخمس.
وفيما عدا ذلك فإنّ المسلمين والكتابيين يتساوون في الحقوق والواجبات المتعلّقة بممارسة الكسب ودفع الضرائب، وخير دليل على أنّ هذه الجزية تُدفع في مقابل حماية ديار الكتابيين وممتلكاتهم أنّ الخلفاء وولاة الأقاليم كانوا يردون إلى النصارى الجزية التي دفعوها حيث تعجز قوات المسلمين عن تأمين حماية ديارهم وممتلكاتهم وأنفسهم.
ب. أنّه كان يعفى من الجزية النساء والأولاد والمجانين والرهبان والعبيد، والعاطلون في خدمة الجيوش الإسلامية، ومَن لا يعمل من الرجال.
ج. أنّ قيمة الجزية كانت تتناسب بوجه عام مع الدخل وتقلّباته[15][15].
الرؤية الإسلامية والمبنى الإجرائيّ لتطبيق المساواة
رأينا أنّ الإسلام ترك الحكم في المنازعات بين أبناء كل دين أو مذهب إلى العلماء بأحكام هذا الدين أو المذهب، وهذا ما شكّل تأسيسًا أوليًّا لما بات يعرف حديثًا بالمحاكم الشرعيّة التي تفصل في النزاعات العائدة للأحوال الشخصيّة من زواج وطلاق وإرث وقوامة إلخ…
أمّا ما يعود من هذه المنازعات إلى الأمور المدنيّة من مثل الإجار والتجارة والمضاربة وسائر المنازعات الناجمة عن الحياة المشتركة في مجتمع سياسيّ، فكان القضاة المعنيون من قبل الخلفاء أو الأمراء هم مَن يتولون مهمّة الفصل فيها من علماء المسلمين.
ولمّا كان الخلفاء والولاة هم، مبدئيًّا، من هؤلاء العلماء، فقد كان كلّ منهم القاضي الأعلى: “فقد كان النبي هو القاضي الأعلى للمسلمين، وكذلك كان خليفته من بعده، وكان ولاته على البلاد يباشرون هذه السلطة بالنيابة عنه؛ ثمّ إنّ كثرة الواجبات تطلّبت الاستعانة ببعض القضاة… ولهذا السبب نفسه لم يحدّد اختصاص القاضي بالنسبة لاختصاص الوالي تحديدًا دقيقًا[16][16]“.
يجمع مؤلّف “الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري”، الكثير من الوقائع التي تصوّر تقلّبات هذه العلاقة تبعًا لقوّة أو ضعف كلّ من القاضي والوالي.. ما يشير إلى وجود إحساس بالحاجة إلى الفصل بين السلطتين التنفيذيّة والقضائيّة، ولكن لم يتح لهذا الإسلام أن يتبلور بوضوح، على الرغم من أن التجربة عرفت، قبل الانحرافات التي اعترتها، خضوع خليفة المسلمين نفسه لحكم القضاء، وحتى بعدما اعتراها من انحراف بذكر المؤلّف نفسه وقائع كان يخضع فيها أصحاب المواقع الكبيرة لحكم القضاء.
وهذا يعني أنّ الرؤية الإسلاميّة لا تساوي بين المواطنين فحسب، وإنّما بينهم وبين مَن يحتلون أعلى مواقع المسؤولية في إدارة الاجتماع السياسيّ، فإذا أضفنا إلى ذلك ديوان المظالم[17][17] كان لدينا أساسًا متينًا يمكن البناء عليه وصولًا إلى تحقيق أرقى مستويات العدالة يوصف بأنّه إسلاميّ… على الرغم ممّن عرفته بعض حقب التجربة الإسلاميّة من انحرافات عن هذه الجادة.
الخلاصة
إذا صحّ ما تقدّم، ونظرنا إلى الماضي في واقعه وظروفه، وابتعدنا عن محاسبة الماضي بمعايير الحاضر، فإنّنا نرى أنّ الإسلام يتقبّل فكرة المواطنة التي تقضي بمساواة مواطني المجتمع السياسيّ الإسلاميّ في الحقوق والواجبات المدنيّة، أي المتعلّقة بالمجتمع السياسيّ.
أمّا ما يبيحه الإسلام من تفاوت بين المواطنين فهو التفاوت العائد إلى الخصوصيّة الدينيّة، وما يترتب عليها من أحكام ذات طابع حرمي لتعلّقها بالعقيدة الدينيّة التي لا إكراه فيها.
وفي ذلك نوع من المرونة في تطبيق أحكام المواطنة سواء بالنسبة للمسلمين في عودتهم إلى قضاة مذاهبهم، أم بالنسبة للكتابيين في عودتهم إلى الأحبار والربانيين المتفقهين في أديانهم أو مذاهبهم في كلّ ما يعود إلى أحوالهم الشخصيّة الخاصّة.
ولا يخفى ما في ذلك من توسيع لدائرة الخاص (ما يخص فردًا أو جماعة بعينها) على حساب العام (ما يخص الجميع دون أي استثناء)، وبالتالي توسيع لدائرة الحرية وابتعاد عن سوق المجتمع السياسيّ لمواطنيه بعصًا واحدة حيث ينبغي (ما يشترك فيه الجميع بصرف النظر عن الخصوصيّات)، وحيث لا ينبغي (الخصوصيّات الناجمة عن الإيمان بعقيدة دينيّة لها أحكام ذات طابع حرمي ولا يمكن الإكراه فيها).
هذا ما يجعل المواطنة، في الرؤية الإسلاميّة منفتحة على التعدّديّة وعلى التعارف في ظل احترام الخصوصيّات.
الأمر الذي بات مطروحًا من قبل المتهمين بالفكر السياسيّ في تطلّعاته الإنسانيّة، ويلقى معالجات شتى تلتقي على ضرورة احترام بعض الخصوصيّات والتنوّعات بما لا يسيء إلى وحدة المجتمع السياسيّ ويمنع من تفتته.
لهذا نرى أنّ التنوّع الذي يبيحه الإسلام للتعاطي مع المواطنين بالحدود المتقدّمة الذكر هو نعمة وليس نقمة كما يرى البعض.
كما أنّ اعتماد المباني الفكرية والتشريعيّة والإجرائيّة للمواطنة كمفاصل لسؤال الرؤية الإسلاميّة حولها، واستلهام رؤية القرب وتجربته في تحديد هذه المباني لم تكن بهدف تأصيل فكرة المواطنة في الرؤية الإسلاميّة، وإنّما بهدف استشراف ما يقابل هذه المباني، الذي جعلنا نكتشف أنّ تلك الرؤية تقبل فكرة المواطنة ومبانيها ولكن بشروطها الإيمانيّة التي تختصرها عقيدة التوحيد، وما يترتّب عليها من نظرة خاصّة للإنسان، وللمجتمع السياسيّ، وللحقوق والواجبات ولعوامل المساواة والتفاوت بين الناس في هذا المجتمع.
[1][18] – سورة النساء، الآية 1.
[2][19] – سورة الأنعام، الآية 98.
[3][20] – سورة الروم، الآية 30.
[4][21] – سورة الإسراء، الآية 70.
[5][22] – سورة البقرة، الآية 30.
[6][23] – سورة النساء، الآية 34.
[7][24] – سورة النساء، الآية 11.
[8][25] – سورة المائدة، الآية 48.
[9][26] – جورج قرم، تعدد الأديان وأنظمة الحكم، (بيروت: دار النهار للطباعة والنشر)، الصفحة 211.
[10][27] – تعدد الديان وأنظمة الحكم، مصدر سابق، الصفحة 247.
[11][28] – سورة المائدة، الآية 47.
[12][29] – سورة المائدة، الآية 44.
[13][30] – تعدّد الأديان وأنظمة الحكم، مصدر سابق، الصفحة 254.
[14][31] – السيد محمّد حسين الطبطبائي، الميزان في تفسير الميزان، (بيروت- لبنان: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1997)، الجزء 9، الصفحة 250.
المقصود الآية 29 من سورة التوبة: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
[15][32] – راجع، تعدّد الأديان وأنظمة الحكم، مصدر سابق، الصفحة 251.
[16][33] – آدم ميز، الحضارة الإسلاميّة في القرن الرابع الهجري، ترجمة: عبد الهادي أبو ريدة، (بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة 4، 1967)، الجزء 1، الصفحة 396.
[17][34] – ديوان المظالم أشبه بمحاكم الاستئناف أو التمييز، وكان قاضي القضاة، وأحيانًا الخليفة أو الوالي هو مَن يجلس للحكم في المظالم. راجع، الحضارة الإسلاميّة، مصدر سابق، الصفحة 427 وما يليها.
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/14570/citizenship-2/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.