المثقّف والهروب من الالتزام في رواية “سمرقند” لأمين معلوف
تشكّل شخصيّة عمر الخيّام في رواية “سمرقند” أنموذجًا تجتمع فيه صفات المثقّف الذي نجده في كلّ روايات أمين معلوف، المثقّف الذي يحمل الخصال المضادّة للبطولة. يطلق عليه الناقد جورج لوكاتش اسم البطل المتوسط le heros moyen الذي يهرب من الالتزام، يرى الأزمة ويرفض أن يخوض فيها أي معركة، ويواسي نفسه بالقول، حين تسوء الأمور، “على الأقّل لم أكن مخدوعًا أو شريكًا”، كما يفعل بطل رواية “القرن الأول بعد بياتريس”. ويرتبط موقفه هذا بالاعتقاد الراسخ بنسبيّة كل الحقائق، أما المواقف، فهي نتاج بشريّ قابل للتغيير وللنقض.
يذهب عمر الخيّام في ابتعاده عن الالتزام إلى رفض الإنجاب، على حبّه للأطفال فهو يقول إن لا شيء أجمل من ابتسامة طفل، ولكنه يرى الحياة عبئًا ثقيلًا يجب ألّا يورثه لذرية. “يا لسعد من لم يأتِ إلى هذه الدنيا”، فيشكل هذا الرفض لمبدأ التوالد الاستقالة المطلقة من الحياة. في حين أنّه، على المستوى الشخصيّ، اختار أن يعيش حياة مرفّهة، مجتنبًا فيها كل ما يمكن أن يؤثّر على راحته الفكريّة والجسديّة والتمتع بالملذّات على اختلافها. حتى أنّ موت مرافقه وارتان لا ينجح في خرق الدرع الذي تحصّن خلفه من المآسي التي يمكن أن تصيب حياة المرء الشخصيّة أو العامة يجتاز الحياة بخطوات هادئة، مانحًا اهتمامه للكواكب ولكتابة الشعر ولكتبه وللملذّات اليوميّة البسيطة. يلوم زوجته جيهان لطموحها، ويؤّكد لها: “حياة واحدة، أو ثلاث، أو أربع، سوف أعبرها، كما أعبر هذه الحياة، مستلقيًا على هذه الشرفة، ويدي تداعب شعرك”.
يختار مثقف أمين معلوف دائمًا المنفى، الرحيل بعيدًا عن المصاعب، عن تعقيدات العلاقات، عن السياسة والحروب، عن كل ما يمكن أن يعكر صفو حياة يمضيها بين الكتب والتأمّل. حتى الحبيبة قد تصبح عبئًا في حياة المثقّف الذي يسعى جاهدًا للابتعاد عن الحشود، وعن الحياة العامة، وربما الخاصة، فيكتب خيّام في رباعياته: “قرب حبيبتك، خيّام، كم كنت وحيدًا! الآن بعد أن رحلت، يمكنك أن تلجأ إليها”. يحاول أن يقنع جيهان بالرحيل معه بعيدًا عن مؤامرات البلاط، يقول لها: “بالنسبة لنا، لن يكون العالم من حولنا موجودًا. سنجتازه من دون أن نراه، من دون أن نسمعه، لن تعلق أوحاله ولا دماؤه على نعالنا”. وسينفذ حلمه هذا من دون جيهان التي اختارت أن تبقى فلقيت حتفها من جراء انخراطها في مؤامرات ومخططات أهل البلاط. “تتناقل الكتب أسطورة عن ثلاثة أصدقاء فرس تركوا بصماتهم، كل على طريقته، على بدايات هذه الألفيّة: عمر الخيّام الذي راقب العالم، نظام الملك الذي حكمه، وحسن الصباح الذي زرع فيه الرعب”. ولعل المصير المظلم للشخصيّات الأخرى في الرواية يشكل إثباتًا لوجهة نظر عمر الخيام الذي قرر الابتعاد عن التزام أي جبهة في الحروب السياسية أو العسكرية التي أراد الآخرون خوضها.
يرحل عمر الخيام مختارًا المنفى تلو الآخر، حتى الرحيل الأخير الذي سيوصله إلى مسقط رأسه نيشابور، حيث سينتظر الموت. هكذا تتم حياة المثقّف بشكل دائري، إذ ينطلق من موقع هادئ، فيواجه عواصف العالم، ثم يعود إلى مربع البداية الذي يكون إما بلده الأم، وإما بلدًا اختاره ليمضي فيه أيامه الأخيرة في هدوء ولا مبالاة. هذا ما يحصل أيضًا لبانجامين لوساج الذي يعود إلى أنابوليس، مسقط رأسه، حيث يعيش في عزلة، غارقًا في ذكرياته، مهددًا بالجنون بعد أن فقد ما كان يشكل الهدف الأول لحياته: مخطوطة الرباعيات. فيحيى على أمل أن ينتشلها أحد ما من أعماق المحيط. هكذا تصبح الثقافة والكتب منفى آخر يبعد المثقف عن مجريات التاريخ. فالمثقف هو كالجندي الذي يأبى إلّا أن يفرّ من أرض المعارك. علاقته مع رجال السلطة هي علاقة خشية واحتقار في الوقت نفسه، يتمتع بكرمهم ويتهرب عند أول طلب منهم. إذا وجد نفسه متورطًا في معركة ما، كما حدث مع بانجمين لوساج في الأحداث التي وقعت في إيران، يعود فيراجع موقفه، ويقطع علاقاته برفقاء النضال، ويشعر بالندم لانخراطه في معركة ليست معركته، ليس لأنه من بلد آخر، بل لأن موطن مثقّف أمين معلوف مختلف عن بقية الأوطان؛ هو عزلة مختارة بين الكتب والأفكار التي تبشّر بعالم أفضل، عالم لا يحتاج إلى انخراط المثقّفين في النضال العملي لتحقيق بنائه.
هذا العالم هو العالم الواحد الذي يبشّر به أمين معلوف الذي صرّح في مقابلة في العام1996 “إن الانتماء الأساسيّ هو انتماء لعالم اليوم. انتمائي الحقيقي هو المغامرة الإنسانيّة”. بعدها أصدر كتابًا حمل عنوان “الهويات القاتلة” توسع فيه في شرح رؤيته للعولمة وكيفية تطويعها بحيث لا تكون تعبيرًا عن تسلط الثقافة الأميركية على الثقافات الأخرى. في هذا الكتاب يبدو لنا أن أمين معلوف يستبدل مفهوم العولمة بأبعادها السياسية – الاقتصاديّة المدروسة من قبل المستفيدين بفكرة شاعريّة عن عالم لا حدود فيه بين بلد وآخر، يفتح آفاقه للجميع: “من يمتلك العالم؟ ليس عنصرًا واحدًا، ولا أمة واحدة”. إن نحن وافقنا على هذا القول، هل ترضى “الأمة الواحدة” المعنيّة بالقول بهذا؟ (نكتة جحا وابنه وبنت الملك).
ولكن يبدو جليًّا إلى المتأمل في البناء الفكري الذي بنى عليه معلوف نظريته أن هناك خللًا أساسيًّا. إن كان معلوف، ومن خلفه الشخصيات الرئيسيّة في رواياته، يعلن انتماءه للعالم الواحد، ومن ثم، في كتاب origines أو “أصول” يؤكد انتماءه لعائلته، يقول في المقدمة: “أجد هويتي في مغامرة عائلتي الكبيرة، تحت كل السماوات”. فتبقى الحلقة الناقصة بين الانتماء للعائلة ومن ثم للعالم هي الانتماء للوطن. في روايته الأخيرة “التائهون” يرسم معلوف مسار خمسة أصدقاء فرقتهم الحرب الأهلية، فهاجر ثلاثة منهم إلى بلدان مختلفة وبقي اثنان، انخرظ واحد منهما في الحرب فيصوره معلوف بصورة المتديّن المتزمت غير القابل للحوار، أما الثاني فقد دخل في لعبة الفساد وتخلى عن المبادئ التي آمن بها في شبابه، كأنه بذلك يعلن أن الخلاص يكمن في الهروب لا في البقاء والانخراط في العمل على بناء المجتمع الذي يحمل القيم الإنسانيّة الكبرى التي يؤمن بها المثقّف. قد يبدو رفض الالتزام من قبل المثقّف أمرًا صائبًا في البلاد التي وصلت إلى نوع من الاستقرار الأمني والسياسيّ فلم يعد المجتمع مهدّدًا في وجوده، كما هو الحال عندنا حيث يحتاج البناء، بعد الهدم الممنهج إلى رجال فكر وعمل يسخرون طاقاتهم في سبيل إبعاد مفاعيل الشر المطلق. “العلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضر”. تجدر الإشارة في الختام أنني، في دراستي هذه، تناولت عمر الخيّام بصفته شخصيّة من شخصيّات أمين معلوف أسبغ عليها الكاتب خصائل المثقّف الهارب من الالتزام، وليس بصفته شخصيّة تاريخيّة حقيقيّة.
المقالات المرتبطة
قراءة في كتاب قبساتٌ في المعرفة الحسينية دروسٌ في معرفة الإمام
أولًا: الكتاب في سطور. اسم الكتاب: قبساتٌ في المعرفة الحسينية، دروسٌ في معرفة الإمام. الكاتب: الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي.
مطالعة في كتاب الجمهورية، الأديان، الرجاء.
يؤمن ساركوزي بعلمانية إيجابية لا تعادي الأديان، بل تؤمّن لها إمكان الوجود وعيش إيمانها، والفصل بين الكنيسة والدولة شرط ضروري وحاسم من أجل السلام الديني.
“مدى الإسهام الشيعي اللبناني في التقريب بين المسلمين”
لقد بَدَوْا مُتأنِّقِين ومُتألِّقِين في فهمِ الخلافِ بينَ المذاهبِ الإسلاميةِ، ولم يكنْ طرحُ هذه المسألةِ بمنأىً عن المعاييرِ العلميةِ التي أنتجَها الفكرُ الحديثُ والمعاصرُ.