الإسلام والحداثة عند إدريس هاني قراءة نـقـديـــة

الإسلام والحداثة عند إدريس هاني قراءة نـقـديـــة

يعرف الفكر الإسلامي معضلة بنيوية راجعة إلى التخبط المنهجي، الذي يعرفه المشهد، وعلى هذا الأساس تصدى العديد من المفكّرين والباحثين للسؤال المنهجي للبت بخصوصه، والخلوص إلى مسيرة شبه موحدة للجواب على مجموعة من الأسئلة المعرفية التي تثقل كاهل العقل الإسلامي، ولعل المعضلة متلمسة أكثر في الشأن الديني، لذلك نجد الكثير من المتألهين أو المتكلمين وحتى المؤسسات المتخصصة يخصصون حيّزًا جد هام لهذا الموضوع.

برز فيهم الكثير كالمفكّر علم المتكلمين الشهيد السعيد محمد باقر الصدر، والمفكر العتيد يحيى محمد، والمتألّه أحد فرامرز قراملكي، والعلّامة شفيق جراده، والعلّامة علي أكبر رشاد، والمفكّر الديني الواعد إدريس هاني الذين صاغوا كل بطريقته منهجية معينة لاستقراء الشأن الديني بوصفه تجلّيًا إلهيًّا، وتشكّلًا بشريًّا.

وحتى يتم احتواء الموضوع المتعلق بثنائية الدين والحداثة وقع اختيارنا على مجهود المفكّر الإسلامي إدريس هاني، ليس لأنه مشروع فتي وحيوي لا زال في تكامل مستمر، بل لأنه أيضًا مشروع تشاركي يستثير رغبات المشاريع المشابهة للدخول معه في حوار عقلائي ومعرفي بلحاظ الإغناء وإن كان بتوسط نقد. هذا من جهة.

أما من جهة ثانية، فلأن الإشكالية المعرفية التي أثارها المفكّر إدريس هاني تجد تجلياتها في المشهد الثقافي الديني المغربي، مما يجعل منها ورشة عمل أكثر من مشروع فكري بارد وهادئ يدغدغ فضول المثقفين.

وحتى يستقيم البحث يكون من المناسب عرض منظور المفكّر إدريس هاني (العنوان الأول) قبل أن ننتقل إلى مساءلته معرفيًّا (العنوان الثاني)، تاركين الخلاصة مرهونة بخاتمة البحث.

العنوان الأول: الدين والحداثة عند إدريس هاني

المفكّر الإسلامي العتيد إدريس هاني، والذي أثبت نفسه على مستوى العالم الإسلامي، مفكّر محايث لواقعه الثقافي، يعايش أزماته عن قرب دون أن يتصدى لهمه المعرفي من برج عاجي أراده أساسًا للمحاكمة والتصويب.

بل إن ما يمنحه من أبحاث يشكّل معاناة يومية تقض مضجع المثقف الديني المغربي، حيث هناك الغلبة للخطاب العلماني بتشخصاته المملة المكرورة، وتكسراته المنهجية المتخبطة والمرهونة بالصرخات المعرفية في الغرب. فمشروع الأستاذ هاني جرح مفتوح لم يندمل بعد ولن يفعل، على الأقل في المستقبل القريب.

وبهذه الأزمة الكبرى التي يعيشها في ذاته طفق يتصدى لإحدى المواضيع الأكثر أهمية على المستوى المعرفي وهي ثنائية الإسلام والحداثة، حيث انطلق من معتقد أصلي اعتمده منذ البداية واستعد للتدليل عليه ألا وهو معتقد التلاقي.

ففي ورقة مقدّمة ضمن ندوة تحت عنوان: “الحداثة والسؤال الديني في ضوء مشروع التبني الحضاري والتجديد الجذري”، نجده يؤصل لمنهج معرفي مقاربي جديد على أساس التدليل على التلاقي الحداثي الإسلامي.

لقد أسس هاني منهجيته المعرفية لقراءة الشأن الديني على أساس لازمة أساسية وهي تحرير العقل “تحرير العقل العربي والإسلامي من آثار جروحه الغائرة ونفض غبار الهزيمة والاحتياط وخيبات الأمل التي تجعله عقلًا مرشحًا لتبني كل أشكال الاختزال الفكري والتنظيري”[1]. فأزمة العقل العربي الإسلامي ذات جنبتين:

الجنبة الأولى: سيكولوجية متجلية في الانجراحات والتعبيرات التعويضية والهذيانية، مؤسسة على أساس صدمة الحداثة والهزائم السياسية والعسكرية والتنموية.

 والجنبة الثانية: معرفية متشكّلة في المأزق البراديغمي، الذي يعيشه العقل والمتأثر حتمًا بالجنبة السابقة مما يدفعه إلى الهامشية والانفعالية الوجودية ذات التعاقلية السلبية خالصًا إلى مقتضى محوري هو أن “ليس له (أي العقل العربي الإسلامي) منها اليوم إلا الاستعـارة (يعني من عقل الحداثة)، بل وأسوأ أشكالها، استعارة خردتها المستعملة. يحدث هذا في السلع والخدمات والقيم والأفكار والتصورات. فالعقل العربي والإسلامي المعاصر إذن، هو في نهاية المطاف ليس له من هذه الحداثة، سوى سقط المتاع”[2].

نفس الملاحظة تجلّت تعيينًا بمناسبة مقالة أخرى مطولة تحت عنوان: “التبنّي الحضاري والتجديد الجذري – نحو مشروع رؤية جديدة للفكر الإسلامي المعاصر”، والتي نشرت بدورها في الكتاب المشار إليه في الهامش، حيث تم التركيز على موطن التمأزق، الذي يعرفه العقل العربي الإسلامي المعاصر، ذلك أنه “بدل أن ننشغل بسؤال الحداثة  وآليات تحصيلها، انشغلنا بسؤال كيف نبرهن على جاهليتها جملة وتفصيلًا”[3]، مستشهدًا بكتابات محمد قطب بوصفه أجلى وجه لتيار إصلاحي ديني على رأسه سيد قطب، وأبي الأعلى المودودي، وأبي الحسن الندوي، ووحيد الدين خان.

بمعنى أن مأزق العقل العربي الإسلامي متجلي في الإقصاء لكل ما هو ليس بفكر نتاج تربة إسلامية بالمعنى المتبنى. وهو توجه يشكل ثمرة صدمة الحداثة داخل العالم الإسلامي بالإضافة إلى الانتكاسات السياسية، كما سبق ونوّه إلى ذلك في مقاله السابق.

وعلى أثر تشخيصه لموطن الأزمة طفق الباحث بوضع آلية منهجية تضمن الوجود القوي للإسلام داخل الحداثة دونما إحساس بنقيصة أو هامشية فعل وتنظير ملحوظة.

فوضع أساسين لهذه المنهجية تتجلى في التبني الحضاري والتجديد الجذري، فماذا يقصد بهذين الأساسين؟

التبني الحضاري: هو مشروع يتعدّى السؤال: كيف يكون المسلم مسلمًا وكفى، في كل الظروف والشروط الممكنة. فهذا خلاص فردي وأخروي. ليصل إلى السؤال: كيف نجعل مسلمًا نموذجيًّا متقدمًا ناميًا سيد دورته الحضارية، في ظروف معينة وشروط محددة، فهذا خلاص جماعي دنيوي وأخروي، برسم معذرية أمة وكائن مستخلف. بخلاف المعذرية الفردية الغالبة على التصور السابق.

وهو عين ما يصطلح عليه في القاموس الديني بالتمكين في الأرض.

التجديد الجذري: مقتضاه إعادة تفكيك الأنساق التاريخية إلى مستوى التعاليم، أن نعيد الظاهرة إلى مستواها غير المنظوم، فهو تحرير للتعاليم من كل أشكال الفهم المتركزة على نمط معرفي، لعله لم يعد له حضور فاعل في زماننا.

مما يفيد أن هذا الأساس هو بحث عن إيجاد مقاربة معيارية للتعاليم بعيدًا عن تشكّلاتها التاريخية والسياسية، حتى يتسنّى تحقيق التفاعل المبحوث عنه مع الواقع.

وعليه، فإنه وبعد تحرير العقل العربي بجعله يهتم “بالبحث عن مخارج الأزمة ومداخل الحل، ولا يلهي نفسه بالبحث عن مداخل الأزمة التاريخية”[4]، يتسنى التعامل بإيجابية مع الحداثة بوصف هذه الأخيرة مجرد صيرورة اجتماعية تاريخية لا أقل ولا أكثر، وأنها موجود حيوي بالقوة والفعل في ثقافة ما، وموجود بالقوة داخل الثقافة الإسلامية لكنه مغيب بالفعل.

وللبحث عن مكنة التلاقي اضطر المفكّر الإسلامي إلى اعتماد مفهومين أعمل عليهما منهج التبني الحضاري والتجديد الجذري وهما: “مفهوم التكييفانية الخلّاقة”، و “مفهوم الثابت المتحول”.

منطلقًا من بديهة وهي أن الدين “يدّعي أنه يوفر خلاصًا فرديًّا وجماعيًّا وسعادة روحية ومادية في الآن وفي المال. فهو إذ يفعل ذلك، يرى أن تعاليمه لا تخاطب متلقيًا يعيش فراغًا ثقافيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا. إذ المتلقي قبل إنشاء الخطاب يتمتع بقدر من الماء. فهو ليس كائنًا عاريًا منتزعًا من مجاله أو تاريخه. الدين لم يشأ إلا أن يخاطبه بلغته وبرموزه التي تعكس ثقافته وخبرته ومرآة عقله وفكره ومنعكس معاشه وتقلباته ومطارح وجوده. وإذن، فالإنسان، هذا المتلقي، مشارك برسم التاريخ والاجتماع في صياغة المعنى “وما دام أن الحداثة” ما هي إلا نتيجة صراع جماعي وتراكم وصيرورة وفعل. مما يجعل تعامل المكلف مع الدين تعاملًا مرهونًا بالزمان والمكان، ومن هنا مدخلية صلاحية الإسلام، بل وحيويته في الجواب على بعض الإشكالات التي تعرفها الحداثة، ولهذا نجد الأستاذ هاني اعتبر الدين على العموم والإسلام على الخصوص هو الحل الوحيد للجواب على سؤال المعنى الذي تتخبط فيه الحداثة، بل حتى إن هذه الأخيرة يكون من اللازم عليها أن تستدمج داخل الدين الإسلامي ما دام الدين نفسه “يمثل انقلابًا دينيًّا في صيرورة الأديان السماوية، بل إنه الصورة التاريخية الأكثر وضوحًا للاهوت التحرر والتحرير التي شهدها تاريخ الأديان، من هنا إذ لا نرى أي إشكال في علاقة الإسلام بالحداثة”[5].

فالإمكان الحداثي متيسر مع الإمكان الإسلامي وفق هذا الأساس التأسيسي، هذه كانت صورة مصغرة عن مجمل نظرية المفكر الإسلامي إدريس هاني بخصوص موضوعة الإسلام والحداثة.

أما الآن فننتقل إلى طرح الآلية المفاهيمية والمدماك المنهاجي لتحقيق الإمكان الحداثي والإمكان الإسلامي.

في الحقيقة، إن المفكر الإسلامي إدريس هاني حاول أن يؤسس لتأويل جديد يمكن من استقراء النص من داخله بلحاظ التكاملية، وهي عملية استقرائية إلى جانب أنها جيدة، نجد بأنها ممتعة “أعني بتحرير النص، الإنصات للنص خارج تلك الأطر المذكورة. بمعنى أوضح، أن نقرأه ضمن رؤية مفهومية جديدة لهذه الأطر، تمكن المتلقي من أواليات الاستنطاق”[6].

فالتأويل، الذي يذب عنه الأستاذ هاني متحدّد في تلك “علاقة تكوينية بين العقل والنص، تجعل ما يجري داخل النص مثالًا لما يجري داخل العقل. أو بتعبير أوضح، إن الآلية التي يتم بها إنتاج المعنى، هي نفسها الآلية التي يتم بها فعل التعقل. بهذا المعنى إذا حررنا النص من هذه الأطر، فالعقل سيتحرر بالتبع. وهذا التحرر، الذي أتحدث عنه لا يتحقق إلا في إطار المنظور التأويلي”[7]، هذا المنظور الذي يتركّز على مقدمة جد هامة وهي أن التشاكل قائم بين بنية اللغة، وبين بنية العقل، “فنحن حينما ننتقل، نخضع إلى حد ما إلى إكراهات السياق ولعبة الاستبدال والإكمال والإشارة والاختزال و…”[8].

وداخل الجسم القرآني نجد ثمة تعاليم تنطوي على معاني ودلالات، عصية يستلزم على العقل أن يسمو إلى مستواها حتى تتسنى “قابلية التخاطب مع النص، أي أن يكون في قامة لعبة الحضور والغياب لطيف المعنى”[9]، فالتأويل عند مفكرنا هي عملية تحري كبيرة تتبع آثار المعنى الهارب، ولا تلقي بالًا للخداعات المتكررة، بل تعكف على البحث في المتدثر بين تلافيف الخطاب. فـ “النص على هذا الأساس يظهر بقدر ما يخفي، إنها لعبته الأزلية، وعلى المتلقي حينها أن يواكب اللعبة على طول الخط. النص لا ينطوي على معنى واحد، وأظن أن هذه حقيقة معروفة في تراثنا أيضًا، وإن ظلت حقيقة مغيبة. والآن أصبح تعدد المعنى أمرًا واضحًا بشكل كبير مع الثورة السيميوتيكية والهرمنيوتيكية. اليوم نحن مكرهون على الاعتراف بهذه الحقيقة”[10]، وهو خروج من المأزق الأرسطي، الذي وقع فيه أتباع الظهور الوحيد والمعنى الفريد واستبداد الفهم الرسمي.

فالنص عند هاني “حمّال وجوه”. وهي وجوه متكاثرة. نحن نتحدث عن سبعة وجوه وقراءات مشروعة للنص، كما تحدث بعض القدامى. والسبعة في لسان العرب كما تفيد معنى العدد، فهي تفيد مطلق الكثرة أيضًا. إن النص القرآني ينطوي على مخزون من المعنى لا نهائي. وكل نص هو كذلك لأن تلك هي بنيته. “فالاختلاف قائم في المضمون، الذي يحبل به المعنى، الذي يحضر وغياب بحسب السياق اللغوي الموضوعي”، والعقل المتحرر المتماهي مع هذه البنية النصية أو مع هذه اللعبة النصية، هو الذي يستطيع أن يكسب لياقة تأويلية تجعل النص يتحرك مع حركة الواقع، مما يؤدي إلى اضمحلال الإثنينية القائمة بين النص والعقل.

بمعنى آخر العملية التأويلية تتجلى في المسك بالمعاني الغائبة والمتفلتة بإعمال لحاظ القراءة المتكوثرة للنص في إطار حركته مع الواقع، وهذا عين تحقق الإمكان الحداثي مع الإمكان الإسلامي، فهو كدّ معرفي صرف يجعل من التزامنية هي محور التحرك التأويلي.

فـ “النزولات التأويلية هي مصداق لهذا الدوران، ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾[11]؛ لأن القرآن نفسه مصداق لعموم الخلق. فالمورد الأول يعيد نفسه، لكن بشكل هرمينوتيكي، أي عودة المثال. فالشيء بذاته لا يعاد، لاستحالة إعادة المعدوم كما يقول ابن سينا وعموم الفلاسفة، لكن العودة هنا هي عودة المثال. فالمحدود لا يمكن أن تستمر حركته إلا إذا كانت دائرية”[12]. وعليه فإن استنطاق النص القرآني دائم لم يستكمل كل ظهوراته، فالأزمة أزمة قراءة.

فالمنظور التأويلي الذي يتبناه المفكّر هاني قائم على أساس الكمون النصي من أجل إجراء استنطاق محايث للواقع، وطبعًا هكذا قراءة لا يمكن أن تتحقق إلا وفق منهجه المتجلي في التجديد الجذري والتبني الحضاري. كما أن عملية التأويل هي “آلية التوليد المزدوج”؛ إذ إنها لا تكتفي بإنتاج المعنى وتحريك النص، بل إنها تعمل على حمايته من الانزياح. 

كان هذا توصيف لفكرة المفكّر هاني بخصوص الإسلام والحداثة مع إشارة إلى المنهج التأويلي الذي يرتضيه، وإن بشكل مجمل.

والآن بعد أن أنهينا التوصيف المجمل لنظرية المفكّر الإسلامي إدريس هاني ننتقل إلى إجراء قراءة نقدية هادفة لإجراء تكامل للنظرية.

العنوان الثاني: المنظور الهانائي على المحك

الحداثة عند المفكّر هاني هي مجرد “صيرورة اجتماعية تاريخية لا أقل ولا أكثر”، وهي بهذا المصداق سهلة الاستدماج مع الإمكان الإسلامي. طبعًا تعريف كهذا للحداثة لا يمكن بتاتًا أن يشكل شبهة إشكالية بين إثنينية الإسلام والحداثة. فهل حقًّا التوصيف الهانائي توصيف سليم للحداثة؟ أم أن الأمر أوسع من ذلك؟

الحقيقة تقال: إن مفهوم الحداثة وتشخيصها من أصعب الأمور على الإطلاق، لأنها شكّلت ومنذ قرون قليلة ثمرة وجهات نظر شخصية، فهناك من يرى في الحداثة المعيش المتسارع بطبيعته، وهناك من يرى فيها استدماج لثالوث الاقتصاد والإدارة والسياسة (ماكس فيبر) المتمفصلة في البعد العقلاني، وهناك من يرى في الحداثة سمات مركزية متجلية في الذاتية، والعقلانية، وغياب الغايات (هايدغر)، لذلك يخلص هذا الفيلسوف إلى غياب المعاني الكبرى والمقولات والقيم الكبرى.

فالطرح الهانائي للحداثة يظل سليمًا وفق التوصيف الشخصي، لكنه يفقد هذه الناجعية إذا ما قرأناها بلحاظ المنظورات العالمية المتكثرة. فالرؤية المتبناة عند مفكرنا لا تكاد تثير إشكالية معرفية تذكر، بل إنها بطبعها ملتصقة مع الدين الإسلامي، الذي يعرف حراكًا خارجيًّا وداخليًّا، فالصيرورة ماهوية داخل أي فكر مرتهن بالواقع وضابط له. 

إن أس المشكلة التي نبحث عنها مع مفكّرنا هو المسك بتعريف معياري للحداثة وغض الطرف عن تشخصاتها، وهي لعمرنا مسألة جد صعبة نظرًا للتوليدات الكثيرة للمفهوم وللجهاز المعرفي الحابلة به كلمة “الحداثة”. ربما يكون الأسلم إعادة تجديد النظر في الجسم الديني برمته من أجل تحقيق التمكين في الأرض – الجسم الديني المتحدث عنه هو التجليات المعرفية المتعلقة به وقوعيًّا – فالمخاض علمي والهدف الاشتغال على الذات الإسلامية وتخليصها من العوائق الذهنية التي تجعلها تراوح مكانها، وبهكذا عمل يتحقق الدخول الحضاري المرغوب فيه، والمفكّر الإسلامي إدريس هاني انتبه إلى هذا المطلب عندما صاغ منهجية جديدة أراد لها من التسميات “التبني الحضاري والتجديد الجذري”، فبهكذا منهجية يتحقق المنظور الهانائي في نظرنا دونما الدخول في مأزق إبستيمي بخصوص مفهوم الحداثة والتي هي مفهوم حربائي يعسر القبض على معناه الحدي، هذا بغض النظر على أنه قد يجرنا إلى سوء فهم عسير على التجاوز عند العقول المتبنية للحداثة المتشخصة أكثر من اللازم، والتي قد تنظر إلى الموضوع بمنظار المركز الذي تشغله فإن كانت حداثوية اعتبرت المشروع ضميمة لتصورها، وإن كانت متنكرة للحداثة اعتبرته فسقًا وخروجًا عن الطريق الشرعي السليم.

هذا فيما يخص انهيار الإثنينية بالقوة – طبعًا إذا ارتضينا المقاربة الهانائية للحداثة ونحن نقبلها بوصفها إكراهًا واقعيًّا غير مرتفع – قبل أن تنهار بالفعل وفق عملية التحليل الهامة جدًّا والممتعة في نفس الآن التي قام بها المفكر الإسلامي إدريس هاني.

أما فيما يخص عملية التأويل وآلية التوليد المزدوج، فهو مجهود عصري لاستقراء النصوص التراثية التي تصب في نفس الخانة وهي عملية مهمة في حد ذاتها، لأنها تعيد الحياة للفكر الإسلامي بصيغة جديدة.

ذلك أن مبدأ الجري الثابتة للقرآن الكريم والمؤكدة في المأثورات المعتبرة، متجلية في الظهورات المتكثرة للمعنى الدفين للقرآن الكريم، مع الحفاظ في نفس الآن على الظهور الأولي وجعله ذي مصداق. بمعنى آخر أن الظهورات المتكثرة هي تجلّيات عمودية للنص وليست أفقية، بحيث تسمح بالحفاظ على مكانة النص وظهوره الأولي، فهو إثراء وتكوثر أكثر منه إقصاء وتفريد للمعنى. وهذا عين القول بآلية التوليد المزدوج بما هي آلية كاشفة للمعنى وحامية للنص من تخبطات الإقصاء.

الميزة الأساسية لتأويلية المفكّر إدريس هاني تتجلى في تناصصيتها وعدم خروجها عن النسيج الخطابي للنص موضوع الاستنطاق، فهو مجهود منطقي قابع داخل العقل الأصولي بما هو عقل متمسك بظهوريات النص المتكثرة إن قراءة أو استقراءً أو استنطاقًا، لكن هذا الانطباع سريعًا ما يهتز جزئيًّا أمام تطبيق عام أراده الباحث.

فبمناسبة إجرائه قراءة تأويلية للآية الكريمة ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ[13]، نجده قفز على المقدّمات التي سبق وأن تركّز حولها، ليرتئي اعتماد المقترب الأنثربولوجي لقراءة أزمة العار الأنثوي كما هي متجلية في ذهان الرجل الذكوري والتي يظل فيها المرء العربي ليس بدعًا فيها. فالمأزق، الذي فتحه المفكّر إدريس هاني علينا في هذه الورقة ليس في تهاتر المنهجين، بل في ازدواجيتهما؛ لأن المقترب الأنثربولوجي على أهميته ليس تناصصيًّا بالمرة، بل هو تنقيب خارجنصي عن المعنى، ربما نستفيد منه في اكتشاف الملاك لكنه أبدًا لا يمكنه أن يغدو استبطانًا للنص أو استنطاقًا له.

حيث إن الهام في الأمر أن التطبيق يكون تحقيق لمناط النظرية، لكنه عند المفكر هاني صار جريًا إلى الأمام، ربما أراد من التطبيق توسيع لمدارك النظرية بالتفاعل مع النص من الخارج. لكن هذا قد يهدم النظرية أو على الأقل يجعلنا لا نضع يدنا بشكل كامل على تأويلية هاني، الأكيد أن المشروع لا زال في بدايته ولم يكتمل بعد على الأقل وفق ما وقع بين أيدينا من نصوص هانائية. فلم لا ننتظر مع المنتظرين؟

بالجملة يشكل منظور المفكر الإسلامي إدريس هاني بخصوص التأويل – كما هو ثابت على الأقل من خلال حواره – تبنيًا حضاريًّا بامتياز بعد أن جعل من شأنية الجري القرآني شأنية أممية وليست اجتهادًا معرفيًّا فرديًّا، لكن للأسف لم نقف على تفعيل لمنهجية التجديد الجذري على الأقل وفق التوصيف المعرفي الذي ارتضاه، مما يجعل سؤالًا يطرح نفسه بخصوص لازمة الجمع بينهما من عدمه، بمعنى آخر هل يتحقق التبني الحضاري في غفلة عن التجديد الجذري للأفكار أو المنظورات؟ أظن بأن المفكر الإسلامي إدريس هاني نسخ بفعله ما سبق وأن صرّح به من لزومية بهذا الخصوص. فثمة معطيات معرفية دينية غير قابلة للتجديد لأنها عين التجديد فمعيرتها تجعل منها فوق الزمان والمكان، وربما هذا ما اكتشفه باحثنا وإن لم يصرح بذلك.

وفي الختام لا بأس من الإشارة إلى أن التعامل مع التراث كوقود لمحرك الحاضر نحو المستقبل هو أهم ما خلص إليه باحثنا، وهو بصدد تحقيق مطابقة ذلك مع الخارج حتى يتحقق لنا اليقين الموضوعي في أجلى صوره على صحة النظرية التي يدافع عنها. فالتدليل المنطقي على التصور والتصديق هو ما ينقص المشاريع الفكرية الكثيرة وهو عين ما يتجاوزه مفكرنا بمجهوداته النيرة. 

[1] إدريس هاني، الإسلام والحداثة – إحراجات العصر وضرورات تجديد الخطاب، منشورات دار الهادي ضمن سلسلة فلسفة الدين والكلام الجديد، الطبعة 1، سنة 2005، الصفحة 62.

[2] المصدر نفسه، الصفحة 63.

[3] إدريس هاني، الإسلام والحداثة، مصدر سابق، الصفحة 16

[4] المصدر نفسه، الصفحة 294.

[5] إدريس هاني، الإسلام والحداثة، مصدر سابق، الصفحة 294.

[6] المصدر نفسه، الصفحة 295.

[7] إدريس هاني، الإسلام والحداثة، مصدر سابق، الصفحة 295.

[8] المصدر نفسه، الصفحة 295.

[9]  المصدر نفسه، الصفحة 295.

[10] المصدر نفسه، الصفحة 295.

[11] سورة الأنبياء، الآية 104.

[12]  إدريس هاني، الإسلام والحداثة، مصدر سابق، الصفحة 295.

[13] سورة التكوير، الآيتان 8و 9.



المقالات المرتبطة

الفتنة الطائفية والولاء والبراء*

عبّر القرآن الكريم عن الفتنة بأنها من الخطوط الحمر التي ينبغي توقّيها إلى أقصى الدرجات، واعتبرها أشد من القتل، فكما تعلمون بحالة القتل يمكن للمرء أن يقتل نفسًا

الفكر العربي الحديث والمعاصر | آليات إعمال المنهج عند حسن حنفي

انطلق حنفي في آليات إعمال منهجه من الظواهرية الهوسرلية، فبعدما تتحوّل العلوم المدروسة إلى منطقة الوعي، لا يتمّ الحكم عليها مباشرة، إنّما يتمّ استخدام آليات محددة،

الطريق إلى الدولة الاستعمارية

لا يمكن فهم العداء الصهيوني للأديان ومواجهة كل ما هو حي، بدون العودة وفهم كيفية تشكيل الجهاز العسكري الرسمي للكيان الزائل، وذلك من خلال فهم العلاقة بين اليهودية

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<