الحداثة الأبدية من منظور روحاني إسلامي

الحداثة الأبدية من منظور روحاني إسلامي

(1)

حول مصطلح الحداثة الأبدية  Eternal modernism

إذا كانت الحداثة الغربية modernity بكل تطبيقاتها في الغرب الأوروبي والأمريكي، قد وصلت إلى طرق مسدودة، وبلغت أقصى درجات الفشل – في جوانبها الأخلاقية والقيمية بصفة خاصة، وكذلك فلسفة ما بعد الحداثة post modernism وما يتحدث عنه البعض بما يسمى بفلسفة: بعد ما بعد الحداثة post – post modernism فإن ذلك أمر لافت للنظر، يدعونا للتأمل، والبحث لاستخلاص النتائج، فتمرد الحداثات الغربية على بعضها البعض، وظهور عناصر التناقض في كل حداثة منها، ليس لذلك معنى إلا لكونها فلسفات وضعية خالصة، قابلة للتغير، وعرضة للانقلاب، واكتشاف أخطائها الجسيمة، نظرًا لبشـرية مصادرها، وبشـرية قيمها ومبادئها، وهي مرهونة بوجهات نظر، ورؤى مفكر أو عدد من المفكرين الذين يحدوهم الغرور العقلي بأنهم وصلوا إلى حد الكمال في العقلية، وقرروا أن [المادي] وحده مصدر الحقيقة، وأن الإنسان هو مركز هذا الكون، والقادر على معرفته، وإدارته، والهيمنة عليه، على اعتبار أن الإنسان هو الإله، وقد حل محل الله سبحانه وتعالى.

فصل الدين عن الدولة

ومن ثم بدأت هذه الحداثة بمبدأ الفصل، ففصلت الدين عن الدولة، وفصلت الدين عن العقل، وفصلت الأخلاق عن السياسة، وغُيِّبت القيم الثابتة الأصيلة في الدين، وأحلّت محلّها القيم النسبية المتغيرة، فأصبح معيار القيم معيارًا خاضعًا لأهواء البشـر، ومصالحهم المختلفة، وأكّدت هذه الحداثة الغربية وما يرادفها من حداثات هي امتداد لها على مبدأ الذاتية والفردية حيث [الأنوية]، والحرية المطلقة للإنسان الذي أصبحت ميوله ورغباته وأهواؤه مقدسة وواجبه وفق هذا المبدأ! ولماذا لا؟.. أليس رفض الدين، والقطيعة المعرفية والروحية معه من أسس تلك الحداثة التي قتلت في الإنسان جوانبه الروحية، وجعلته خواءً، وجسدًا لا هم له إلا إشباع حاجاته المادية، ودفعت به إلى الحضيض ليصير إنسانًا استهلاكيًّا، يتبارى في إنتاج كل ما يحقق له السعادة عن طريق إشباع الغرائز الحسية؟ فالمجتمع الحداثي يسعى لما هو “وقتي دنيوي” غير ممتد إلى [الأخروي]، فهو منكر لكل ما هو غيبـي من بعث وحساب، فهو رهين حياته الدنيوية بكل ما فيها من ملذات محرمة وغير محرمة فانحط إلى درجة “البهيم”، وفي سبيل ذلك يجعل من التقدم المستمر دون غاية، ودون هدف مبدأ أساسيًّا له، ولهذا تتصارع مجتمعات الحداثة الغربية صراعًا محمومًا للابتكار والاختراع أيما كانت الغاية منها؛ حتى لو تدمير الكون كله، وعلى أرض الواقع لا يمكن إنكار ما حققه التقدم الغربي من استعباد الإنسان، ونهب ثروات الشعوب، في مشارق الأرض ومغاربها، بل إن هذا التقدم قد قضـى على الأهالي الأصليين كما حدث في [أمريكا الشمالية] بالقضاء على [الهنود الحمر] وفي قارة أفريقيا – وفي سبيل التقدم الغربي – تم خطف الملايين من أبناء هذه القارة، ليستعبدوا في بلاد التقدم الغربي – ولطالما زعمت الدعاية الغربية بأنها تسعى حثيثًا لتنمية وازدهار بلدان هذه القارة، ولكن ذلك لم يتحقق أبدًا، وكم ضللت الحداثة الغربية عقلية الشعوب الأفريقية فصكت لقارتهم وصفًا كاذبًا بأنها “القارة الفقيرة”، وهو وصف مضلل ومقصود لتغييب وعي أبناء القارة بثرائها وغناها بثرواتها الطبيعية التي لا حدود لها والتي لا تزال تلك الشعوب الأوروبية تعب منها، وتنهبها نهبًا غير منقطع، تحت مبررات استعمارية لم تعد تخفى على أحد، إذ صنعت السياسة الأوروبية لنفسها [لوبي] من أيادي وعقول أبناء هذه القارة لتستعملهم من أجل تحقيق مآربها الخبيثة – رغم قيام شعوب بعض هذه البلدان من تمرد وثورة على هذا الفخ الاستعماري هنا أو هناك.

والحق أن السبيل إلى “التحرر الكامل” من ربقة هذا الأوروبي الحداثي لن يتحقق إلا بأن تكفر هذه الشعوب بتلك الفلسفات الحداثية الأوروبية المنبعثة من بيئات تاريخية وفلسفية واجتماعية أوروبية شكلًا ومضمونًا، ولعل من أخطر الوسائل التي امتطتها الحداثة الغربية وما تحتويه من قيم سلبية وأخلاقية منحطة، الغزو الثقافي، والتعليم، وحركات التبشير، فقد استعملت كل ما سبق استعمالًا قويًّا وعميقًا، ومتغلغلًا وواسع النطاق، فزرعت ما زرعت من المفاهيم المغلوطة، التي عششت في عقول طلاب البعثات الأفريقية إلى أوروبا، وعودتهم إلى بلدانهم ليعلموا أبناء شعوبهم تلك المفاهيم، وبمعنى آخر قد صنعتهم أوروبا على أعينها -إلا قلة قليلة – من أولئك المبعوثين الذين نجوا بأنفسهم من التماهي مع الحداثة الغربية في تطبيقاتها القيمية والأخلاقية وهم يمثلون في بلدانهم خط الدفاع الأول، ليواجهوا هذا الواقع المتردي تحت وطأة الحداثة الغربية، والتي حققت مستوى مخيفًا من التحيّز لدى أبناء هذه القارة، وغيرها، تلتمس ذلك على مستوى الفكر المجرد، والسلوك اليومي، والعلاقات الاجتماعية وغير ذلك، فقد باتت الحداثة الغربية [التي بدأت في التراجع والنقد والمحاسبة لها في موطنها الأصلي] هي النموذج الذي تنبهر بها الشعوب الأخرى التي تعاني من عقلية اتباعية مزمنة، فها نحن ذا لن نعجز عن أن نشير بأصابعنا إلى [التيارات الإلحادية] بين أبناء الشعوب غير الأوروبية، وسياسات الغرب المزدوجة إزاء كل ما هو إسلامي أو عرب.

ونرى الإعلام الغربي المشبع بقيم العولمة الاستعمارية وهو يدشن لنا البرامج والأفلام السينمائية ويُغرق بها عقول أبناء الأمة الإسلامية، ليروج لكل ما هو استهلاكي رخيص، وإباحية، لم يبلغها قوم لوط، إذ روّجوا لكل أنواع الإباحية والشذوذ الجنسـي، ولكل ما يهدم شباب الأمة من مخدرات، وفوضى أخلاقية، وعنف لم تشهده المجتمعات الإسلامية منذ ظهورها، وأفكار تهدم كيان الأسرة المسلمة، وكذلك النظام التجاري الدولي المستغل والاقتصاد الأناني الذي ترزخ تحت عبئه أمتنا الإسلامية – رغم امتلاكها لمقدرات اقتصادية هائلة. إننا نعيش في عالم تمارس فيه الحداثة الغربية جرائمها المعلنة، وغير المعلنة، تلك الحداثة المادية العبثية التي تقرر [موت الإله]، وتخرب في معتقداتنا ومسلماتنا الدينية الإسلامية، وجعلتنا نغفل عن [حداثة أخرى]، ربانية المصدر تتميز بالثبات في مصادرها، ومراجعها، وديمومتها وأبديتها لكونها حداثة، أنزلها الخالق عزّ وجلّ في قرآنه، وأوحاها إلى نبيه الكريم محمد (ص)، وإن هذه الحداثة المنسية أو المهجورة تتسم بالأبدية لثبات مصدرها الإلهي لا البشـري وهذا المصدر الإلهي المتعالي هو الذي دعا الناس إلى التأمل والتفكير والتدبر، ودعا الناس إلى استخدام عقولهم وحارب كل ما يغيّب العقل، بل وحرّمه تحريمًا قاطعًا، وكرم الإنسان تكريمًا يليق مع مهمته في الأرض وهي الاستخلاف، إنها حداثة وسطية، تنأى بالناس عن المغالاة في استخدام العقل، ووجهت كل نعمة أنعمها الله تعالى على عباده نحو وجهتها المتوازنة التي تحقق له السعادة في الدارين: الدنيا والآخرة، وأعطت لكل جانب من جانبي: المادة والروح طاقته التي تتناسب معه، ولم تغفل جانبًا على حساب جانب آخر. فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد منَّ على الإنسانية بكتابه الحكيم ليبين لها السبل التي تأخذ بيدها إلى الآخرة بأمان، وتعبر دار الدنيا إلى دار الآخر متى حققت مقاصد التشـريع الإلهي والاتعاظ بالسنن الربانية التي نص عليها القرآن الكريم، وأكدت عليها السنة النبوية الشريفة، ليدرك الإنسان المغزى والمقصود الإلهي من هذه السنن، والمقاصد التشريعية، وجمع بين هذه وتلك ليفهم حركة التاريخ ويفسره وفق الرؤية القرآنية، واتخذ منها مصدرًا من مصادر حداثته المستمرة الأبدية، فإذا نشطت الأمة بكل قواها لحققت تلك الحداثة الأبدية حتى إذا قامت الساعة وفي يد أحدها فسيلة فليزرعها، إنها الحداثة التي تدعو أبدًا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدعو الناس إلى الأخذ الأبدي بالبحث والتفكير والتعارف بين البشـر، فليست [الحداثة الأبدية] إلا حداثة ربانية مؤصّلة في آيات الله في القرآن الكريم وفي سنة نبيه (ص)، فليست هي بالحداثة الوقتية المرهونة بفترة تاريخية ثم تنقلب وتتغير في مصادرها وتطبيقاتها، ولا هي حداثة متطرفة ترجح جانبًا على حساب جانب آخر، ولا هي حداثة قابلة للنقد في أصول مصادرها الإلهية، ولا هي حداثة تبحث فقط عن السعادة الدنيوية.

أولًا:  الحداثة  – [modernity]

المعنى اللغوي للحداثة

في [لسان العرب] لابن منظور: حدث: الحديث نقيض القديم، والحدوث نقيض القدمة. حدث الشيء يحدث حدوثًا وحداثة، وأحدثه هو، فهو محدث وحديث، وكذلك استحدثه، وأخذ الشيء بحدثانه وحداثته أي بأوله وابتدائه. وقال الأزهري: شابٌ حدثُ السن وحديثها: بين الحداثة والحدوثة، وفي حديث الحسن [حادثوا هذه القلوب بذكر الله فإنها سريعة الدثور] معناه: اجلَوها بالمواعظ، واغسلوا الدرن عنها، وشوقوها حتى تنفوا عنها الطبع والصدأ الذي تراكب عليها من الذنوب، وتعاهدوها بذلك، كما يحادث السيف بالصقال](1).

مدلول الحداثة في القرآن الكريم

بالرجوع إلى استخدامات النص القرآني، نجد أن لفظة [الحداثة] لم ترد في القرآن الكريم، إلا أن مادتها واشتقاقاتها وردت بصيغ متعددة بالمعاني الآتية:

1 . الإخبار

وجاءت بالصيغ الآتية:

[تحدث]: كما في قوله تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾[سورة الزلزلة، الآية 4]؛ أي تخبر بما عمل عليها من خير أو شر.

[أتحدثونهم]: كما في قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ…﴾[سورة البقرة، الآية 76]: أي تخبرون المؤمنين بما بين الله تعالى لكم.

[فحدث]: كما في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [سورة الضحى، الآية 11]: أي أخبر.

2 . الابتداء

جاءت بصيغة:

[أُحدِث]: كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً﴾[سورة الكهف، الآية 70]: أي حتى ابتدئك ببيانه.

3 . التجديد

وردت بها الصيغة الآتية:

* [يُحدِث]: كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾[سورة طه، الآية 113]، أي يجدد لهم القرآن عبرة وعظة.

ب . مدلول الحداثة في السنّة النبوية

أما السنّة النبوية، فقد وردت بها لفظة الحداثة كما في قوله (ص) من حديث عائشة “لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت، ثم لبنيته على أسس إبراهيم (ع) فإن قريشًا استقصـرت بناءه وجعلت له خلفًا”. [وجاء بلفظ “حِدْثان القوم”، و”حديث عهدهم”، والمعنى: قرب العهد؛ أي: قرب عهدهم بالكفر والخروج منه، والدخول في الإسلام، وأنه لم يتمكن الدين في قلوبهم، فلو هدمت الكعبة وغيرتها ربما نفروا من ذلك] [الابتداء والاختراع]؛ كما في قوله (ص): [من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد، والمعنى: من أحدث في ديننا هذا، مما لا يوجد في كتاب ولا سنة فهو مردود أي: باطل غير معتد به](2). [وما ينبغي علينا أن نشير إلى أن الإسلام لا يرفض التحديث والتجديد، أو يعادي التطور والترقي، فبنظرة متدبرة إلى كثير من آيات الكتاب العزيز، نرى القرآن الكريم يحفّز الهمم، ويوقد العزائم في الأمة الخاتمة، لإعمار الأرض، وإثراء الحياة بجهود تنضـر الوجوه، وتعلي الأمة وتكفيها، وتجعل يدها العليا بين الأمم على مر العصور. إن ما يرفضه الدين الحنيف هو المحدثات في الدين، والتعدي على ثوابته على جهة التعبد. وأما ابتكارات الإنسان لإراحته، وتيسير أموره، وتوسيع دائرة منافعه؛ فليس بداخل -أبدًا- في البدعة المستحدثة التي حدّث عنها الصادق الصدوق (ص)، بل في طيات ذلك ما هو مدعو إليه، مرغوب فيه وإلا فأين السنة الحسنة](3).

بين الأمد والأبد

الأمد: [المعنى اللغوي]، و [المعنى في القرآن الكريم]: [في المصباح المنير]: الأمد: الغاية. وبلغ أمده: أي غايته. وأمد أمدًا من باب تعب: غضب، وفي [مقاييس اللغة] لابن فارس: الأمد: الغاية كالمدى. يقال ما أمدك: أي كم منتهى عمرك. والأمد أيضًا الغضب. وقد أمد عليه وأبد عليه: غضب. وفي [المفردات في غريب القرآن] للراغب: الأبد والأمد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد، لا يقال أبدًا كذا. والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، وقد ينحصـر نحو أن يقال: أمد كذا يقال زمان كذا. والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية، والزمان عام في المبدأ والغاية. والتحقيق: أن الأصل في هذه المادة هو الغاية والمنتهى من الزمان، وأما الغضب: فهو باعتبار انتهاء الصبر والحلم عليه. قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ﴾ [سورة الحديد، الآية 16]: أي طال الأمد بإمهالنا لهم ليزيدوا في العصيان. وفي قوله تعالى: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾[سورة آل عمران، الآية 30]، أي بين النفس التي عملت من سوء، وبين عمله منتهى وغاية بعيدة، وفي قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً﴾[سورة الجن، الآية 25]؛ أي غاية قريبة، وفي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾[سورة الكهف، الآية 12]؛ أي أحاط واطلع من جهة الأمد والغاية لما لبثوا من الزمان، وأيهما وصلوا إلى منتهى الحياة(4).

الأبد في القرآن الكريم

قال الراغب الأصفهاني “الأبد: الزمن الطويل الممتد، الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان: يقال زمان كذا. ولا يقال أبد كذا، وحق الأبد أن لا يثنى ولا يجمع، لأنه لا يتصور حصول أبد آخر يضم إليه فيثنى به. [المفردات](5). والأبد: المدة الطويلة تقول: أبَدَ، يأبد، أبدا، وتأبَّد الشيء: إذا تخلّد، فالأبد ظرف زمان للمستقبل بمعنى الدهر الطويل، والمدة الممتدة، التي لا تتجزأ ولا تنقسم ولا تنتهي، والأصل أن لا يأتي إلا مفردًا نكرة. وقد ورد الأبد ثمانيًا وعشـرين مرة في القرآن الكريم، كان فيها ظرف زمان للمستقبل، وكان مفردًا منصوبًا نكرة.

1 . الأبد المؤبد

وقد ورد في القرآن الكريم لتأكيد خلود الكفار في جهنم وكان مقرونًا مع الخلود، أو لتأكيد خلود المؤمنين في الجنة منعمين وكان مقرونًا مع الخلود، وقد يرد لتأكيد تأبيد الشـيء في الدنيا كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾[سورة النور، الآية 21]، فهذا التأبيد مستمر حتى قيام الساعة، ومن المعلوم أنه لا يزكو أحد ولا يتطهر إلا برحمة الله وفضله.

الأبد الموقوت

الذي قد يرد في القرآن الكريم لتأييد الحكم طيلة حياة المعنيّ به، لكن الحكم ينتهي عند موت ذلك المعنى، كتحريم نكاح أزواج النبي (ص)، لأنهن أمهاتهن، ولكن هذا المؤبد موقوت بحياة أولئك الأزواج يرضى الله عنهن، وقد توقف وانتهى بوفاتهن، فهذا تأبيد موقوت محدد بحياتهن.. وهناك تأبيد موقوت في غير هذا الموضوع. والقاعدة التي نخرج بها من ذلك إذا ورد ظرف الزمان المستقبلي [أبدًا] في آية تتحدث عن يوم القيامة كان المراد به الأبد الممتد المؤبد الذي لا يتجزأ ولا يتوقف ولا ينتهي ولا سيما إذا قرن بالخلود الدال على مزيد من التأبيد المستمر حتى قيام الساعة، حيث تنتهي الحياة الدنيا وكثيرًا ما يراد به: “التأبيد الموقوت” المحدّد بزمان معين أو بشـروط وصفات خاصة. والجمع دلالة الظرف [أبدًا] بين التأبيد والتوقيت، ليدل على تأبيد موقوت مشـروط لطيفه من لطائف القرآن الكريم(6) [وترجمة [الأبدية] إلى الإنجليزية: الأبدية:Enternal / Eternism / endless time / perpetuity (7)

(2)

مصادر الحداثة الغربية

1 . المصادر المرجعية

أ. الفلسفة اليونانية: والتي بدأت قبل ميلاد المسيح (ع) بستة قرون تقريبًا، ولكنها لم تعتمد على رسالة إلهية ذلك أنه لم يخرج في اليونان أي ديانة ربانية، بل كانت معتقداتهم مليئة بالديانات الوثنية المتنوعة، مما كان له تأثير في إنتاجهم الفلسفي، وهو ما ظهر في عدم اهتمام فلاسفتهم بالبحث في مسألة الوحي كمصدر للمعرفة، فرأوا أن مصادر المعرفة هي الحس والعقل بذلك بدأت، وبذلك تنتهي منفصلة عن النص الإلهي انفصالًا تامًّا.

ب. الديانة المسيحية: لقد قامت في عهد النهضة الأوروبية فلسفات كثيرة ونظريات متعددة ومن أبرزها الحداثة، وكلها كانت على عداء مع الكنيسة وما تمثله من ديانة، وذلك نتيجة الطغيان الذي كانت تمارسه الكنيسة على العلم والتطور، ومن ثم اشتقت الحداثة من هذا الطغيان مبدأ إقصاء الدين وتعاليمه من الحياة العامة، وتبنّت كل ما يخالف التعاليم الدينية والقضايا العقدية.

2 . المصادر المرجعية

أ . المدرسة العقلية: أول ما بدأت كانت كرد فعل لما كانت عليه الكنيسة من تعطيل للعقل والإنسان، وجعله تحت حكم الكنيسة ورجالها، والعقل عندهم مجموعة من المبادئ [القَبْليِّة] المنظمة للمعرفة المتميزة بضـرورتها وكليتها واستقلالها وهي الفارقة كما يقول [ليبتز] بين الإنسان والحيوان.

ب . المدرسة التجريبية: وبدأت بتقرير فرنسيس بيكون أنه بالإمكان أن يصل الإنسان إلى معرفة بعالم الطبيعة على ضوء ملاحظاته والاعتماد على الاستقراء والتجريبيون يرفضون الوجود العقلي السابق للمعرفة، ولهذا جعلوا العقل مصدرًا ثانيًا للمعرفة، لا يقوم إلا بعد التجربة(8).

مبادئ الحداثة وموقف الإسلام منها

  1. رفض الدين: فالحداثة مشـروع يبدأ بإقامة قطيعة معرفية عن الماضي، وبالدرجة الأولى قطيعة معرفية مع الموروث، بالأخص الموروث الديني وإحلال الطبيعة محل الله، فلم يعد في عالم القداسة شيء مقدس سوى ذاتية الإنسان وعقله، ولم يعد لاعتبارات الدين والإله معنى أو تأثير في الحياة، ورفعت الحداثة شعار: لا إله إلا الإنسان.
  2. الذاتية والعقلانية: لقد قامت معالم الحداثة وفق مبدأ الذاتية، الفردية، الأنوية، المنطلقة من مبدأ مركزية الإنسان في الكون، والعقلانية التي تلغي سواها، وهذه الذاتية والأنوية ناتجة من رفض الدين وإلغاء تحكم الإله في مجريات الحياة الإنسانية، واغترار الإنسان بعقله، وفكره وقدراته، وظنه أنه وحده قادر على إدارة الكون. وكأن العقل البشـري قد وصل إلى مرحلة الكمال ليحل محل الإله خالق العقل والكون.
  3. المادية والقيم النسبية المتغيرة: يعمل الفكر الحداثي على تعطيل القيم السائدة في الدين والفلسفة والأخلاق، وتقديم قيمة جديدة صادرة عن فكرة القوة، وتقديس القوة، وفق اعتبار أن القوة هي جوهر الوجود، وإرادة القوة هي مقياس القيم في الحياة، أي إرادة السيطرة والاستيلاء والتملك والتسلط والاخضاع.
  4. العولمة: تعني العولمة بأشمل صورها: صيغ تنفيذية عملية تنبثق من أفكار مسبقة، بغية إعادة صياغة الهوية الخصوصية للأفراد والشعوب جميعًا في كل المناحي[الحياتية]: فكرية، سلوكية، سياسية اقتصادية، تربوية، اجتماعية، إدارية، قانونية، ثقافية وغيرها وفق منظور بشري لتحقيق أهداف محددة، وهو العالم الذي تحدده الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب بقصد تكوين نمط يعم العالم ويلغي الثقافات والخصوصيات لكل الشعوب، وبذلك أصبحت المعايير الأمريكية هي السائدة على أنبل القيم وأقدسها، وهذا التعميم الذي هو من مبادئ الحداثة هو الخطر الذي يهدد المجتمعات الإسلامية، ويضعها أمام تحديات كبيرة لأجل الحفاظ على هويتها الإسلامية التي تغلغلت في بنيتها مظاهر الحداثة.
  5. العلمنة: هي جعل المرجعية في تدبير العالم إنسانية خالصة، فهي نزعة دنيوية في تدبير العالم من داخله دون تدخل من الخارج، فالعلمنة [العلمانية]؛ تعني الفصل؛ الفصل بين الدين والدولة وإلغاءه وفصله عن الحياة وعزله عن التحكيم والتشـريع كما أنها تفصل بين الدين والأخلاق، وتفصل بين الدين والعقل، وكذلك تفصل بين الأخلاق والسياسة، وهكذا توجهت العلمانية نحو عزل ما يجب التمسك به وربطه بالحياة البشرية بصورة عامة ألا وهو الدين(9).

نستخلص ممن سبق ويمكن تلخيصه من نتائج بحث الدكتور نور سهيل مهدي بإيجاز ست نتائج تتعارض تمامًا مع مبادئ الفكر الإسلامي وهي:

أولًا: أول المبادئ التي قامت عليها الحداثة هو رفض الدين والقطيعة عن الماضي، ونبذ التراث أيًّا كان، على اعتبار أن الدين يكبل حرية الإنسان ويقيد فكره.

ثانيًا: إحلال العقل محل الدين وتشريعاته، وهو المصدر الوحيد في التشريع.

ثالثًا: الذاتية والفردية والأنوية الحرة المطلقة، حيث أصبح الإنسان مركزًا للكون بدل الإله، وله الحرية المطلقة في أي شيء، وأصبحت ميوله ورغباته وأهواؤه لها صفة التقديس، وطاعتها حقة، بل واجبة.

رابعًا: غياب القيم الثابتة، وإحلال النسبية المتغيرة محلها، والقيمة الفاصلة بين بني البشر هي القوة فقط، فالبقاء للأقوى، وليس للأصلح.

خامسًا: العلمانية: وهي من مخرجات الحداثة، أيديولوجية تعزل الدين عن الحياة وتمنعه من التحكم في مجالات الإنسان المختلفة والمتنوعة.

سادسًا: العولمة هي تعميم لنموذج الحداثة الغربية، ونشره على كافة دول العالم، وفرضه على المجتمعات المتعددة الثقافات، فلا تبقى خصوصية دينية أو ثقافية لفرد أو مجتمع، فالعالم أصبح قرية واحدة صغيرة (10)، والواقع أن علماء الاجتماع استطاعوا عبر رؤاهم النقدية أن يكتشفوا مسالب الحداثة ومخاطرها…. فيقول “آلان تورين”: “إن الحداثة تطورت ضد ذاتها”؛ وهذا يعني أنها وجدت من أجل تحرير الإنسان، ولكنها وفي سياق تطورها وضعته في أقفاص عبودية جديدة هي عبودية العقل والعقلانية لقد أصبحت الذات الإنسانية في سياق هذا التطور وضعًا للعلم والعقلانية، ومن ثم استلاب هذه الذات من مقومات وجودها الإنسانية(11)، ومن ناحية أخرى يؤكد روسو على أن الحضارة المادية العقلانية تؤدي إلى تراجع الأخلاق وتراجع القيم الإنسانية، وتدفع الإنسان إلى دوائر الاستلاب والاغتراب(12)، ويعد الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتارLyotard من كبار المفكرين الذين وضعوا الحداثة في قفص الاتهام، وهو من أعلن نهايتها معلنًا عن ميلاد “عصـر ما بعد الحداثة” في كتابه المعروف “الوضع ما بعد الحداثي” La condition postmderne عام 1979، ومن القضايا التي يناقشها جان فرانسوا ليوتار  jean– francois lyotard في هذا الجانب إشكالية الحتمية التي يعلن سقوطها تأسيسًا على تطور العلوم الطبيعة والتاريخ، فالحتمية تعلن إفلاسها أمام المستجدات العلمية الجديدة في القرن العشـرين، لقد بينت الأحداث المتتابعة على مدى القرن العشـرين أن التاريخ لا يأخذ خطًّا حتميًّا تحركه تتابعات المراحل، وحتميات التتابع التاريخي الذي أنبأت عنه الماركسية وغيرها، فالتاريخ الإنساني قد يأخذ خط التقدم، ولكنه قد يتراجع وقد ينهض من جديد أو يراوح في مكانه، فلا مكان لأقدار الحتمية وأفكار الغايات التي يسعى إليها التطور في منظور الإنسان الفكرية الكبرى(13).

السمات الأساسية التي تنطلق منها حركة ما بعد الحداثة

وهي تتمثل في عدة اتجاهات أهمها:

  1. هدم الأنساق الفكرية الجامدة والأيديولوجيا الكبرى المغلقة وتفويض أسسها.
  2. العمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع [بين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيقية].
  3. رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة(14)، فمجتمع [ما بعد الحداثة يتجه نحو ما هو متخيل ومستقبلي، يقوم على معاني الاختلاف بدل الفهم المشترك، وتجاوز ما هو واقعي إلى ما هو خيالي، وينهمك في دحض النظريات، والإنسان، وإثبات عكسها بالتشكيك والتفكيك، وهكذا فنحن أمام فكر لا يؤمن لا بالذات، ولا بالعقل، ولا بالتاريخ، ولا باليقين، ولا بالإنسان، فما بعد الحداثة ضد الحتمية، وضد الروايات الغربية، والعقل الشمولي، وما يميزها هو الفوضى، فهي منظومة دينامية متحركة قابلة للتغير اللاتوازني بطريقة مطلقة، وبحساسية فائقة، لا تخضع للحساب العقلي الدقيق، متغيرة تخضع للصدفة، إنها تراتُبية جديدة، فمن العقل إلى اللاعقل، ومن اليقين إلى الشك ومن النظام إلى الفوضى، ومن الحرية إلى اللامساواة، ومن الكل إلى التشظي](15)، ومن ثم نجد أننا إزاء مرحلة متطورة لفلسفة الحداثة ألا وهي مرحلة أو فلسفة ما بعد الحداثة التي تتسق والمعطيات التاريخية والاجتماعية والسياسية والعلمية للمجتمع الغربي، إذ هي تعلن موت الإنسان أو نهاية النزعة الإنسانية، كما تؤكد على نهاية الإنسان الكبرى ونهاية التاريخ والتقدم، ففلسفة ما بعد الحداثة ترى أن الإنسان على وشك الاختفاء، وأن هوية الذات بدأت في التشظي، وأن الإنسان لم يكن أكثر من ومضة شاردة وبريق خاطف، وأن الحضارات والتاريخ نفسه نواتج نظام موضوعي لا دخل لإرادة الإنسان فيه، لأنه نظام بنيات الوجود الخفية والحتمية وإمكاناتها.

أما عن فلسفة [بعد ما بعد الحداثة post – postmodernism – تذكر الباحثة مهجة مشهور في دراسة قيمة لها أنه خلال العقدين السابقين، شهد العالم كمًّا هائلًا من التنظير يتحدث عن احتضار ما بعد الحداثة، بل إن بعض الكتابات أصبحت تعلن عن موت ما بعد الحداثة ونهايتها، وتحاول استشراف ملامح المرحلة الجديدة …. وهذه المرحلة الجديدة [مرحلة: بعد ما بعد الحداثة] تعبّر عن نفسها، كما لو كانت عصـر نهضة ذهبيًّا يمجد العقل، والإبداع، والتميز، والاحترافية، والتمرد على القيم الموروثة [تقصد قيم الحداثة الغربية الأولى]، والارتقاء بالفردانية، وكان لمنتجات التكنولوجيا الحديثة بإعادة ترتيب أوراق العالم من جديد، وانطلقت تعيد تعريف كل شيء، المنُتِج والمنُتَج والمستهلك(16)، [وقد قام راؤول إيشلمان Rooul Eshelman بإصدار كتابه: performatism or the End of postmodernism عام 2008] [الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة] الذي لاحظ فيه أن جملة الكتابات التي تراكمت منذ بداية الألفية الثانية تحيد عن قواعد ما بعد الحداثة، بأنها تحكي قصصًا يصل فيها الأبطال إلى مرحلة التجاوز والتعالي على العالم المادي، وهذا يتناقض تمامًا مع فكر ما بعد الحداثة(17)، “وتوظف فكرة الأداء performance، للحفاظ على الإنسان بوصفه وحدة كلية غير قابلة للاختزال، وتعتمد على مبدأ الإلزام، هذه الوحدة الكلية تتطلب فاعلية لا يمكن تحديدها إلا بمصطلحات ثيولوجية، وبذلك يخلق ملاذًا يُلتجأ إليه، وهو ما اعتقدت ما بعد الحداثة أنه قد انحل نهائيًّا، فهناك الغايات والعقيدة واليقين والمؤلف والحب وغيرها من المعاني الثابتة.

وهنا سيعبر الإنسان عن نفسه بواسطة الإنجاز الكلي بمعنى تحقيق ما يؤمن به(18)، وبهذا تبشر فلسفة [بعد ما بعد الحداثة] بآلية منيعة تستعصي على نموذج التشظي، والتفكيك(19)، ويرى إيشلمان “إنه إذا كانت هناك ردة فعل تاريخية على ما بعد الحداثة، فلا بدّ أن تكون بتحقيق نوع من الوحدة بين العلامات والأشياء … وقد وجد إيشلمان ضالته في علاج هذه الإشكالية في كتاب    signs of paradox لإيريك جانس [1941Eric Gans ]  الذي طور فيه جانس مفهومًا واحديًّا عن العلامة يعارض ما بعد البنيوية بصورة جذرية … ويفترض جانس أن توظيف اللغة هو ما يسمح لنا بتجاوز الحالة الحيوانية وأن نصبح بشرًا، إذن فإن اختراع اللغة، أو العلامة الأولى يجب أن يكون حدثًا متعاليًا متجاوزًا أو دينيًّا”(20)، ومن ثم نجد أن بعد ما بعد الحداثة تنقلب على فلسفة [الحداثة] وفلسفة [ما بعد الحداثة] بإيمانها بفكرة الأدائية، ومعارضة ورفض نموذج التشظي والتفكيك، وإيمانها بالمتعالي والمتجاوز والديني، ورغم هذا النقد للمسار الحداثي وما بعد الحداثي الغربي، والذي يعد تصحيحًا له، وتقويمًا داخل الثقافة الغربية، إلا أن كل ذلك يبقى في إطار البيئات الغربية تلك التي لها خصوصيتها المفارقة للبيئات العربية والإسلامية، وعلى ذلك ينبغي علينا النظر إلى كل الحداثات الغربية، وكل تطبيقاتها نظرًا نقديًّا تحليليًّا، لا انبهاريًّا تابعًا وناقلًا لهذه الحداثات دون تمحيص، فتلك هي ذروة مأساة العقل الإسلامي المعاصر، الذي وقعت شعوبه [بفعل الحداثات الغربية، من حيث أفكارها المجردة وعناصرها التطبيقية] في دائرة التماهي مع ثقافة هذه الحداثات، وإلى درجة الذوبان التام أحيانًا من خلال [تحيّزها غير الواعي لتلك الثقافة الغربية]، وذلك [من خلال استبطانها المنظومة المعرفية الغربية، بكل أولوياتها وأطروحتها، ونظرتها للعالم من خلالها من دون أن تكون واعية بذلك … ذلك التحيز الكائن الذي تلقته الشعوب الإسلامية، وتأثرت به من دون وعي من جانبها](21)، ويشير عبد الوهاب المسيري إلى أمر شديد الأهمية، يستوجب الانتباه إليه، والعمل على دراسته وفهمه إذا كنا بصدد صياغة وبناء حداثتنا الإسلامية ذلك أنه “قد تكون داخل العالم العربي الإسلامي مجموعة من المتعلمين في مقابل المثقفين، يشغلون وظائف قيادية وغير قيادية، فمنهم الصحفيون والمدرسون والأساتذة الجامعيون والإعلاميون والمترجمون، وبعض الكتاب الذين يطلق عليهم اصطلاح “المفكرون”، والأدباء الذين يسمون أنفسهم “المبدعون” كل هؤلاء استوعبوا تمامًا النموذج الحضاري الغربي، واستنبطوه من دون أن يدركوا تضميناته المختلفة… وهذه الفئة من المتعلمين هي أخطر القطاعات الثقافية التي تقوم بعملية التغريب، وإعادة صياغة القيم وإشاعة النموذج الحضاري الغربي بكل تحيّزاته”(22)، ويوضح عبد الوهاب المسيري شواهد لعدم إدراك هؤلاء المتعلمين العرب والمسلمين في الغرب للمضامين الخطيرة لما درسوه وعلموه لغيرهم من بني أوطانهم “فعصـر النهضة في الغرب كما تعلموا في الكتب التي درسوها هو العصـر الذى بعثت فيه الفنون والآداب، والذى شاهد الإنسان وهو يضع نفسه في مركز الكون [وليس عصـر ميكيافللى، وتوماس هوبز وبداية التشكيل الاستعماري الغربي، وإبادة الملايين، والثورة الفرنسية هي ثورة الحرية والإخاء والمساواة وإعلان حقوق الإنسان]، وليست الثورة العقلانية المادية الأولى التي عبد الإنسان فيها العقل المادي المجرد، فلجأ للإرهاب ليصوغ الواقع بما يتفق مع هذا العقل، والتي قامت دولتها المركزية بتصفية كل الجيوب الدينية والإثنية باسم هذا النموذج العقلاني المادي، ثم بغزو مصـر وفلسطين، والتقدم هو الحقيقة الأساسية في تاريخ البشـر، وليس أي ثمن فادح قد يفوق في بعض الأحيان ما قد تم تحقيقه من أرباح مادية، ونيتشه هو فيلسوف الإنسان الأعظم، وليس فيلسوف اختفاء الإله والإنسان، والبنوية والتفكيكية هي مدارس في التحليل الأدبي، وليست مناهج تضمر رؤية معادية للإنسان”(23).

وإذا كان هذا التحيّز اللاواعي لمضامين الأدب والفلسفة فإننا نحاط في حياتنا اليومية من حيث سلوكنا، وأزيائنا، واحتفالاتنا، ومطعمنا وملبسنا ومأكلنا، وعلاقتنا الاجتماعية، وإعلامنا، وفننا بكل مظاهر التحيز اللاواعي للنموذج الحداثي الغربي، وبنظرة عابرة على عناوين معالمنا التجارية، وأسواقنا، ومدارسنا المعنوية بلا فتات ضوئية وغير ضوئية. بمسميات أجنبية، إنجليزية، وفرنسية، وإيطالية.. إلخ، والأمر لم يعد مقصورًا على المدن، بل للأسف والمضحك في آن واحد قد امتد إلى قرانا، وحاراتنا الشعبية!! وهذه أبسط، وأوضح مظاهر التحيز اللاواعي للنموذج الغربي الحداثي ما شكل خطرًا فادحًا على العقل الجمعي العربي والإسلامي الذي بات مسخًا كريهًا غريبًا عنا.

(3)

الحداثة من منظور روحاني إسلامي

لما كان مصدر حداثتنا الإسلامية يستمد من مصادر [الوحي]: القرآن الكريم والسنة النبوية [بوصفهما المصدرين الأساسيين]، وهما في حقيقتهما التي يؤمن بها المسلمون، أبديان، مغايران ومختلفان تمام المغايرة والاختلاف عن مصادر الحداثات الغربية المادية. فالأولى وصف حداثتنا الإسلامية بالأبدية، فكما وضحت المعاجم اللغوية العربية أن الأبد: هو المدة الطويلة تقول: أبَدَ، يأبد، أبدًا، وتأبّد الشيء: إذا تخلَّد، فالأبد: طرف للزمان المستقبل، بمعنى الدهر الطويل، والمدة الممتدة، التي لا تتجزأ ولا تنقسم، ولا تنتهي، والأصل ألا يأتي مفردًا نكرة، وقد ورد الأبد ثمانيًا وعشـرين مرة في القرآن الكريم، كان فيها ظرف للزمان المستقبل، وكان مفردًا منصوبًا نكرة، وهو نوعان: الأول: الأبد المؤبد [وهو المقصود هنا في وصف الحداثة الإسلامية به، والثاني: الأبد الموقوت، فالأبد المؤبد كما في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ [سورة النور، الآية 21] فهذا التأبيد مستمر حتى قيام الساعة، ومن المعلوم أنه لا يزكو أحد ولا يتطهر إلا برحمة الله وفضله. والأبدية [Enternal – أو Eternism]، هي صفة لحقيقة القرآن الكريم، والسنة المبينة له، فالقرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي تعهد الله عزّ وجلّ بحفظه من التحريف، والتبديل، والتغيير، والضياع، في مقابل ما وقع لغيره من الكتب السماوية الأخرى، فقد قال تعالى في محكم آياته الكريمة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[سورة الحجر، الآية 9]، والحفظ الإلهي للقرآن الكريم ورد في الآية الكريمة مؤكّدًا بمؤكّدين، وقال تعالى عن غيره من الكتب السماوية: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾[سورة البقرة، الآية 75]، وقال تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَ كُفُوراً﴾[سورة الإسراء، الآيتان 88 -89]، والقرآن الكريم مؤبد إلى آخر الزمان، فعن حذيفة قال: قال رسول الله (ص) [يَدرُسُ الإسلام [عفا وهلك]، كما يدرس وشى الثوب [نقشه] حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة، ويسـري على كتاب الله في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية]، [أخرجه ابن ماجة في السنن [4049]، حدثنا علي بن محمد والبزار في مسنده [2838] والحاكم في المستدرك [8526]، والبيهقي في الشعب [1870] عن أبي كريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. فالقرآن الكريم هو كتاب هداية الإنسان، أبدي ونزل لجميع العصور؛ إن الخطابات العامة للقرآن الكريم لجميع الناس، وجميع المؤمنين هي علامات على عالمية القرآن، والإعجاز العلمي الوارد في القرآن الكريم، والذي لم يكن مفهومًا للناس وقت النزول، وكذلك هدف القرآن في سعادة البشـر وخلاصهم هي علامات أخرى على خلود القرآن، وبالإضافة إلى ذلك يقدم القرآن نفسه على أنه “ذكرى للعالمين”، و “نذير للبشـر”. وإن الوحي في جانب السنة النبوية هو وحي منصوص عليه في كتاب الله الكريم، فقال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى﴾[سورة النجم، الآيتان 3و 4]، وقال (ص): [ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه]، [رواه أبو داود في مراسيله، ج1 ص 361، المروزي في سنته، ج 1، ص 33، وابن المبارك في الزهد، ج1، ص 23: مسند أحمد 016722]، والسنة النبوية المبينة للقرآن الكريم، وهي وحي أوحاه المولى عزّ وجلّ إلى نبيه فهي سنة تتصف بالأبدية كاتصاف القرآن بها، فهما مصدران إلهيان ليسا أمديين، على اعتبار أن الأبد والأمد كما جاء في [المفردات في غريب القرآن، للراغب، أنهما يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ولا يتقيد، لا يقال أبد كذا، أما الأمد: فهو مدة لها حد مجهول إذا أطلق، وقد ينحصـر نحو أن يقال: أمد كذا، كما يقال زمان كذا، كما أن الأصل في هذه المادة هو الغاية والمنتهى من الزمان، قال تعالى: ﴿فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ﴾ [سورة الحديد، الآية 16]؛ أي طال الأمد بإمهالنا لهم ليزيدوا في العصيان، وفي قوله تعالى: ﴿تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾[سورة آل عمران، الآية 30]؛ أي بين النفس التي عملت من سوء، وبين عمله منتهى وغاية بعيدة. والقيم الإسلامية التي تتأسس عليها الحداثة، والتي قد لا يحققها بعض أبناء الأمة الإسلامية في عصـر ما أو في زمن ما لا يعني زوالها، بل هي قيم أبدية لكونها كامنة في [النص الأبدي] الذي قد يغفل عنه البعض أحيانًا، أو يهجرونه، ولكنه مهما طال بهم الأمد فإنهم عائدون إليه -لا محالة- فقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً﴾[سورة الفرقان، الآية 30]، وذلك أن المشـركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يسمعونه، فترك العلم بالقرآن وحفظه لون من الهجر وترك الإيمان به وتصديقه من هجرانه، وترك تدبره، وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به، وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره.. من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه.. ولكن ومع كل ما سبق ذكره من مظاهر هجره، هل محيت القيم القرآنية من المصحف الشريف؟ لا، فهي هناك ثابتة ومستقرة، سواءٌ أتليت أم لم تتل، فهي محفوظة أبدية بحفظ القرآن الكريم كله، وبالعهد الرباني، فعدم تفعيلها في زمن ما لا يعني أنها في حاجة إلى تغيير، أو تطوير، أو تبديل، قال تعالى: ﴿وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾[سورة الكهف، الآية 27]، وقد جاء في تفسير السعدي: التلاوة هي الاتباع – أي اتبع ما أوحى الله إليك بمعرفة معانيه، وفهمها، وتصديق أخباره، وامتثال أوامره ونواهيه، فإنه الكتاب الجليل، الذي لا مبدل لكلمته، أي: لا تغير ولا تبدل لصدقها وعدلها وبلوغها من الحسن فوق كل غاية ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً﴾ [سورة الأنعام، الآية 115]، فلتمامها استحال عليها التغيير والتبديل، فلو كانت ناقصة، لعرض لها ذلك أو شيء منه، وفي هذا تعظيم للقرآن، في ضمنه الترغيب على الإقبال عليه. ﴿وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً﴾ – أي: لن تجد من دون ربك ملجأ تلجأ إليه، ولا معاذًا تعوذ به، فإذا تعين أنه وحده الملجأ في كل الأمور تعين أن يكون هو المألوه، المرغوب إليه، في السـراء والضـراء، المفتقر إليه في جميع الأحوال، المسؤول في جميع المطالب(24)، فلولا الوحي ما كانت أمة الإسلام، فالوحي هو مصدر قيام الأمة الإسلامية، ومنه تأخذ قيمتها الربانية من تحقيق: التعارف والحب والتضامن والعمل والجهاد والتقدم، ومما يؤكد على [أبدية] الحداثة القرآنية وقيمها إنها موصولة بالآخرة، حيث الحساب، فالإنسان يحاسب على هذه القيم، وفق المعايير الربانية التي هي أساس الحساب، فليست بالمعايير البشـرية التي تتحكم فيها الأهواء والمصالح، فالوحي بمصدريه: القرآن الكريم والسنة النبوية الشـريفة هي بمثابة – إذا جاز التمثيل- بالمقرر الدراسي الذي يذاكره الطلاب: تلاوة وفهمًا وتأمّلًا، وتدبّرًا من أجل تطبيقه في الحياة الدنيوية، لغاية قررها الوحي، وهو تحقيق [الخيرية] للناس أجمعين، قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾[سورة آل عمران، الآية 110]، ويقول الدكتور أحمد البصيلي في تفسير هذه الآية الكريمة: “إذا أردنا التغير والعزة، فالسبيل هو العمل الجاد الممنهج، فالله علَّق خيرية هذه الأمة على شرط الجدية، والإيجابية والعمل المجتمعي القائم على التكاتف والتناصح والتواصل مع الله.. ولذلك يقول سيدنا عمر بن الخطاب: “من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها”؛ يعني: ما ذكره الله من شروط في الآية السابقة، وخيرية هذه الأمة ليست من قبيل العنصـرية الزائفة، أو ما يشبه عقيدة شعب الله المختار -لا سمح الله- وليست من قبيل النياشين والقلائد التي تمنح بلا استحقاق، وبدون رصيد تقدمي، ومعرفي، إنما الخيرية مرهونة بمستوى سيادة هذه الأمة وريادتها في شتى مجالات الحياة المعرفية والتطبيقية والإنتاجية، وباختصار خيرية هذه الأمة في أن تكون منتجة لا مستهلكة، مصدرة لا مستوردة، متبوعة لا تابعة، آمرة لا مأمورة](25).

وعلى هذه الخيرية المقرّر تحقيقها من قبل أبناء الأمة بل والناس جميعًا، تتصل أبدية الوحي في الدنيا بالمشهد الحسابي، الذي أنبئ به الناس آنفًا، فالحساب يوم القيامة ليس على أساس من أخذ من الناس فلسفة الحداثات الغربية وقيمها، بل الناس محاسبون على أخذهم بقيم الوحي وأخلاقه، أو عدم أخذهم به، ومن الجميل حقًّا أن الوحي نص على تلك الأسئلة التي ستلقى على الناس يوم القيامة رحمة بهم، وليستعدوا للإجابة عنها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وقد جاء في حديث ابن مسعود عن النبي (ص) قال: “لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم” (أخرجه الترمذي [2417]، والدرامي [537])، وتسأل الأمم يوم القيامة: ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾[سورة القصص، الآية 65]. وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾[سورة الكهف، الآية 49]، وقال تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾[سورة آل عمران، الآية 30]. إذن أعمال الناس في الدنيا محصية عليهم دون نقص أو زيادة، وإنهم سيجدون تلك الأعمال حاضرة في الكتاب، وهذا ما نقصده من اتصال بين الدنيا والآخرة في أبدية موصولة، غير أن أبدية القيم الربانية في الدنيا باعتبارها دار العمل، لينتقل هذا العمل ويتصل بيوم الحساب حيث تجد كل نفس ما عملت من خير أو ما عملت من سوء، ثم تأتي الأسئلة في يوم الحساب عن كل صغيرة وكبيرة وهي أسئلة كثيرة، ومنها ما ورد في حديث ابن مسعود آنفًا عن: العمر فيم أفنى وعن الشباب فيم أبلى، وعن المال مم اكتسب وفيم أنفق، وعن عمل الإنسان فيما علم، وكذلك الصلاة؛ إذ هي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة لقوله (ص): “إن أول ما يحاسب عليه العبد من عمله صلاته، فإن صحت قد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسـر” [حديث صحيح ثابت رواه الترمذي، والنسائي، وابن أبي شيبة والبيهقي على اختلاف يسير في الألفاظ عندهم]. والسؤال عن (علم الإنسان)، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[سورة الصف، الآيتان 2و 3]، والسؤال عن (العهود والمواثيق)، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[سورة الإسراء، الآية34]، والسؤال عن (النعيم)، قال تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾[سورة التكاثر، الآية 8] ويسأل عن (الدماء)، يقول النبي (ص): “أول ما يقضـي بين الناس الدماء” (حديث صحيح، أخرجه البخاري [6864] ، دون ذكر يوم القيامة وهو مروي عن عبد الله بن مسعود)، ويسأل عن (القرآن الكريم)، قال تعالى: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[سورة الزخرف، الآيتان 43 و 44]. ويسأل عن (الكفر والشـرك)، قال تعالى: ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ۗ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ﴾[سورة النحل، الآية 56]. تلك كانت أمثلة للأسئلة التي ستلقى على الناس جميعًا يوم القيامة، لتتحقق العدالة الإلهية، حينئذ يجد الناس تطابقًا تامًّا بين أفعالهم في الدنيا وما سجل في الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، ومن المؤكد أن التمايز والاختلاف بين (الحداثات الوضعية)، و(الحداثة الإسلامية) كثيرة ومتعددة ومتنوعة ومفارقة، إلا أنه يجدر بنا في هذا المجال ذكر أهم الفروق الجوهرية الفاصلة والحاسمة بينهما فيما يأتي:

أولًا: تعتمد الحداثات الوضعية – منها الغربية في عصـرنا الراهن – على قيم وضعية نفعية مادية يراعى فيها واضعها مصالح طبقية وتمييزًا عنصريًّا، بينما الحداثة الإسلامية الأبدية تعتمد على قيم قرآنية ربانية أوحاها الخالق سبحانه وتعالى لنبيه الكريم – في الذكر الحكيم موجهة للناس جميعًا دون تمييز لتحقيق مصالحهم في الدنيا ابتغاء الآخرة والجزاء يوم الحساب، فهي ربانية المصدر.

ثانيًا: تعتمد الحداثات الغربية على مبادئ وضعية تتغير وتتقلب وفق الحالة التاريخية للمجتمعات، وتقف وراء هذه المبادئ أفكار وتوجهات استعمارية تهيء الأسباب والدواعي للنهب والسلب وسحق الضعفاء، بينما الحداثة الإسلامية تعتمد على مبادئ ثابتة وراسخة في الوحي -قد تختفي أحيانًا أو تضعف في حياة الأمة، ولكنها لا تتغير ولا تتبدل فهي كامنة يتم إحياؤها متى آل الدور الحضاري إلى الأمة الإسلامية، وامتلاكها زمام القيادة العالمية.

ثالثًا: الحداثات الوضعية تعمل [للدنيا فقط] – بينما الحداثة الإسلامية تعمل للدنيا بوصفها معبرًا للآخرة وهي الغاية التي يتغياها المسلم.

رابعًا: لم تصمد قيم الحداثات الغربية طويلًا عبر تجربتها التاريخية، بل انقلبت هذه الحداثات على بعضها بعضًا وبيان فساد الكثير منها، بينما صمدت قيم الحداثة الإسلامية عبر تجربتها التاريخية الممتدة دون انقلاب أو تبديل أو نقد، ولم يرتكب باسمها تلك المجازر التي نتجت عن التطبيقات لمبادئ الحداثات الغربية الوصفية، ولم تستغل هذه المبادئ لنهب ثروات الشعوب واستعبادها، بل إبادتها كما فعلت مبادئ الحداثات الغربية.

خامسًا: إن الحداثة الإسلامية الأبدية، تجمع بين ما يحقق للإنسان الجانب الروحي وكذلك الجانب المادي في معادلة إلهية تتسم بالعدل المطلق.

ولهذا، نخلص مما سبق أن قيم ومبادئ الحداثة الإسلامية هي قيم ومبادئ أبدية بامتياز، ونرى الحق في الاصطلاح عليها باسم “الحداثة الأبدية”  EnternalModerism .

ومما لا شك فيه أن هناك فوارق أخرى بين تلك (الحداثة الأبدية)، (وغيرها من الحداثات الوضعية).

المصادر.

1 –  ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثاني، القاهرة، دار المعارف، الصفحة 796.

2 – د. آمال محمد عبد الغني، مجلة البحوث الفقهية والقانونية، مجلة علمية محكمة، كلية الشـريعة والقانون بدمنهور، الأزهر الشـريف، من دراستها (الصفحتان 14 ،15)، العدد رقم 41، إبريل، 2023م – 1444هـ.

3 – د. آمال محمد عبد الغني، المرجع السابق، الصفحة 16.

4 – مكتبة الصور  [المرجع الإلكتروني للمعلوماتية]. Almerja.net

5 Ar-en[https://www.almaany.com     

6 – من مقال للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي، منشور على مدونة الدكتور أمجد علي سعادة، بتصرف: 7https://amjads.wordpress.com  –

8 ar- en ^ https://www.almaany.com  –

9 – د. آمال محمد عبد الغني، مجلة البحوث الفقهية والقانونية، مجلة علمية محكمة، كلية الشريعة والقانون بدمنهور، الأزهر الشريف، من دراستها (الصفحتان 270- 271)، العدد رقم 41، أبريل 2023 م – 1444هـ بتصرف.

10 – د. نور سهيل مهدي، الحداثة وموقف الفكر الإسلامي منها، مجلة الجامعة العراقية، العدد 49، الصفحات2و 109و 110، بتصرف.

11 – د. نور سهيل مهدي، المرجع السابق، الصفحة 112. بتصرف.

12 – علي أسعد وطفة، مقاربات في مفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، كلية التربية، جامعة دمشق، مقال في نوفمبر 2001، الصفحة108، رابط المقال:https://www.researchgate.net

12 – علي أسعد وطفة، المرجع السابق، الصفحة 109.

13 – علي أسعد وطفة، المرجع السابق، الصفحة111.

154 – علي أسعد وطفة، المرجع السابق، الصفحة 114.

15  – د. جلول مقورة، جامعة من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، المسيلة، الجزائر، مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية، جامعة الشهيد حمة لخضر، الوادي، العدد 28، ديسمبر 2018، الصفحة 313.

16 – الباحثة مهجة مشهور، الحداثة – ما بعد الحداثة – بعد ما بعد الحداثة، دراسة مدير مركز خطوة للتوثيق والدراسات، وسكرتير مجلة المسلم المعاصر،https://www.khotwacenter.com

17 –  مهجة مشهور، المرجع السابق.

18 – مهجة مشهور، المرجع السابق.

19  – مهجة مشهور، المرجع السابق.

20 – مهجة مشهور، المرجع السابق.

21 – عبد الوهاب المسيري، العالم من منظور غربي، دار الشروق، الطبعة1، الصفحة 39.

22 – عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، الصفحة 50.

23 – عبد الوهاب المسيري، المرجع السابق، الصفحة55.

24 https://surhquan.com

25 News:https:gate.ahram.org.eg

الأستاذ محمد ناجي المنشاوي

الأستاذ محمد ناجي المنشاوي

باحث وأديب وناقد أدبي، موجه عام اللغة العربية في وزارة التربية والتعليم – مصر، له عدة مؤلفات منها: (الاستفراق – يوم العبد الرباني – دراسات نقدية لشعراء معاصرين).



المقالات المرتبطة

العودة إلى المِتافيزيقا

تتعاطى المِتافيزيقا مع المبادىء التأسيسيّة منطلقةً من الوجود كمسلّمة

النفس عند أرسطو (2)

نقل أرسطو مبحث النفس إلى مستوى آخر، يختلف عن أفلاطون بشكل جذري، حيث عمل على إخضاعه لرؤيته المنهجية، التي تنطلق من العالم الحسيّ باتجاه التجريد

الدين، العلم، المنهج إشكالية المصطلح

تتوقف مقاربة السؤال عن المنهج المؤهل للتعاطي مع الدين، على تحديد ثلاثة مصطلحات: الدين، العلم، المنهج.

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<