في أواخر القرن التاسع عشر، كانت محكمة الجنايات البريطانيّة مشغولةً بنظر أحد أكثر القضايا جدليّةً في التاريخ، وهي قضية “اليخت منيونيت – Mignonette” الذي غرق في جنوب المحيط الأطلسي أثناء رحلته من بريطانيا إلى أستراليا.
كان اليخت سيء الحظ يحمل على متنه أربعة رجال، ثلاثةٌ منهم يعدّون من الشخصيات المتميزة، والشخص الرابع كان غلام السفينة الخادم “باركر”، وهو غلام يتيم وغير متزوج، لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره. اضطر الأربعة إلى النجاة بأنفسهم باللجوء إلى قارب نجاة صغير بعد اصطدام اليخت بموجة عارمة، الخبر السيء أنّ قارب النجاة لم يكن مزودًا بشيء من الطعام سوى علبتين من السبانخ. اضطروا للصمود عن أكل السبانخ ثلاثة أيام، ثمّ تناولوا إحدى العُلبتين، وفي اليوم التالي لاح لهم شيء من الأمل حيثُ اصطادوا سلحفاة صغيرة وتناولوا معها علبة السبانخ الأخرى، وإذا كان صحيحًا أنّ السبانخ له فوائد في تقوية الإنسان فليس إلى درجة أن يبقى حيًّا في المحيط الأطلسي دون أي غذاء، فالذي حصل فعلًا، أنّهم لم يتناولوا شيئًا بعد ذلك لمدة ثمانية أيام، وفي اليوم التاسع وجدوا غلام السفينة “باركر” مستلقيًا ومنهكًا، إذ إنه لم يستمع إلى نصيحة بقيّة أفراد السفينة الذين نصحوه بعدم الشرب من ماء البحر، يبدو أنّ باركر يصارع أنفاسه الأخيرة!
للحظة تقدّم أحدهم بمقترح، وهو الاقتراع، لقد اعتقدوا في تلك اللحظة أنّه ينبغي لواحد منهم أن يكون كبش فداء ليبقى البقيّة أحياء، لكن هل يمكن أن يستسهل هذا الاقتراح على الصعيد الأخلاقي؟! فأي قرعة هذه التي تبيح لنا أن نطعن بشرًا بسكين لكي نشرب من دمه المسفوح ونأكل من لحمه لنحافظ على حياتنا؟ رفض أحد الثلاثة هذا المقترح بينما كان باركر مستلقيًا يصارع بين الحياة والوفاة بعيدًا عن أجواء النقاش.
في اليوم التالي، اقترح أحد الثلاثة النبلاء، أن يتم الإجهاز على باركر، متذرّعًا بأنّه يشارف على الموت واقعًا وفي الحال، وأنّ فقده مصيبة غير جسيمة، إذ ليس له أولاد أو زوجة أو أم تلتهب قلوبهم لفقده، خلافًا لكل واحد منهم، حيثُ إنّ فقده لا يساوي إتلاف حياة واحدة فحسب، لأنّ كل واحد منهم مسؤول عن حياة أسرة بأكملها ستضيع بذهابه، كما أنّ ترك قتله سيؤدي إلى نتيجة أكثر فظاعةً، ففقدان إنسان واحد وإن كان فظيعًا، لكنه ليس بفظاعة فقدان أربعة أفراد. قَبِل واحد منهم بهذا المقترح بينما امتنع الآخر، لكنه لم يعارض أو يمانع من ذلك، كما أنه شارك بعد إتمام المهمة بتناول ما بقي من لحم “باركر”!
وفي اليوم الرابع والعشرين عثرت سفينة ألمانيّة على الركاب الثلاثة ومعهم بعض من شحم ولحم ودماء باركر التي كانوا يتغذون عليها، وعند إحالة القضيّة للمحكمة، اشتعل جدال عام، لا زال صداه مستمرًّا إلى اليوم لدى كلّ من فلاسفة الأخلاق من جهة، وأساتذة كليات الحقوق والقانون من جهة أخرى.. فهل كان مبرّرًا أخلاقيًّا بالنسبة لطاقم السفينة أن يُجهزوا على باركر؟ وإذا كان فعلهم غير مبرّر من الناحية الأخلاقيّة، فهل يجب أن يحاسبوا الآن بتُهمة القتل فيُجرى عليهم حكم الإعدام؟
ومرد هذا الجدال، إلى أننا تارةً ما نُقيّم الفعل بما هو هو؛ أيْ الفعل في ذاته، ولا شك أننا عندما ننظر إلى فعل قتل باركر بهذا الأسلوب لن نتردد في إدانته أخلاقيًّا، ولكننا تارةً أخرى نقيّم الفعل بمنظار آخر، وهو بالنتيجة والثمرة المترتبة عليه، فإذا كان هذا هو المنظار الذي نطل به على الحدث، فلربما نستسيغ أو على الأقل نرى قتل باركر خيارًا أملته الضرورة، لحفظ ثلاثة نفوس يترتب على فقدها ضرر بليغ في قبال نفس واحدة لا يترتب على فقدها ضرر بليغ. ومهما كان فمرجع الحيرة، إلى أنّ السلوك الواحد، إذا كان يمثّل في ذاته طابعًا مناقضًا لما يمثله في نتيجته، فكيف ينبغي لنا تقييمه وتصنيفه من الناحية الأخلاقيّة؟
سأحاول ضرب مثال آخر لتقريب الفكرة، افترض أنك تقف في إحدى محطات القطارات السريعة تحت الأرض، وأنت تنظر إلى خمسة أشخاص وقفوا دون قصد في طريق سكة القطار، ولنفترض أنك كنت بالقرب من أحدهم بينما كان الأربعة الآخرون في نقطة بعيدة أمامكما، إنك تعلم في تلك اللحظة، أنك تتمكن من إنقاذ رجل واحد -الذي يقف قريبًا منك-، وتعلم أيضًا أنك لو تركت إنقاذ هذا الرجل فإنّ القطار سيتوقف بمجرد دهسه، وسينجو البقيّة، فأنت الآن مخيّر بين إنقاذ الرجل، أو تركه للدهس لحماية أربعة رجال.. – شخصيًّا سألت بعض أصدقائي عن ردة فعلهم في مثل هكذا موقف، معظمهم قالوا إنهم سيفضلون التضحية بشخص واحد على التضحية بأربعة أشخاص، وقد يبدو هذا منطقيًّا- لكن دعونا نغيّر تصوّر السيناريو، لنرى كيف يكون الموقف؟
لنفترض أنك تقف إلى جانب أحد الأشخاص في موقع سليم، في محطة القطارات، بينما تراقب في نهاية السكة أربعة أشخاص يقفون في موقع خاطئ، بحيث إنّ القطار متجه لدهسهم، لكنك تستطيع أن تُنقذهم عبر إلقاء الشخص الواقف إلى جانبك؛ إذ إنّ القطار بمجرد الاصطدام به سيتوقف عن الحركة، ماهو رأيك في هذه الفكرة؟… أظن أنّ إلقاء شخص للموت خطة غير سائغة لديك! وهذا يبدو كذلك منطقيًّا.
لكن، لاحظ لوهلةٍ معي، أننا في الموقف الأوّل استسغنا أن نمارس عملًا قبيحًا في ذاته -عدم إنقاذ شخص نتمكن من إنقاذه من الموت- لأجل تحصيل نتيجة وغاية أفضل وهي نجاة أربعة أشخاص، وفي الموقف الثاني لم نطبق نفس المعيار، فنحن لم نستسغ أن نقوم بعمل قبيح -إلقاء شخص في طريق السكة- لتحصيل الغاية الأفضل، فهل هذه إزدواجيّة؟[1].
الحقيقة أنّ هذه المواقف الافتراضيّة ما هي إلا أمثلة تقريبيّة لسؤال فلسفيّ شديد الإلحاح، وعظيم التأثير في الضمير والمجتمع والنظام البشريّ، وهو السؤال عن المعيار والمائز الدقيق الذي به نستطيع تصنيف الأفعال إلى أفعال أخلاقيّة وغير أخلاقيّة، فما هي كلمة السر في الأخلاقي وغير الأخلاقي؟ وكيف لنا أن نفك هذه الشيفرة التي تبتني عليها تفاعلاتنا وانفعالاتنا ومواقفنا اتجاه الأشياء؟
الحقيقة أنّ هذا السؤال هو حجر الأساس لما يُعرف الآن بعلم “فلسفة الأخلاق”، ولا أريد أن أخوض هنا في هذا المجال كثيرًا لأنه يخرج عن موضوع البحث، ولكنّ ما يعنيني فعلًا، هو أننا نتفق، مهما كان موقفنا أو خيارنا في كل حادثة من الحوادث المتقدمة، سواء قررنا قتل باركر أو الموت جميعًا، سواء أنقذنا المستغيث أم تركنا الأقدار تفعل ما تشاء، وسواء ألقينا بالشخص الواقف إلى جانبنا أم تركنا القطار يدهس الأربعة المتبقين، مهما كان خيارنا في تلك المواقف أو مواقف محيّرة أخرى، نحن نتفق أنّ هناك جانبًا واحدًا من المواقف يمثل، “الموقف الصحيح والموقف الأخلاقي”، وأننا يجب أن نبحث عن هذا الفعل أو ذاك، ونرجح بينهما لنتخذ موقفًا عمليًّا ينسجم مع المبادئ، ولا يخاطر بالنا للحظة أنّه لا فرق بين اتخاذنا لهذا الموقف أو ذاك، أو أنّ كلا الخيارين يمثلان موقفًا سليمًا وصحيحًا، ولو كان هذا الشعور يخاطرنا، لما تملّكتنا أيّ حيرة أو اضطراب كتلك التي تغمرنا أثناء التفكير في هذه الصور المتخيّلة، فضلًا عن معايشتها.
هذا يدلّ، بشكلٍ واضح، أننا نبحث عن شيء واقعي، له حقيقة موضوعيّة معينة، ونحن نريد من سلوكنا العملي أن يلامس ويطابق تلك الحقيقة الموضوعيّة ولا يتعداها، فالإنسان هو الكائن الذي يجد في نفسه مطالبة حثيثة لامتثال الموقف الأخلاقي، وهذا يدل أنّ الموقف الأخلاقي غاية بالنسبة للإنسان وليس منتجًا طبيعيًّا أفرزته تجاربه المتراكمة بخيرها وشرّها كما تروج مدرسة البراجماتيّة الأخلاقيّة، وبعبارة أخرى، إنّ وعينا بوجود موقف أخلاقي محدّد وواحد في كل قضية، وبحثنا عن تحديد ذلك الموقف بدقة وملائمة أفعالنا له، هو مؤشر ودليل سلس على وجود قانون حقيقيّ مقدسٍ يصنّف الأفعال البشريّة.
لأجل ذلك، نجد أنّ الذين يرتكبون أبشع الجرائم بحق البشر، وتكون جرائمهم واضحة، بحيث لا يمكن أن نحتمل فيها الحيرة أو الالتباس في الموقف اتجاهها، كجزار العصر “بنيامين النتن ياهو” مثلًا، نجد أنّ هؤلاء، رغم ارتكابهم لتلك الجرائم البشعة، إلا أنهم يحاولون إظهار أنفسهم أمام العالم الإنساني، بأنهم يقومون بأفعال أخلاقيّة، إن لم تكن من مكارم ومعالي الأخلاق! فما هو السر العجيب في ذلك؟ لماذا يا ترى، مجرمٌ ببجاحة نتن ياهو، لايجرؤ على التخلي عن إضفاء الطابع الأخلاقي على أفعاله؟
إنّ هذه الظاهرة تؤشّر لنا كم واضح أنّ البشريّة مؤسسة على قاعدة فطريّة مفادها ضرورة وجود قانون أخلاقي مقدس غير قابل للانتهاك، بحيث إنّ أعتى مجرمي التاريخ لم يجدوا بدًّا من التعامل مع هذه القاعدة كأمر واقعي، فأصبح أكثر الناس إجرامًا أكثرهم إلقاءً للمواعظ في الحريات والحقوق والقيم الإنسانية في منصات العالم الكبرى. وهكذا دواليْك…
ما يهمّنا أن نبحثه الآن بعيدًا عن هذا الاستغلال المقرف للمجرمين، هو: ما هي الدلالات الفلسفيّة لفكرة وجود قانون أخلاقي يندفع الإنسان لتطبيقه بالقواعد الفطريّة؟ وهل يمكن تصوّر وجود هكذا قانون إلا بوجود غائيّة معيّنة للحياة البشريّة؟ إنّ انسجام الإنسان وقاعدته الفطريّة مع القانون الأخلاقي ألا يحكي عن وجود صلة حقيقية للإنسان بجانب غير مادي من الحياة؟ وهذا الجانب غير المادي ألا يصل في نهاية الطريق إلى الله؟ إذ إنه يحكي عن كون الإنسان “مكلَّفًا” بنوع خاص من السلوك في مواقفه وانطلاقاته ونشاطه؟
السجال في البرهان الأخلاقي على وجود الله.
نسب الباحث الإيراني مصطفى ملكيان إطلاق مقولة البرهان الأخلاقي إلى الفيلسوف إيمانويل كانت[2]، وذلك يتناسق مع الفكرة الأصليّة لكانت في انتقاد فكرة الاعتماد المطلق على العقل، فمن قال إنّ العقل هو الكاشف الوحيد لجميع الحقائق؟ فثمّة جوانب – قلبيّة وسلوكيّة- تكشف للإنسان حقائق كليّة دون الحاجة لإرهاق عقلي[3]، ويبدو أنّ فولتير[4] كان يعبّر عن نفس هذا الاتجاه حين قال: “لو لم يكن هناك إله لخانتني زوجتي وسرقني خادمي”[5]؛ أي إنّ الإيمان بالله أساسًا يدفع الإنسان للالتزام الأخلاقي.
ولعلّ أهم من نظّر لفكرة القانون الأخلاقي هو الفيلسوف “سي أس لويس”، وذلك في محاضراته التي بثتها هيئة الإذاعة البريطانيّة خلال فترة الحرب العالميّة الأولى، والتي تناولت الإيمان المسيحي، وأخرجت فيما بعد تحت عنوان: “المسيحيّة المجرّدة”، وفي هذا الكتاب يصرّح سي أس لويس من واقع المعاناة أنّ المصلحة أو الغريزة أو العرف البشري لا يمكن أن يكون معيارًا لتمييز السلوك الأخلاقي عن غيره، ولا بدّ من وجود فيْصلٍ كلّي متعالٍ عن الذات الإنسانيّة، لأنّ الذات الإنسانيّة تعيش من التناقض ما لا يجعلها تستقرّ على أي أساس موحّد، وبالتالي لن يكون هناك أي معنى للحديث عن النظام الأخلاقي: (إذا كان ممكنًا أن تكون مفاهيمك الخلقية أصح، ومفاهيم النازيين الخلقية أقل صحة، فلا بدّ من وجود شيء ما، نظام خلقي من نوع ما، حتى تقارن صحتهما به. فالسبب الذي من أجله يمكن أن تكون فكرتك عن نيويورك أصح أو أقل صحة من فكرتي عنها إنما هو وجود نيويورك في مكان فعلي، قائمة بمعزل عما يفكر فيه كلانا تمامًا)[6].
وبهذه الطريقة، يعتبر سي أس لويس أنّ البرهان الأخلاقي يعرّف الله بصورة أدق من المعرفة الإجماليّة التي يعرّفها بها برهان النظم والتصميم الذكي، لأنّ البرهان الأخلاقي لا يكشف لنا فقط عن وجود الله أو بعض صفاته، وإنما يكشف لنا عن النظام والسلوك الذي يحبه الله ويرشد إليه: (فأنت تستنتج عن الله من القانون الخلقي أكثر مما تستنتجه عنه من الكون عمومًا، تمامًا كما تكتشف عن إنسان ما بالإصغاء إلى حديثه أكثر ما تكتشفه عنه بالنظر إلى بيت بناه. والآن، من هذه البيّنة نستنتج أن الكائن في ما وراء الكون معني على نحو شديد بالسلوك الصائب: بالعدل والإنصاف واللاأنانية والشجاعة والأمانة والاستقامة والصدق. ومن هذه الناحية، ينبغي لنا أن نقبل التوصيف الذي تفيدنا به المسيحية وبعض الأديان الأخرى من أن الله صالح)[7].
مراوغات دوكنز.
من الواضح أنّ الطريق للاعتقاد بوجود حقيقةٍ غير ماديّة مع الالتزام بالإلحاد مسدود، وبذلك تنهار كامل النظريّة الأخلاقيّة ولا يعود لها أساس، ولذلك يقع الكتّاب والمفكرون الملاحدة في إحراج شديد من السؤال الأخلاقي؛ إذ ليس جميعهم يملك جرأة الاعتراف المبتذلة التي يملكها دوكنز، حيثُ يصرّح في حواراته أنه من الصعب -إلحاديًّا- إدانة هتلر[8]، وأنّه لا يوجد أساس واضح لاعتبار الاغتصاب سلوكًا إجراميًّا[9].
يعود دوكنز في موارد أخرى، ليحاول أن يفرّغ الإيمان بالله من القيمة الأخلاقيّة، كما هو الحال بالنسبة للإلحاد؛ إذ يقول في كتابه “وهم الإله”: (لماذا أكون صالحًا إن لم يكن هناك إله؟ إنّ طرح السؤال بتلك الطريقة يبدو دنيئًا. وعندما يطرحه إنسان متدين بهذا الشكل – والعديد منهم يفعل ذلك- تغمرني رغبة ملحة بالتحدّي التالي: هل تعني أن تقول لي بأن السبب الوحيد الذي تحاول لأجله أن تكون صالحًا هو لتحصل على رضا الله ومكافأته، أو لتفادي غضبه وعقوبته؟ هذا ليس أخلاقيًّا، بل هذا نفاق وتلميع للمظاهر فقط… لو وافقت على إنك في غياب الله سوف تسرق وتغتصب وتقتل، فإنك شخص لا أخلاقي، وعلينا فعلًا أن نحتاط منك. وعلى الطرف الآخر لو وافقت أن تستمر في كونك صالحًا حتى بدون وجودك تحت مراقبة السماء، فإنك تقوض زعمك بأن الله ضروري لنكون صالحين)[10].
ولكنّ دوكنز وقع في مغالطة كبيرة من حيث لا يشعُر -نقول إنه لا يشعر من باب إحسان الظنّ- إذ إنّ وجه الاستدلال في البرهان الأخلاقي ليس هو الدافع الذي يحرّك الإنسان المؤمن للالتزام بالفضائل وترك الرذائل، بل هو تفسيرٌ لنفس وجود القيم الأخلاقيّة في حد نفسها، إذ إنّه مع تعذر إيجاد أساس لتصنيف الأفعال إلى أخلاقيّة وغير أخلاقيّة لا يمكن أصلًا البحث عن الدوافع المحرّكة لكليهما.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن بيان ضعف هذه المراوغة من قبل دوكنز، بأنها قائمة على فهم حدّي غير عميق لطريقة عمل الدين في المجتمعات البشريّة، فالذي يحرّك البشر نحو التزاماتهم الدينيّة – ومنها الالتزامات ذات الطبيعة الأخلاقيّة – ليس في الغالب محبّة الثواب أو مخافة العقاب، بل الشيء الذي يحرّكهم عادةً ويجعلهم نحو التزاماتهم الدينيّة في انطلاق وحماسة، هو محبتهم لهذا الدين ونموذجه وتفاعلهم معه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّـهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّـهُ﴾.
بل إننا لو افترضنا أنّ هناك مساحة في المجتمع الديني تتحرّك نحو التزاماتها لنيل الثواب والأجر صرفًا، ومن دون ملاحظة لتفاعلهم القلبي واندماجهم في أجواء الدين، فإنّ ذلك لا يضرّ بالمطلوب من الاستدلال بالبرهان الأخلاقي، لأنّ هذه الرتبة المنخفضة من صلة الإنسان بالتزاماته الدينيّة لا تحصل له إلا بعد قيام معيار واحد وأساس صلب يميز به بين الأفعال والمواقف النبيلة من غيرها، وهو اعتقاده بوجود نظام هندسي أودعه الله تعالى في النفوس البشريّة ليدرك ذلك ويتحرّك نحوه، وبهذا التصوّر سيكون الإيمان الديني معزّزًا للقيم الأخلاقيّة، وهو التوصيف الذي لا يحبه دوكنز للإيمان.
يكمن خطأ دوكنز في الخلط بين مفردتي “الأسباب”، و”الآثار”، فالمؤمن لا يؤمن بأنّ الصدقة عمل طيب لأنّ فيها ثواب، أو أنّ الظلم عمل قبيح لأنّ فيه عقاب في الآخرة، بل هو يؤمن بذلك بصورة مستقلّة عن النظر في الثواب والعقاب، وإيمانه هذا يفتح له نافذة على اكتشاف حقائق كليّة في الكون أهمها وجود الله، لأنّ وجود تقسيم للأفعال البشريّة لا يمكن أن يستند إلا إلى أن الله هندس في النفوس البشريّة نظامًا مدركًا ومحرّكًا نحو الخير، ومنقبضًا عن الشر. تلك النافذة التي يصدّ عنها الملحد ولا يطيقها لأنه ينكر وجود الله من الأصل. أمّا مفردتا الثواب والعقاب فالمؤمن يتلقاهما على كونهما نداءات من القيم الدينية لتحفيز وإحياء فطرة الله المكدودة أساسًا في البشر، أي إنهما من المفردات التي يعمل بهما الدين على إطلاق وتحفيز حركة المجتمعات في الإطار الصحيح.
استطراد متصل بالموضوع.
في إطار البحث عن العلاقة الثنائيّة بين الإيمان والأخلاق، تلوح لنا إشكالية رئيسية تثار بإزاء هذه العلاقة، وهذه الإشكالية وإن كان موقعها يقع خارج الغرض الأساس من بحثنا هنا، إلا أنني أجد الإشارة إليها متممةً للموضوع، لدفع الالتباس. تنطلق هذه الإشكاليّة من فكرة أنّ التجربة الاجتماعيّة للمؤمنين تكذّب وجود علاقة حقيقية بين الإيمان، وبين السلوك الأخلاقي، فإذا كان الإيمان هو المؤسس للحركة الأخلاقيّة فلماذا نجد أنّ الغش والفساد الإداري والاستبداد ينتشر أكثر في المجتمعات البشريّة التي يظهر الدين كمظهر أساسي لهويّتها، بينما نجد كثيرًا من المجتمعات البشريّة التي تعيش بعيدًا عن الحالة الدينيّة في حياتها تعيش واقعًا أفضل على مستوى الأمانة والنزاهة وتقديم الخدمات للإنسان، ومن هنا حاول بعض المفكرين إحلال الإنسان محلّ الله كأساس ومعيار للسلوك الأخلاقي، وهذا ما أصبح دارجًا في تعبيراتنا المعاصرة، فنحن نصف السلوك النبيل بأنه “سلوك أو فعل إنساني”، وعادةً ما نقرأ هذه السلوكات بمنظار أنها أفعال إنسانيّة مجرّدة لا تتصل بأي رابطة بين الإنسان والله، أو أي إلهام من الله للإنسان.
ولنا مع هذه الإثارة وقفة من وجوه:
الوجه الأول: أنّ البرهان الأخلاقي لم يقل أنّ الإيمان بالله هو الذي يحرّك الأخلاق عند الإنسان -بصورة مطلقة- بل البرهان الأخلاقي يقول: إنّ وجود الله هو الفكرة الوحيدة التي يمكن أن نفهم بها الأخلاق التي نجد في أنفسنا اندفاعًا فطريًّا لها، والفرق بين الإيمان بالله، ووجود الله، واضح، فالإيمان مسألة تقع في نطاق اختيار الفرد وقناعاته، فهو يمكن أن يؤمن، ويمكن أن يكون ملحدًا باختياره، لكن كون الله موجودًا أو غير موجود هو مسألة واقعيّة خارجيّة خارج نطاق اختيار الإنسان، فالله إذا كان موجودًا فهو كذلك وإن لم يؤمن به الإنسان، وإذا لم يكن موجودًا فهو غير موجود وإن آمن به الإنسان، فالبرهان الأخلاقي لا يجعل الإيمان بالله أساسًا سببيًّا لكون الفعل الأخلاقي كذلك، خصوصًا مع نظريّة الحسن والقبح العقليين للأفعال التي يعتقد بها الإماميّة مع المعتزلة – يعبّر عنهم في أدبيات علم الكلام: العدْليّة- والتي تعني أنّ الأفعال الحسنة والقبيحة هي كذلك في ذاتها وواقعها وليس أنها أصبحت حسنة لأن الشرع أمر بها، أو قبيحة لأنّ الشرع نهى عنها، إنما يقول البرهان الأخلاقي أنّ وجود هذا النظام الأخلاقي، وهذا الإلحاح للالتزام به في ضمائرنا وإن كان ينطلق من منطلقات فطريّة سابقة لأي إيمان دينيّ، إلا أنه يكشفُ لنا عن وجود مصدر حقيقيّ هندس الإنسان وصمّمه وفق هذا الإحساس والإدراك، وهو الله تعالى.
الوجه الثاني: أنّ الامتثال السلوكي للقيم الأخلاقيّة لدى المجتمعات هو بحث أخلاقي اجتماعي، أمّا أصل تفسير أو تحليل مائز بين الأفعال الأخلاقيّة وغير الأخلاقيّة هو بحث أخلاقي فلسفي، فإذا فرضنا أنّ هناك جماعة من المؤمنين بالله لا ينتهجون الأخلاق في حياتهم، فليس معنى ذلك أنّ تفسير الأخلاق من خلال الله ونظامه المودع في الإنسان تفسيرًا خاطئًا، لأنّ الخلل قد لا يكون في التفسير، وإنما في التجربة البشريّة في التفاعل معه، وكذا العكس، فانتهاج الإنسان لقيمة معينة في حياته لا يعني بشكل دقيق أنّ الفلسفة التي ينتمي إليها تعزز تلك القيمة، لأنّه قد يكون توهّم أنّ تلك الفلسفة تعززها، بينما هي في الواقع تناقضها أو تضادّها، ولذلك أعتقد أنّ البحث الفلسفي أدق في هذا الحقل من البحث الاجتماعي؛ إذ إنه يعطي تحليلًا دقيقًا لنفس الفكرة، وليس كذلك الأمر في البحث الاجتماعي الذي تحضر في ثناياه تناقضات مختلفة وظروف مانعة وخاصّة تجعل محور الدراسة هم البشر أنفسهم وليس الفكرة.
هذا من حيث الأصل، وإن كان لنا كلام طويل في التطبيقات، فمن قال: إنّ ما تعيشه المجتمعات غير الدينية يمكن تسميته بأنه نظام “أخلاقي متطوّر”، إذ يحق لنا أن نسأل: هل الأخلاقيّات في تجربة الإنسان الغربي مقصودة بذاتها ولكونها قيم مطلقة؟ أم أن مقصود التجربة الإنسانيّة هناك هو فرض السيطرة والسطوة وتحقيق المنافع وذلك لا يتحقق إلا ضمن إطار معيّن من السلوك، خصوصًا في الجوانب الإداريّة والخَدَميّة؟ ولذلك نجد أنّ التجربة الإنسانيّة هناك لا ترى أيّ بأس في تجاوز القيم الأخلاقيّة العليا متى ما لم تكن مؤدية لمزيد من السطوة والمنفعة الخاصة بها، فليس هناك اعتداد لنظام أخلاقي قيَمي إنّما الاعتداد للسطوة التي تفرض أحيانًا نمطًا من السلوك الجيّد، ولأجل ذلك نرى هذه التجربة – المنفصلة عن الهويّة الدينيّة – مستعدّةً لتجاوز جميع الأخلاقيّات الصالحة، بل والتنظير لتجاوزها متى استدعت السطوة والمنفعة، خذ مثالًا تبرير أدولڤ هتلر لأعماله النازيّة بالنظريّة الداروينيّة، فمقتضى نظرية داروين أنّ البشر ليسوا سواسية كأسنان المشط، وإنما البشر لهم سلّم تطوري وهناك أجناس راقية وأخرى دانية، وهذا كله يمكن ملاحظته وإثباته بيولوجيًّا، ولأجل ذلك ينبغي تحديد الأجناس البشريّة الراقية والدانية، ويجب أن تكون حقوق الإنسان في الذي هو أعلى درجات السلم التطوري أعلى من ذلك الإنسان القابع في أدنى درجاته، فالثاني إما أن يكون خاضعًا للأول أو يُقضى عليه.
على الصعيد الفلسفي نظّر نيتشه في كتابه “الإنسان والسوبرمان” لذلك، فالأخلاق الدينيّة التي تحتوي كمًّا كبيرًا من التنازلات كالإيثار، ووجوب مساعدة الضعيف، والعطف على المسكين، والمساواة بين الناس المختلفين في الإنتاج ليست سوى خديعة لإقناع النفس بالعجز، ولتبقى للكنيسة مصالحها من خلال إلهاء الناس بهذه الفضائل المصطنعة، بينما الفضيلة الوحيدة للإنسان هي أن يكون قويًّا، أما ذلك الإنسان الضعيف فهو الذي تنازل بضعفه وفشله في تحقيق الفضيلة “القوة” عن جميع استحقاقاته، فالبقاء دائمًا للأقوى.
ولربما نجد أنّ الواقع المنفصل عن الحالة الدينيّة يعيش فعلًا هذه الثنائيّة، فهو أخلاقي طالما كانت الأخلاق وسيلةً لتحقيق السطوة والسيطرة، وهو غير أخلاقي متى ما استدعت سيطرته أن لا يكون أخلاقيًّا، فالنظم السياسيّة الغربيّة التي تركّز على أخلاقيّات عامّة في مجتمعاتها كالنزاهة والأمانة وخدمة الإنسان، هي نفسها النظم السياسيّة التي تسارع وتهرع لاستعمار الشعوب الأخرى وسرقة ثرواتها ودعم المحتلين الغاصبين لأرضها، فهي في الحقيقة لا تنطلق للمبادئ الأخلاقيّة -عندما تنطلق لها- لأنها تعيش حالة التفاعل مع هذه المبادئ، بل لأن تلك المبادئ أحيانًا تساعدها في تحقيق غايتها الحقيقيّة والجوهريّة وهي السطوة، وهذا الاعتداد بالقدرة والتمكّن، بل والتقدّم الظاهري ليس على الإطلاق معيارًا لتقييم السلوك الإنساني أخلاقيًّا، بل حتى فرعون كان يتباهى بكونه قويًّا ومتطوّرًا: ﴿وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ؟ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي.. أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾.
الوجه الثالث: أنّ الالتزام الأخلاقي الموجود في المجتمعات المنفصلة عن الدين في بعض الموارد المتفرّقة، يمكن أن يحكي كون الدوافع الأخلاقيّة دوافع فطريّة، فوجود الله تعالى يمكن أن يكون قضيّة مغروسة في أعماق فطرة الإنسان، بحيث إنه يرتب آثارها، وإن لم يذعن لها، أو يلتفت لواقعيّتها، وهذا يظهر في التعبيرات الشائكة التي يقدّمونها بديلةً عن الله، فالملحد أو غيره عندما يقول: إنّ “الإنسانيّة” هي المعيار بين السلوك الأخلاقي وغير الأخلاقي فهو في الحقيقة لم يقم سوى بتغيير لفظي، فهل هذه “الإنسانيّة” مفهوم مادي أم غيبي؟! فمثلًا عندما يرتكب أخ علاقة محرّمة بأخته أو أمه، ويكون ذلك بتراضٍ منهم، فأين هو انتهاك الإنسانيّة؟! – تعمّدت أن آتي بمثال فظيع للفت الانتباه إلى خطورة الفكرة – فالواقع إذن، أنّ “الإنسانيّة” هي استعارة للتعبير عن مفهوم غير مادي، يراد جعله معيارًا بين الخير والشر، وهذا المعيار لا يمكن أن يكون صحيحًا وفق النسق الفكري للملحد، فهو إنسان لا يؤمن بوجود عالم الغيبيّات، فكيف له بعد ذلك أن يتفنن هنا في اختراع مفهوم غيبي غامض كهذا، والحقيقة أنّ هذه ليست سوى لعبة لفظيّة لأنّ الضرورة ألجأت إليها بعد عدم وجود تفسير حقيقي مادي للأخلاق، وليس اختراع مفردة “الإنسانيّة” في الحقيقة إلا تغيير لفظي، لأننا متى ما آمنّا بالغيب فليس هناك في نهاية المطاف إلا الإيمان بالله.
لأجل ذلك، تبنّى بعض المفكرين، أنّ بعض الأخلاقيّات التي تصدر من الملحدين تحكي في الحقيقة عن وجود إيمان في أعماقهم الشخصيّة، وجذورهم الحضاريّة، وعادات شعوبهم القديمة التي كانت مؤمنة، ونسجت حياتها وأعرافها بمقتضيات الإيمان، فكلّ ذلك يؤثر في عمق الإنسان الملحد، فيؤثر الدين على الإنسان الملحد في العمق وإن كان قد تخلّى هو عن الدين في الشكل والسطح، والسبب في اعتقادنا بذلك بسيط، وهو أنّ انهيار مفهوم الله ومفهوم الغيب يؤدي بالضرورة لانهيار أي فرق بين العمل الأخلاقي وغير الأخلاقي، فهو يُعدم لديه أساس الفكرة فضلًا عن تطبيقها، كتب علي عزت بيجوفيتش: (يوجد ملحدون على أخلاق، ولكن لا يوجد إلحاد أخلاقي. والسبب هو أن أخلاقيات اللاديني ترجع في مصدرها إلى الدين.. دين ظهر في الماضي ثم اختفى في عالم النسيان، ولكنه ترك بصماته قوية على الأشياء المحيطة، تؤثر وتشع من خلال الأسرة والأدب والأفلام والطرز المعمارية… إلخ. لقد غربت الشمس حقًّا، ولكن الدفء الذي يشع في جوف الليل مصدره شمس النهار السابق)[11].
[1] جميع الأمثلة المتقدمة مستقاة من مجموعة محاضرات عامّة ألقاها البروفيسور مايكل ساندل في جامعة هارفارد تحت عنوان: (مساق العدالة)، يمكن مراجعتها مترجمةً إلى العربيّة عبر رابط اليوتيوب:
[2] مصطفى ملكيان، البراهين على إثبات وجود الله، ترجمة: حسن علي مطر، لبنان، دار الروافد، الصفحة 427.
[3] العرفاء في الوسط الشيعي يسمّون ذلك بالمكاشفات، والبحث هنا طويل ليس هذا محلّه.
[4] من المهم الإشارة إلى أنّ فولتير كان ملحدًا، لكنّه كان يقرّ بالدور الاستثنائي للإيمان في تأسيس الالتزام الأخلاقي للبشر، ولذلك يتمنّى أن تكون زوجته مؤمنة لا ملحدة وهكذا خادمه.
[5] ويل ديوارنت، قصة الحضارة، بيروت، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ودار الجيل للطبع والنشر والتوزيع، دار الجيل، الجزء 38، الصفحة 214.
[6] سي أس لويس، المسيحية المجرّدة، ترجمة: سعيد باز، الأردن، أوفير للطباعة والنشر، 2006، الصفحة 28.
[7] المصدر نفسه، الصفحة 42.
[8] ” https://byfaithonline.com/richard-dawkins-the-atheist-evangelist. “
[9] ” https://www.bethinking.org/atheism/the-john-lennox-richard-dawkins-debate. “
[10] ريتشارد دوكنز، وهم الإله، ترجمة: بسام البغدادي، الطبعة العربية الثانية، الصفحة 227.
[11] علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، المترجم: محمد يوسف عدس، بيروت، مؤسسة العلم الحديث، 1414، الصفحة 209.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
