مقدمة: الشعائر الحسينية – من المأساة إلى الظاهرة.
تحتل واقعة كربلاء موقعًا محوريًّا في الوجدان الشيعي، ليس بوصفها حدثًا تاريخيًّا قد مضى، بل باعتبارها “نموذجًا كربلائيًّا Karbala paradigm” يمثل صراعًا أبديًّا ومستمرًّا بين الحق والباطل، والعدل والظلم. من هنا، تنبع الإشكالية الرئيسية التي تسعى هذه المقالة إلى تفكيكها: كيف تحولت ذكرى تاريخية مؤلمة، وقعت في عام 61 للهجرة، إلى منظومة ثقافية وفقهية وسياسية بالغة التعقيد، قادرة على تشكيل الهويات الفردية والجماعية، وتعبئة الجماهير، ورسم ملامح المستقبل السياسي لمجتمعات ودول بأكملها؟ إن الشعائر المرتبطة بهذه الذكرى، بكل ما تحمله من بكاء ولطم ومواكب عزاء، ليست مجرد طقوس للحداد، بل هي ظاهرة اجتماعية ودينية حية، تتطور وتتكيف مع سياقاتها التاريخية والسياسية.
للإجابة على هذه الإشكالية، تتبنى هذه المقالة منهجًا متعدد التخصّصات (Interdisciplinary)، يدمج بين التحليل الفقهي النصي الذي يغوص في أعماق الأدلة الشرعية، والسرد التاريخي التطوري الذي يتتبع مسار الشعائر عبر العصور، والمقاربة الأنثروبولوجية الثقافية التي تحلل دورها في بناء الذاكرة والهوية، وصولًا إلى التحليل السياسي الذي يستشرف آفاقها المستقبلية. يهدف هذا المنهج المتكامل إلى تقديم قراءة شاملة وعميقة لهذه الظاهرة، تتجاوز التوصيف السطحي إلى فهم آلياتها الداخلية وتأثيراتها العميقة في العالم الإسلامي المعاصر.
الفصل الأول: التأصيل الفقهي للشعائر – بين النص والتطبيق.
إن فهم الأبعاد العميقة للشعائر الحسينية يبدأ من قاعدتها التأسيسية: الشرعية الفقهية. فالممارسة الطقسية، لكي تكتسب ديمومتها وقداستها، لا بدّ أن تستند إلى منظومة من الأدلة التي تبرّر وجودها وتحدّد أطرها. هذا الفصل يغوص في النصوص الفقهية، مقارنًا بين المذاهب، ومحلّلًا للأدلة المؤيدة والمعارضة، لكشف كيف بنى الفقه الشيعي شرعية هذه الشعائر، وكيف تفاعل مع الجدل المثار حولها.
المبحث الأول: شرعية الحزن والبكاء في الإسلام (قراءة مقارنة).
قبل الخوض في خصوصية الشعائر الحسينية، لا بدّ من تأصيل ممارسة الحزن والبكاء على الميت في الإطار الإسلامي العام، لإثبات أنها ليست ممارسة مستحدثة أو خاصة بمذهب دون آخر.
أدلة الجواز من المصادر الشيعية.
يستند الفقه الشيعي في جواز البكاء على الميت إلى أدلة متعددة ومتضافرة، كما فصّلها السيد (جعفر علم الهدى) في “المباحث الحسينية”، ويمكن إجمالها في أربعة محاور رئيسية:
- الأصل الشرعي (أصالة الحلية): القاعدة الفقهية تقول: “كلّ شيءٍ لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه”، والبكاء، كفعل إنساني طبيعي، مباح بالأصل ما لم يرد دليل قطعي على تحريمه.
- الإجماع: يُعد جواز البكاء على الميت من المسلّمات الفقهية والعملية عند فقهاء الشيعة، مما يشكل إجماعًا على جوازه.
- سيرة المتشرعة: وهي السيرة العملية للمسلمين الملتزمين بتعاليم الدين على مر العصور، والتي جرت على البكاء على موتاهم دون نكير من الأئمة، وهي بمثابة إجماع عملي يكشف عن رأي المعصوم.
- الروايات المتواترة (وهي العمدة): وهي الدليل الأقوى، حيث وردت روايات كثيرة تبلغ حد التواتر، قولًا وفعلًا وتقريرًا، تجيز البكاء بل وتستحبه. ومن أبرز هذه الروايات:
- بكاء السيدة فاطمة الزهراء (ع) على قبر أبيها رسول الله (ص)، وإمضاء الإمام علي (ع) لذلك.
- بكاء النبي (ص) على ولده إبراهيم، وقوله المشهور الذي أصبح قاعدة في فقه الحزن: “تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون”.
- بكاء النبي (ص) الشديد عند وصول خبر استشهاد جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة، حيث “كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جدًّا”.
- إقرار النبي (ص) لأهل المدينة بالبكاء والنوح على شهداء أُحد، بل وحثه على البكاء على عمه حمزة بن عبد المطلب عندما قال: “لكنّ حمزة لا بواكي له”، فآلى أهل المدينة أن يبدأوا بالبكاء على حمزة قبل موتاهم، فكان ذلك تقريرًا منه لهذه السنّة.
مناقشة الأدلة المعارضة في التراث السني.
في المقابل، يستند القائلون بحرمة البكاء أو كراهته في التراث السني بشكل أساسي إلى رواية تُنسب إلى عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، ومفادها أن النبي (ص) قال: “إن الميت ليعذب في قبره بما نيح عليه”. وقد تم تفنيد هذه الرواية والتشكيك في دلالتها من وجوه متعددة، كما فصّلها البحث الفقهي المقارن:
- ضعف السند: الرواية ليست متواترة، بل تنتهي جل طرقها إلى عمر وابنه، مما يثير تساؤلًا حول سبب عدم نقل الصحابة الآخرين لمثل هذا الحكم الهام والمبتلى به.
- تأويل المعنى: يمكن حمل “العذاب” على التألم النفسي للميت لحزن أهله وبكائهم عليه، وليس على العذاب العقابي، وهو ما يتناسب مع الرحمة والشفقة.
- التخصيص بحالة الوصية: قد يكون الحكم خاصًّا بمن كان يوصي في الجاهلية بالنياحة عليه، فيكون العذاب على وصيته لا على فعل أهله.
- المخالفة الصريحة للقرآن: الرواية بظاهرها تصطدم مع المبدأ القرآني الأساسي ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ [سورة الأنعام، الآية 164]، فكيف يُعاقب الميت بفعل لم يرتكبه؟
- شهادة السيدة عائشة: وهي من أهم الأدلة المعارضة، حيث ردّت على ابن عمر بخصوص هذه الرواية قائلة: “يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب ولكنه أخطأ أو نسي”، موضحة أن النبي (ص) مرّ على قبر يهودية وأهلها يبكون عليها فقال: “إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها”، ففهم ابن عمر من ذلك قاعدة عامة وهي لم تكن كذلك.
- تناقض سلوك الراوي: ثبت أن عمر بن الخطاب نفسه بكى على أخيه زيد بن الخطاب، وعلى النعمان بن مقرن، بل وأمر نساء بني المغيرة بالبكاء على خالد بن الوليد، مما يتعارض مع الرواية التي يرويها.
- معارضة السنة النبوية الفعلية: الرواية تتعارض مع عشرات الأحاديث الصحيحة التي تثبت بكاء النبي (ص) على موتاه، وتقريره لبكاء الآخرين، ونهيه لعمر عن ضرب النساء الباكيات.
إن هذا التحليل الفقهي المفصل لا يمثل مجرد نقاش قانوني، بل هو عملية “تحصين هوياتي”؛ فالخصوم يستهدفون شرعية الشعائر لضرب الممارسة التي تشكل العمود الفقري للهوية الشيعية. والرد الفقهي الدقيق، الذي يتتبع الأسانيد ويفندها ويقدم أدلة بديلة من مصادر الفريقين، هو في جوهره دفاع عن “حق الوجود” لهذه الطقوس. فالفقه هنا ليس مجرد أحكام، بل هو سلاح معرفي يستخدم لترسيم الحدود وتأكيد الشرعية وحماية الذاكرة الجماعية.
فقه النياحة واللطم والجزع.
إذا كان البكاء جائزًا، فماذا عن أشكال التعبير الأكثر حدة؟
- النياحة (الندبة): وهي البكاء المصحوب بتعداد فضائل الميت. يستدل على جوازها بروايات منها قول الإمام الصادق (ع) حين سُئل عن أجر النائحة: “لا بأس به، قد نيح على رسول الله (ص)”. وكذلك وصية الإمام الباقر (ع) بأن يُندب له في المواسم عشر سنين. ويُحمل النهي الوارد في بعض الروايات على النياحة بالباطل أو المصحوبة بالكذب والسخط على قضاء الله.
- اللطم والخدش وجز الشعر: وقع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل. فالمشهور ذهب إلى الحرمة استنادًا إلى روايات ناهية مثل: “ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب”. ولكن فقهاء آخرين، كالسيد الخوئي، ذهبوا إلى جوازها لضعف أسانيد الروايات الناهية، أو لحملها على الكراهة الشديدة، أو على حالة الجزع التي تعبر عن عدم الرضا بقضاء الله، وهو أمر منتفٍ في الجزع على الإمام الحسين (ع) الذي هو تعبير عن الموالاة والحب.
المبحث الثاني: فقه الشعائر الحسينية الخاصة.
تنتقل الشعائر الحسينية من حكم الجواز العام إلى حكم خاص مرتبط بمركزية شخصية الإمام الحسين (ع) في الفكر الشيعي، مما يثير نقاشات فقهية أكثر تخصّصًا.
من الاستحباب إلى الوجوب الكفائي.
لا تقف النظرة الفقهية الشيعية عند حد الاستحباب الفردي لإقامة الشعائر، بل ترتقي بها إلى مرتبة أعلى. يُنظر إلى إقامة مجالس العزاء والمواكب الحسينية على أنها من أبرز مصاديق تعظيم شعائر الله، التي ورد فيها قوله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [سورة الحج، الآية 32]؛ هذا التعظيم ليس مجرد فعل عاطفي، بل هو واجب لحفظ أصل المذهب ورسالته من الاندثار والتحريف. من هذا المنطلق، يرى بعض الفقهاء أن إقامتها تصبح واجبًا كفائيًّا على المجتمع، إذا توقف حفظ ذكرى عاشوراء ورسالتها على هذه الممارسات. وتدعم هذا التوجه روايات مثل “أحيوا أمرنا”، و”من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب”، التي تربط هذه المجالس بحياة القلوب وبقاء “الأمر”، أي خط أهل البيت ورسالتهم.
فقه الممارسات الجدلية (التطبير والزناجيل).
تعتبر ممارسات مثل التطبير (إسالة الدم من الرأس)، وضرب الزناجيل (السلاسل) من أكثر القضايا إثارة للجدل داخل الفقه الشيعي نفسه. النقاش هنا لا يدور حول أصل الحزن، بل حول أشكال التعبير عنه. ويمكن تلخيص المواقف الفقهية المختلفة في الجدول التالي:
الممارسة الشعائرية | رأي آية الله الخوئي (كممثل للمدرسة التقليدية) | رأي آية الله السيستاني (كممثل لمرجعية النجف الحالية) | رأي الإمام الخامنئي (كممثل لولاية الفقيه وحوزة قم) | رأي الشيخ الفياض (كمثال آخر من النجف) | التعليل/الملاحظات الرئيسية |
التطبير (إسالة الدم) | يرى فيه إشكالًا إذا أدى إلى ضرر معتد به أو وهن للمذهب. | يحرم إذا أدى إلى ضرر بليغ بالنفس، أو أدى إلى توهين الدين أو المذهب في نظر العرف العام. | حرام بشكل قاطع، ويعتبره بدعة ووهنًا على المذهب. | جائز بشرط أن لا يؤدي إلى ضرر معتد به6. | الاستناد إلى قاعدة “لا ضرر”، ومفهوم “وهن المذهب”، ورواية ضرب السيدة زينب رأسها بالمحمل (التي يناقش في سندها ودلالتها). |
ضرب الزناجيل | جائز ما لم يؤد إلى ضرر معتد به. | جائز ما لم يؤد إلى ضرر بليغ أو توهين. | جائز في حد ذاته، لكن ينبغي تجنب الممارسات التي تسبب وهن المذهب في نظر الآخرين. | جائز بشرط عدم الضرر المعتد به6. | ينطبق عليه نفس أدلة التطبير مع اختلاف في درجة الضرر المحتمل، ويعتبر أقل إثارة للجدل من التطبير. |
المشي على الجمر | ليس من الشعائر. | ليس من الشعائر وينبغي تجنبه لما فيه من الخطر وعدم وجود دليل عليه. | ليس من الشعائر. | ليس من الشعائر الحسينية6. | الإجماع على عدم وجود أي أصل شرعي أو تاريخي له في سيرة أهل البيت (ع) أو أصحابهم. |
إن هذا الجدل يكشف عن خلاف في تشخيص المصداق داخل التشيع بين التقليد والحداثة. فمفهوم “وهن المذهب” هو مفهوم اجتماعي يعتمد على نظرة “الآخر”. وإدخال هذا المفهوم في الفقه يعني أن الفتوى لم تعد تعتمد فقط على النص، بل على الأثر الاجتماعي والسياسي للفعل في سياق عالمي. وهذا يمثل تحولًا من فقه يهتم بـ “صحة” الفعل في ذاته، إلى فقه يهتم بـ “صورة” الفعل وتأثيرها، وهو ما يعكس قلقًا حداثيًّا حول كيفية تقديم الذات على المسرح العالمي، ويربط الفقه مباشرة بالأنثروبولوجيا السياسية.
الفصل الثاني: السردية التاريخية – تطور الشعائر عبر العصور.
لم تظهر الشعائر الحسينية بصورتها الحالية دفعة واحدة، بل مرت بتطور تاريخي طويل، تشكلت فيه ملامحها وتغيرت أشكالها استجابة للظروف السياسية والاجتماعية. إن تتبع هذا المسار يكشف عن علاقة جدلية مباشرة بين ممارسة الشعائر والسلطة السياسية القائمة.
المبحث الأول: الجذور الأولى في عصر النص (القرن الأول الهجري).
الإرهاصات النبوية.
لم يبدأ الحزن على الإمام الحسين (ع) بعد استشهاده، بل قبله بسنوات طويلة. فالروايات في المصادر الشيعية والسنية على حد سواء تذكر إخبار جبريل (ع) للنبي (ص) بمقتل سبطه في أرض كربلاء. وتفصّل هذه الروايات بكاء النبي (ص) الشديد، وتقبيله للحسين (ع)، وحفظه لقبضة من تراب كربلاء أحضرها له جبريل. هذا التأسيس النبوي المسبق يمنح المأساة بعدًا غيبيًّا وميتافيزيقيًّا، ويجعل الحزن عليها جزءًا من الإرث النبوي نفسه، وليس مجرد رد فعل على حدث تاريخي.
مرحلة الأئمة: الحداد في ظل القمع.
بعد واقعة كربلاء، وخلال العهدين الأموي والعباسي، دخلت الشعائر مرحلة “الكمون”. فقد مارست السلطات الأموية، ومن بعدها العباسية في كثير من الفترات، أقصى درجات القمع ضد كل من يظهر الحزن على الحسين (ع) أو يحيي ذكراه. هذا الاضطهاد أجبر الأئمة (ع) وشيعتهم على ممارسة الشعائر بشكل سري وفي نطاق ضيق جدًّا، داخل البيوت وبعيدًا عن أعين السلطة. كانت هذه المرحلة هي مرحلة حفظ الذاكرة ونقلها، حيث كان الشعر هو الوسيلة الإعلامية الأبرز لرثاء الحسين (ع) وتخليد مأساته، وكان الأئمة يشجعون الشعراء مثل دعبل الخزاعي، والكميت الأسدي على ذلك، ويعقدون لهم المجالس الخاصة. لقد كانت فترة التأسيس للرواية الشفهية التي ستحمل تفاصيل المأساة للأجيال القادمة.
المبحث الثاني: التحول إلى ظاهرة عامة (من القرن الرابع إلى القرن العاشر الهجري).
العصر البويهي (القرن الرابع الهجري).
تعتبر هذه الفترة نقطة تحول مفصلية في تاريخ الشعائر الحسينية. ففي عام 352هـ (963م)، وفي خطوة غير مسبوقة، أمر السلطان البويهي الشيعي، معز الدولة، في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، بإقامة مراسم العزاء بشكل علني ورسمي في يوم عاشوراء. شمل ذلك إغلاق الأسواق، وتعليق السواد، وخروج الناس في مواكب عزاء حاسري الرؤوس، يلطمون صدورهم ويبكون في الشوارع. هذا الحدث يمثل لحظة انتقال الشعائر من “الفضاء الخاص” إلى “الفضاء العام”، ومن التعبير الفردي السري إلى الطقس الجماعي المنظم والمدعوم من السلطة. لقد تحولت الذاكرة من شيء يُسمع ويُقرأ إلى شيء يُعاش ويُمارس جماعيًّا، مما زاد من قدرتها على التغلغل في الوعي الجمعي وتشكيل الهوية بشكل أعمق وأكثر ديمومة.
العصر الصفوي (القرن العاشر الهجري فصاعدًا).
إذا كان البويهيون قد أخرجوا الشعائر إلى العلن، فإن الدولة الصفوية في إيران هي التي حولتها إلى أداة أيديولوجية ومؤسسة دولة. مع إعلان المذهب الشيعي مذهبًا رسميًّا للدولة، استخدم الصفويون الشعائر الحسينية بشكل مكثف لترسيخ الهوية الشيعية في مواجهة الدولة العثمانية السنية. في هذه الفترة، تطورت أشكال جديدة من الشعائر واكتسبت زخمًا كبيرًا، وأبرزها “التشبيه”، أو “التعزية”، وهي مسرحيات دينية شعبية تجسد واقعة كربلاء، وقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الإيرانية والعراقية. كما تم تشجيع بناء الحسينيات (التكايا)، وتنظيم مواكب اللطم والزنجيل على نطاق واسع، مما أدى إلى تجذير هذه الممارسات في النسيج الاجتماعي والثقافي.
المبحث الثالث: الشعائر في العصر الحديث (من القرن التاسع عشر إلى اليوم).
فترات المد والجزر.
شهد العصر الحديث تقلبات كبيرة في ممارسة الشعائر، عاكسةً التغيرات السياسية. ففي ظل الحكم العثماني، تعرضت الشعائر في العراق للقمع مجددًا، مما اضطر الناس إلى إقامتها سرًّا مرة أخرى. ثم جاء الغزو الوهابي لكربلاء عام 1802م، والذي لم يكتفِ بالمنع، بل قام بتدمير ضريح الإمام الحسين (ع) وقتل الآلاف، في محاولة لمحو الذاكرة من جذورها المادية والرمزية. بعد ذلك، وفي ظل الانفراج النسبي الذي تلا ضعف السلطة العثمانية، ثم الاحتلال البريطاني، عادت الشعائر للظهور بقوة، وشهدت هذه الفترة تطورًا تنظيميًّا مهمًّا، حيث نشأت مواكب اللطم المنظمة بشكلها الحديث، وتم تأسيس أولى الحسينيات في الكاظمية وكربلاء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
الشعائر ما بعد 2003 في العراق.
شكّل سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003، الذي كان يقمع الشعائر بقسوة، لحظة “انفجار شعائري” هائل. لم تعد الشعائر مجرد ممارسة دينية، بل أصبحت تعبيرًا قويًّا عن الهوية المستعادة، واستعراضًا للقوة الديموغرافية والسياسية الجديدة للشيعة في العراق. شهدت هذه الفترة تطورًا كبيرًا في حجم وأشكال الشعائر، كمسيرات الأربعين المليونية، وانتشار المواكب الخدمية على الطرق، مما حولها إلى ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية فريدة من نوعها.
إن هذا المسار التاريخي يوضح أن الشعائر ليست طقوسًا جامدة، بل هي ممارسة اجتماعية مرنة، تتشكل وتتكيف، تتوسع وتتقلص، استجابةً لديناميكيات القوة والصراع في المجتمع. فهي مرآة تعكس حال الجماعة الشيعية، من القمع والكمون إلى الظهور والقوة.
الفصل الثالث: الأنثروبولوجيا الثقافية للشعائر – بناء الهوية والذاكرة.
تتجاوز الشعائر الحسينية كونها مجرد ممارسات فقهية أو أحداث تاريخية؛ فهي في جوهرها ظاهرة ثقافية معقدة تعمل على بناء وتشكيل الهوية الفردية والجماعية، وصياغة الذاكرة، وتوجيه السلوك الاجتماعي. هذا الفصل يحلل هذه الأبعاد باستخدام أدوات الأنثروبولوجيا الثقافية.
المبحث الأول: الشعائر كـ “مواقع للذاكرة” (Lieux de Mémoire).
لفهم كيف تحافظ الشعائر على ديمومتها عبر القرون، يمكن الاستعانة بالمفاهيم الأنثروبولوجية للذاكرة.
- الذاكرة الجماعية: طبقًا لمفهوم “الذاكرة الجماعية” الذي صاغه عالم الاجتماع (موريس هالبواكس)، فإن الذاكرة ليست مجرد عملية استرجاع فردية للماضي، بل هي بناء اجتماعي مستمر، وبهذه النظرة تكون الشعائر الحسينية هي الآلية الرئيسية التي من خلالها تبني الجماعة الشيعية ذاكرتها المشتركة حول كربلاء، وتتوارثها، وتؤكد على أهميتها لوجودها كجماعة.
- تجسيد الذاكرة: يقدم المؤرخ الفرنسي (بيير نورا) مفهوم “مواقع الذاكرة” (Lieux de Mémoire)، وهي أماكن أو أشياء مادية ورمزية “ترتكز” عليها الذاكرة الجماعية لحمايتها من النسيان. في السياق الحسيني، تعمل المجالس، والمواكب، والأعلام السوداء، واللطم، والبكاء، وحتى الأطعمة الخاصة التي توزع في هذه المناسبات، كـ “مواقع ذاكرة” حية. وعلى حد تعبير نورا، تعمل على “توقف الزمن، وتمنع عمل النسيان، وتجسد ما هو غير مادي”؛ فكل لطمة على الصدر، وكل دمعة، وكل خطوة في مسيرة الأربعين، هي فعل مادي يرسخ الذاكرة غير المادية لكربلاء في جسد ووعي المشارك.
- الهوية في الشتات: تكتسب هذه الشعائر أهمية مضاعفة في مجتمعات الشتات (الدياسبورا). ففي بيئة ثقافية غريبة، تصبح المجالس الحسينية هي الفضاء الآمن الذي يعيد إنتاج الهوية، ويبني الروابط الاجتماعية، وينقل القيم للأجيال الجديدة التي قد تكون منفصلة عن وطنها الأصلي. وتعمل هذه الطقوس على خلق “مجتمع من التعاطف” يساعد أفراده على مواجهة الشعور بالغربة والتهميش.
إن الذاكرة التي تنتجها الشعائر ليست مجرد أرشيف سلبي للماضي، بل هي فعل حاضر ومستمر وموجه نحو المستقبل. فالطقوس لا تستدعي الماضي كقصة منتهية، بل كنموذج (paradigm) حيوي لتفسير الحاضر. فيصبح كل ظالم في الحاضر هو “يزيد العصر”، وكل ثائر من أجل العدل هو “حسين العصر”. هذا يجعل الذاكرة أداة تحليلية وسياسية نشطة، تؤطر الحاضر وتلهم الفعل المستقبلي.
المبحث الثاني: صياغة الشخصية الاستشهادية وتفنيد “أمة البكاء”.
من أهم الاتهامات التي توجه إلى الشيعة هي أنهم “أمة بكاء ولطم”، وأن شعائرهم هي مجرد طقوس للحزن السلبي واليأس. هذا التوصيف يختزل ظاهرة معقدة في بُعد واحد، ويتجاهل الأثر التحويلي لهذه الشعائر؛ ففي المنظور الشيعي، البكاء ليس غاية في حد ذاته، بل هو “بوابة” للدخول في الحالة الوجدانية الكربلائية. إنه تعبير عن الحب والولاء لأهل البيت، وهو الحالة العاطفية التي تهيء الفرد لتقبل واستيعاب الرسالة الأعمق لكربلاء: رسالة العزة، ورفض الظلم، والتضحية من أجل المبدأ. فالحزن هنا لا يولد اليأس، بل يولد طاقة ثورية ودافعًا للتغيير.
إن جوهر الثقافة الحسينية هو “فلسفة الشهادة”. فالإمام الحسين (ع) لا يُنظر إليه كضحية سلبية قُتلت رغمًا عنها، بل كـ “سيد الشهداء” الذي اختار الموت بوعي وإرادة كاملة كوسيلة لإحياء الدين والحفاظ على المبادئ في وجه الانحراف، الشعائر تعيد إنتاج هذه الفلسفة سنويًّا، وتقدم الشهادة ليس كنهاية مأساوية، بل كأعلى درجات الحياة والانتصار الروحي. هذا التحويل للموت إلى فعل حياة وانتصار هو ما يصوغ “الشخصية الاستشهادية” التي ترى في التضحية بالنفس من أجل قضية عادلة ذروة الوجود الإنساني.
بناءً على ما سبق، فإن وصف “أمة البكاء” هو وصف سطحي ومغرض. فالشعائر هي “مدرسة للتربية والتضحية والعطاء”، وليست مجرد ندب سلبي. البكاء هو الخطوة الأولى في مسار تربوي طويل يهدف إلى غرس قيم الشجاعة والإيثار والعدالة. إنها ثقافة تحول الهزيمة العسكرية الظاهرية إلى انتصار أخلاقي أبدي، وتحول الحزن إلى قوة دافعة للعمل.
المبحث الثالث: الوظائف الاجتماعية والنفسية للشعائر.
بعيدًا عن الأبعاد الفقهية والسياسية، تؤدي الشعائر الحسينية وظائف اجتماعية ونفسية حيوية للمجتمع الذي يمارسها:
- التطهير النفسي والتوازن: توفر الشعائر “فعلًا جمعيًّا يهدف إلى توجيه المشاعر الإنسانية في مسار إيجابي”؛ فالبكاء الجماعي واللطم يوفران متنفسًا (catharsis) للمشاعر المكبوتة من الحزن والغضب، مما يساهم في تحقيق حالة من التوازن النفسي والصحة النفسية للمشاركين.
- مدرسة الأخلاق: تعتبر هذه المراسم “مدارس للأخلاق الحميدة”، حيث تُمارس وتُعزز قيم العطاء، والسخاء، والتواضع، والتضحية، ورعاية اليتيم، والأخذ بيد الضعيف. فمواكب الخدمة التي تقدم الطعام والشراب مجانًا لملايين الزوار في مسيرة الأربعين هي تجسيد عملي لهذه القيم.
- كسر الحواجز الاجتماعية: في رحاب المجالس والمواكب الحسينية، تتلاشى الفوارق الاجتماعية. يجلس الغني بجانب الفقير، والمتعلم بجانب الأمي، والمسؤول بجانب المواطن العادي، يجمعهم هدف واحد وشعار واحد هو “حب الحسين”. هذا يخلق شعورًا قويًّا بالمساواة واللحمة الاجتماعية، ويعزز التكافل المجتمعي.
- المعرفة المتجسدة: تؤكد الشعائر على مركزية “الجسد” في التجربة الدينية. فالمعرفة لا تُكتسب فقط عبر العقل والنص، بل عبر التجربة الجسدية الحسية. المشاركة الجسدية في الطقس (اللطم، المشي، البكاء) تخلق “معرفة متجسدة” (embodied knowledge) أعمق وأكثر تأثيرًا من المعرفة النظرية. هذا يفسر قوة الشعائر في تشكيل الهوية؛ فهي لا تخاطب العقول فقط، بل الأجساد والمشاعر، مما يجعل تأثيرها شاملًا ودائمًا.
الفصل الرابع: الاستشراف السياسي – من كربلاء إلى الجغرافيا السياسية المعاصرة.
لا يمكن فهم الحاضر السياسي لجزء كبير من العالم الإسلامي، ولا استشراف مستقبله، دون فهم التأثير العميق للثقافة الحسينية على الفكر والفعل السياسيين. لقد تحولت سردية كربلاء من ذاكرة تاريخية إلى محرك أيديولوجي يشكل سياسات دول وحركات عابرة للحدود.
المبحث الأول: الثقافة الحسينية وتأثيرها على الفكر السياسي.
- نموذج الثورة والمعارضة: تاريخيًّا، قدّمت سردية كربلاء نموذجًا للثورة على “الحاكم الجائر” ورفض شرعيته. هذا خلق نزعة معارضة متجذرة في الفكر السياسي الشيعي، حيث يُنظر إلى السلطة السياسية القائمة بعين الشك والحذر، ويتم قياس شرعيتها بمدى عدالتها وقربها من المبادئ التي استشهد من أجلها الإمام الحسين (ع).
- من المعارضة إلى الدولة (ولاية الفقيه): مثلت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تحولًا جذريًّا في توظيف هذه الثقافة. فقد نجح الإمام الخميني في تحويل الطاقة الثورية العاشورائية من مجرد أداة للمعارضة إلى وقود لبناء دولة ثورية. يمكن فهم نظرية “ولاية الفقيه” كاجتهاد سياسي يهدف إلى ملء الفراغ القيادي ومنع تكرار مأساة غياب القيادة الشرعية التي أدت، من المنظور الشيعي، إلى واقعة كربلاء. وبذلك، تم توظيف ثقافة الشهادة ليس فقط لمواجهة الشاه، بل أيضًا لتعبئة الجماهير خلال الحرب الإيرانية-العراقية.
المبحث الثاني: الشعائر كأداة للتعبئة والهوية السياسية العابرة للحدود.
- الرموز العاشورائية في الصراعات المعاصرة: تُستخدم الشعارات والصور الكربلائية بشكل مكثف في الصراعات الحديثة. ففي الحرب الإيرانية-العراقية، كان شعار “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء” هو المحرك الأيديولوجي للمقاتلين، كذلك، يوظف حزب الله في لبنان هذه السردية لتأطير صراعه مع إسرائيل، وكذلك فعلت فصائل الحشد الشعبي في العراق في حربها ضد تنظيم “داعش”.
- ظهور “مدافعي الحرم”: تمثل ظاهرة “مدافعي الحرم” التي برزت خلال الأزمة السورية، أحدث تجلٍّ للشخصية الاستشهادية المتأثرة بكربلاء، حيث تم ربط الدفاع عن المراقد الشيعية في سوريا، وخصوصًا مرقد السيدة زينب (ع)، بالدفاع عن نهج الحسين (ع) ومعسكره، مما خلق دافعًا أيديولوجيًّا قويًّا للتجنيد والتضحية، وجذب متطوعين من مختلف أنحاء العالم الشيعي.
- “الهلال الشيعي” والسياسة الإقليمية: يمكن فهم مفهوم “الهلال الشيعي” المثير للجدل، ليس بالضرورة كخطة إيرانية توسعية، بل كنتيجة طبيعية لبروز هويات سياسية شيعية قوية في المنطقة (العراق، لبنان، سوريا) بعد عقود من التهميش. هذه الهويات تجد في الثقافة الحسينية والثورة الإيرانية مرجعية رمزية وأيديولوجية مشتركة، مما يخلق شبكة من التحالفات مع حركات غير دولتية (non-state actors) تعيد تشكيل موازين المشهد الإقليمي.
خاتمة: خلاصة واستنتاجات.
يتضح من خلال هذا التحليل متعدد الأبعاد أن الشعائر الحسينية أبعد ما تكون عن كونها مجرد طقوس حداد بسيطة أو تعبيرًا عن حزن سلبي. إنها ظاهرة ديناميكية حية، ذات جذور فقهية راسخة في صلب التراث الإسلامي، ومسار تاريخي معقد يعكس علاقتها الجدلية بالسلطة، ووظائف أنثروبولوجية عميقة في بناء الذاكرة وتشكيل الهوية.
لقد تحولت مأساة كربلاء، عبر آلية الشعائر، من حدث في الماضي إلى طاقة متجددة في الحاضر. هذه الطاقة هي التي تصوغ “الشخصية الاستشهادية” التي لا ترى في الموت نهاية بل بداية، وتغذي ثقافة المقاومة ورفض الظلم. وهي التي ترد على وصف “أمة البكاء” بالتأكيد على أن الدموع هي وقود لثورة أخلاقية وسلوكية تهدف إلى إحياء قيم العدل والتضحية. وفي المستوى السياسي، أصبحت هذه الثقافة محرّكًا جيوسياسيًّا يعيد تشكيل التحالفات وموازين القوى في غرب آسيا. فالشعائر الحسينية ليست مجرد ذكرى، بل هي مشروع مستمر لصناعة المعنى والهوية والمستقبل.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.