في ذاكرة الإنسانية مشاهد لا يمكن انتزاعها من جوهر الوعي الجمعي، لأنها لحظات ولدت من رحم التحدي الإلهي للأرضي، وبرزت كنقطة تحوّل في معادلة الصراع بين الحق والباطل. ومن بين هذه اللحظات، تبرز عاشوراء كحدث لا يُقرأ بمنطق التاريخ فقط، بل بعين الفلسفة ونبض الوجود. إنها ليست معركة انتهت في كربلاء، بل فلسفة امتدت في الزمن، ونمط حياة تجاوز حدود الطقوس ليبلغ عمق الهوية.

كربلاء بوصفها لحظة فلسفية وجودية… عندما نتأمل في كربلاء، لا نجد معركة سياسية بحتة، بل نلمح أسئلة فلسفية جذرية: هل يُمكن للإنسان أن يختار الموت الواعي على الحياة الذليلة؟ ما معنى الكرامة إذا لم تكن مشفوعة بالدم؟ كان الحسين (ع) لا يسعى إلى النصر العسكري، بل إلى خلق وعي خالد. في كتاب “فلسفة الثورة الحسينية” للدكتور علي شريعتي، يشرح الكاتب أن “الحسين لم يُقتل، بل صرخ صرخة ما زالت تهزّ الضمائر، لأنه اختار الوعي بدل الانتصار”. (شريعتي، ص 112).

الحسين (ع) بذلك، جعل من نفسه “موضوعًا فلسفيًّا حيًّا” يعيد صياغة مفاهيم الإنسان، الإرادة، المصير، والموقف. إن كربلاء تمثل في أحد أبعادها “العبور من الحياة العادية إلى الحياة الأصيلة”، حسب تعبير هايدغر، ولكن بصبغة إسلامية تنقل الأصالة من التأمل المجرد إلى الفعل الملحمي.

النمط الحسيني… التجسيد الأعلى للفعل الإنساني: النمط الحسيني ليس شعارًا يُرفع، بل برنامج سلوك يبدأ من الرفض. الرفض عند الحسين (ع) لم يكن انفعالًا، بل وعيًا وتخطيطًا. إننا هنا أمام إنسان يفكر في شكل موته، ويخطط للكيفية التي تُفهم بها رسالته بعد قرون. من خلال خطبه ورسائله، يتبين أن الحسين (ع) أراد أن يكون مشروع حياة ضد الانسحاق والاستسلام. وكما يقول المفكّر محمد باقر الصدر في موسوعته “فدك في التاريخ”: فإن الحسين “أراد أن ينقذ الدين من صورة التدين الكاذب، لا بمجرد الخطاب، بل بالتضحية”. (الصدر، ص 165).

إذن، فالنمط الحسيني هو السير في الحياة بوحي من ميتة واعية، تجعل للكرامة ثمنًا، وللموقف جذورًا في الضمير. بهذا المعنى، فإن اتباع الحسين (ع) لا يعني فقط لبس السواد، بل اتخاذ موقف وجودي دائم.

عاشوراء كصرخة ضد النمط الاستهلاكي للدين… في عصور ما بعد الحداثة، حوّلت المنظومات الرأسمالية الدين إلى سلعة، فأصبح التدين قالبًا شكليًّا بلا عمق. وهنا تُطرح عاشوراء كصرخة فلسفية ضد هذا “الاختزال السوقي” للمعنى. لم يكن الحسين (ع) داعيةَ طقوس، بل مُجددًا للوعي، وكربلاء كانت مسرحًا لكسر أنماط التدين المعلّبة. تقول الدكتورة أمل شلبي في كتابها “الرمزية في ثورات الأديان”: إن “كربلاء هدمت الصورة التجارية للتقوى، لتعيد للدين معناه الوجودي”. (شلبي، ص 203).

وهذا ما يفسر لماذا كان الحسين (ع) يصرّ على مواجهة الإعلام الأموي، لا الجيوش فقط، لأنه يعلم أن الكارثة الحقيقية تكمن في تزوير الوعي لا في عدد الرماح.

الحسين والزمان المفتوح… بين الموت الآني والخلود التاريخي: من خصائص الفعل الحسيني أنه اختار الزمان المناسب. لقد كان بإمكان الحسين (ع) أن يؤجل الثورة، لكنه أدرك أن هناك “لحظة زمانية مثلى”، يسميها المفكر الفرنسي بول ريكور بـ”اللحظة المنيرة”، التي تتجاوز الزمن العادي وتصبح قادرة على التأثير المستدام. اختار الحسين (ع) هذه اللحظة بعين بصيرته، لا بحدس سياسي، ولذلك تجاوز الحسين (ع) الزمان السياسي ودخل الزمان الفلسفي… الزمان الذي يُصنع فيه المعنى لا الحدث فقط.

وهكذا بقيت كربلاء، لأنها لم تكن حادثة، بل حكاية رمزية، تؤسس لمنطق البدائل الكبرى، وتفتح أفقًا لكل إنسان يشعر بالاختناق من الواقع المهين.

الحسين والحريةمن المفهوم الأخلاقي إلى المفهوم الكياني: الحرية في المشروع الحسيني ليست شعارًا غربيًّا، بل حاجة كيانية. لقد دعا الحسين (ع) خصومه إلى الحرية، وهو في قمة التهديد بالموت. خاطب جيش عبيد الله بن زياد بقوله: “إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم”. (مقتل الحسين، لأبي مخنف، ص 155). هذا النداء يعبّر عن جوهر رؤية الحسين (ع) للحرية، باعتبارها خيارًا إنسانيًّا لا يُعطى، بل يُنتزع.

بذلك فإن الحرية عند الحسين (ع) ليست مطلبًا سياسيًّا، بل مسارًا أنطولوجيًّا، أي هي طريقة في أن تكون إنسانًا لا مجرد تابع.

الحسين والمرأة… ثورة في خطاب المشاركة: فتحت عاشوراء أفقًا جديدًا لفهم دور المرأة في المشاريع التغييرية. لم تكن زينب بنت علي (ع) فقط “الناجية من المجزرة”، بل كانت المؤسس الحقيقي لما بعد عاشوراء. لقد احتلت الخطابة الزينبية موقع التأريخ والوعي، وكسرت الجدران التي حوّلت المرأة إلى كائن ثانوي. تقول الباحثة سناء البياتي في دراستها “المرأة والثورة في الذاكرة الإسلامية”: “زينب أعادت تعريف معنى المقاومة النسائية، وأثبتت أن الثورة لا تكتمل بلا صوت الأنثى”. (البياتي، ص 89).

وهذا يضيف بعدًا جندريًّا لفلسفة عاشوراء، يُظهر أنها لا تُقصي أحدًا من مشروع التحرر.

الاستشهاد كفلسفة، لا كحالة عاطفية… لم يكن الدم في كربلاء ناتجًا عن ضعف، بل عن اختيار واعٍ. يميز المفكّر مالك بن نبي بين “الدم الغريزي”، و”الدم الفلسفي”، ويضع الحسين (ع) في قمة الفئة الثانية. فالموت عنده كان خيارًا عقلانيًّا، يُحدث انقلابًا في مفاهيم النصر والخسارة. ولذلك يقول الباحث الإيراني محسن كديور في كتابه “الإصلاح الديني في الفكر الشيعي”: “الحسين حوّل الشهادة من أداة إلى رسالة، ومن حالة إلى عقلانية”. (كديور، ص 211).

بهذا المعنى فإن الشهادة ليست انتحارًا، بل تَجلٍّ للمعنى، واختراق للحواجز الوجودية التي تفرضها السلطة على الضمير.

كربلاء والذاكرة… إعادة إنتاج الوعي الجمعي، إن الذاكرة الجمعية هي الميدان الذي تتصارع فيه السرديات، وتُنتج فيه الهويات. وكربلاء كانت، وما تزال، المعمل الأشد حضورًا في تشكيل الوعي الجمعي للشيعة خصوصًا، والمسلمين عمومًا. إنها ليست فقط تذكارًا، بل تذوقًا، تُستعاد فيها اللحظة لكي يُعاد ترتيب الحاضر.

وفي كتاب “الهوية والدم” للباحث اللبناني علي حرب، نجد تحليلًا دقيقًا لدور عاشوراء في تكوين الهوية الجمعية، حيث يرى أن “كربلاء ليست فقط سردية ظلم، بل سردية تأسيس للمقاومة كهوية”. (حرب، ص 76).

عاشوراء والتديّن النقدي… لقد مثّلت كربلاء قطيعة مع التدين الرسمي الذي صنعته السلطة، وبهذا فإن فلسفة عاشوراء تحرّض على تدين نقدي، يُفكك التحالف بين الفقه والاستبداد، ويؤسس لإسلام يقف مع المظلوم لا مع السلطان. ولذلك قال الإمام الخميني (قده): “كل ما لدينا من عاشوراء”، إشارة إلى أن هذه اللحظة كانت الشرارة التي استندت إليها الثورات الإسلامية الحديثة في كسر صنمية الفقه السلطاني.

الحسين وما بعد الحداثة… قراءة معاصرة، في عصر ما بعد الحداثة، حيث تتفكك القيم، وتختلط السرديات، تظهر الحاجة إلى مرجعية رمزية تؤسس للمعنى وسط الفوضى. تقدم كربلاء نموذجًا لـ”السردية الكبرى” التي ترفض النسبية الأخلاقية، وتؤمن بأن هناك حقًّا وباطلًا يمكن تمييزهما ولو سالت الدماء. هذا البعد يعطي عاشوراء صفة “ما بعد حداثية” أيضًا، كونها تقدم رؤية مستقلة للهوية، تقف ضد السطحية والعبث.

كربلاء ليست حكاية ماتت… بل هي مرآة لمن أراد أن يحيا: إن الذي لا يرى في عاشوراء إلا مشهد دم، يفوته أنها فلسفة حياة. لقد أهدانا الحسين (ع) صيغة جديدة للإنسان، لا يُعرف فيها بالمصلحة، بل بالموقف، ولا يعلو فيها بالصوت، بل بالصدق، ولا يثبت فيها بالنصر، بل بالصبر.

إننا لا نحتاج إلى مزيد من البكاء، بل إلى وعي يجعل من كل لحظة كربلاء، ومن كل فعل حسينًا. فالحسين لم يمت، بل نحن من نحتاج أن نولد فيه.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

Leave A Comment

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.