الفلسفة والرجاء (دراسة تحليلية)

توضيح لمفهوم “الفلسفة” ومفهوم “الرجاء”.
تعود “الفلسفة” في جذورها الاشتقاقية إلى الكلمات اليونانية القديمة التي تعني “محبة الحكمة”، و”الحكمة” هنا تمثل دراسة منهجية للأسئلة العامة والأساسية المتعلقة بالوجود، والعقل، والمعرفة، والقيمة، واللغة. وتتميز الفلسفة بوصفها استقصاء عقلاني ونقدي، مصحوب بتأمل انعكاسي في مناهجها وافتراضاتها الأساسية. وقد شملت الفروع الرئيسة للفلسفة علم الوجود (الأنطولوجيا)، ونظرية المعرفة (الأبستمولوجيا)، والقيم (الأكسيولوجيا). ويدرس علم الوجود طبيعة الواقع والوجود، وتبحث نظرية المعرفة في طبيعة المعرفة وكيفية اكتسابها، في حين أن مبحث القيم الذي يضم الأخلاق والجمال والمنطق، إذ نجد أن الأخلاق تستكشف المبادئ الأخلاقية والسلوك الصحيح، والمنطق يُعنى بدراسة التفكير الصحيح، وهناك مجالات فرعية أخرى للفلسفة مثل فلسفة اللغة، وفلسفة العقل، وفلسفة الدين، وفلسفة العلم، وفلسفة التاريخ، والفلسفة السياسية؛ مما يدل على اتساع نطاق الاستفسار الفلسفي. وتعتمد المنهجية الفلسفية على مجموعة متنوعة من الأساليب، بما في ذلك التحليل المفاهيمي، والاعتماد على الحس السليم والحدس، واستعمال التجارب الفكرية، وتحليل اللغة الاعتيادية، ووصف التجربة، والتساؤل النقدي.
وعند الانتقال إلى مفردة “الرجاء” نجد أنها تمثل حالة ذهنية متفائلة تستند إلى توقع نتائج إيجابية فيما يتعلق بالأحداث والظروف في حياة الفرد أو العالم ككل. وعند تصفح بعض القواميس الأجنبية مثل قاموس “أكسفورد”، نجد أن “الرجاء” يمثل الرغبة والبحث عن خير مستقبلي مع التسليم بأنه صعب المنال ولكنه ليس مستحيلًا، في حين أن قاموس “كامبريدج”، يصف “الرجاء” بأنه الرغبة في حدوث شيء ما مع وجود سبب وجيه للاعتقاد بإمكانية حدوث ذلك، ويصفه أيضًا بأنه شعور بالثقة بشأن الأحداث المستقبلية، أما قاموس “ميريام ويبستر”، فيذكر بأن “الرجاء” يُعبّر عن الاعتزاز برغبة مع الترقب أو التوقع بثقة. وتتفق تلكم التعريفات على أن “الرجاء” ينطوي على توجه نحو المستقبل، ورغبة في نتيجة إيجابية، وإدراك لإمكانية تحقيق هذه النتيجة.
جذور مصطلح الرجاء.
أولًا: في الفكر اليوناني القديم.
حمل مصطلح “الرجاء” دلالة متناقضة في الفكر اليوناني القديم، فقد ارتبط في كثير من الأحيان بمن يفتقرون إلى المعرفة الحقيقية، أو بمن يميلون إلى التفكير بالتمني؛ مما قد يؤدي إلى أفعال غير مدروسة، وكمثال على ذلك حينما نقرأ العبارة الآتية: (حذّر صولون من الآمال الخاوية)، وتقدم أسطورة “باندورا” الشهيرة لهزيود، التي ظهرت لأول مرة في كتابه “الأعمال والأيام”، تصويرًا معقّدًا للرجاء، فبعد أن فتحت باندورا الجرّة، وأطلقت العنان لعدد لا يحصى من الشرور على البشرية، بقي “الرجاء” وحده في الداخل، ولا يزال تفسير هذا الرجاء المتبقي موضع نقاش: هل هو مصدر للراحة وسط المعاناة، أم أنه شر بحد ذاته يطيل عذاب الإنسان؟ وفي محاورة “تيماوس”، تبنّى أفلاطون موقفًا سلبيًّا إلى حدٍ ما، واصفًا “الرجاء” بأنه “مستشار طائش” وهبته الكائنات الإلهية للبشرية، وهذا يشير إلى رؤية للرجاء على أنه غير عقلاني أو غير موثوق به. ومع ذلك نجد في محاورة “فيليبوس” منظورًا أكثر دقة، إذ يربط أفلاطون “ملذات الترقب” – توقعات الملذات المستقبلية – بالرجاء، الذي يمكن أن يكون صحيحًا أو خاطئًا، ويُعدّ ضروريًّا للفعل الإنساني، والجدير بالذكر أن أفلاطون دافع أيضًا عن عقلانية الرجاء في الحياة الآخرة في محاوراته مثل “الدفاع” و”فيدون”.
وعند الانتقال إلى أرسطو في كتابه “الأخلاق النيقوماخية”، نجده يقارن بين الرجاء والشجاعة، ويحدّد أشكال الرجاء غير الشجاعة التي تستند إلى مجرد الحظ، أو تنشأ في مواقف تخلو من فرصة الفعل الفاضل، ومع ذلك يربط أرسطو أيضًا الرجاء بالشجاعة من خلال مفهوم الثقة، مؤكدًا أن كل فرد شجاع يمتلك نزعة تبعث على الرجاء؛ لأن الرجاء يولّد الثقة. كذلك يشير أرسطو إلى أن “الرجاء” يلعب دورًا أساسيًّا في التداول، ويعترف بقيمته في ارتباطه بالشباب وعظمة الروح؛ مما يحفّز السعي وراء المساعي النبيلة، وقد وصف أرسطو “الرجاء” أيضًا بأنه “حلم يقظة”.
أما المدرسة الرواقية وتحديدًا مع سينيكا، فنجد رأيًا غير مؤاتٍ للرجاء، إذ أكّد على ارتباطه الوثيق بالخوف، بحجة أن كلا الشعورين يصرفان الانتباه عن اللحظة الحاضرة، ويزرعان حالة من الاضطراب العقلي؛ لذلك دعا إلى التركيز على الحاضر وتنمية الهدوء الداخلي، بدلًا من التأثر بتقلبات الآمال والمخاوف المستقبلية.
ثانيًا: في الفكر المسيحي (القرون الوسطى).
عند البحث عن مصطلح “الرجاء” في الفلسفة المسيحية، نجد فلاسفة مثل أوغسطين، وتوما الأكويني قاموا بتحليله بوصفه فضيلة لاهوتية مركزية ضمن إطار العقيدة المسيحية، إذ نجد في مؤلفات أوغسطين مثل “عظات”، و”مدينة الله”، تمييزه لمفهوم الرجاء عن الإيمان من خلال توجهه المحدّد نحو الخير المستقبلي للمؤمن الفردي، في حين أن الإيمان يمكن أن يشمل الاعتقاد بالأحداث الماضية وحتى الحقائق السلبية، فالرجاء موجه نحو توقع النتائج الإيجابية المستقبلية، ولا سيما الخير الأسمى للحياة الأبدية مع الله، وقد أكّد أوغسطين كذلك على الدور الحاسم للرجاء في الفلسفة السياسية المسيحية، إذ يوفّر الرجاء في مدينة سماوية مبدأً توجيهيًّا يتجاوز الاهتمامات السياسية الأرضية، فضلًا عن ذلك يرى أوغسطين أن فضيلة الرجاء دفاع حاسم ضد رذيلتي الافتراض (رجاء مفرط أو في غير محله)، واليأس (نقص الرجاء)، ودعا إلى رجاء متوازن وموجه بشكل صحيح نحو الله والخيرات الأبدية.
أما توما الأكويني، وتحديدًا في كتابه “الخلاصة اللاهوتية”، نجد مناقشة مستفيضة للرجاء شملت أبعاده الطبيعية واللاهوتية، وقام بتعريف الرجاء بكونه يمثل “انفعالًا غضبيًّا” موجهًا نحو خير مستقبلي صعب المنال، ولكنه ممكن التحقق، وغالبًا ما يستند هذا الأمر إلى خبرة سابقة، وقد تبنى الأكويني وجهة نظر دقيقة بشأن عقلانية “الرجاء” من خلال اعترافه بإمكانية عدم عقلانية الرجاء إذا لم يكن مستنيرًا بالخبرة، لكنه اعترف أيضًا بقدرته على تعزيز الفعل العقلاني من خلال دمج معرفة الإمكانية والصعوبة، وقام أيضًا بالتمييز بين “الرجاء الاعتيادي” الذي ليس فضيلة بطبيعته، و”الرجاء اللاهوتي” الذي هو فضيلة خارقة للطبيعة ويمثل الأخير إرادة مغروسة بنعمة الله وموجهة نحو تحقيق السعادة الأبدية، ومن وجهة نظر الأكويني فإن الرجاء اللاهوتي يسبق بالضرورة الإيمان، ويُعد عقلانيًّا بالنظر إلى ذلك الإيمان بوعود الله.
ثالثًا: في الفكر الغربي الحديث.
عند تصفح مؤلفات فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر، نجد أن النقاشات الفلسفية بشأن مصطلح “الرجاء” عادةً ما تؤطره كانفعال – موقف غير معرفي أساسًا مصحوبًا بعنصر اعتقاد – وكان مفهوم “الرجاء” يُعرَّف عادةً باليقين غير الكامل في الاعتقاد وتمثيل موضوع مرغوب فيه، ورأى معظم فلاسفة هذه الحقبة باستثناء سبينوزا أن “الرجاء” عامل تحفيزي محايد في الفعل الإنساني، فمثلًا نجد ديكارت في تحليله للانفعالات، عدّ “الرجاء” شكلًا أضعف من الثقة يتميز برغبة في نتيجة جيدة وممكنة، ويُنظر إليها على أنها محتملة، ولكنها ليست مؤكدة تمامًا، كما لاحظ أن الرجاء مصحوب دائمًا بدرجة من القلق الناجم عن عدم اليقين الكامن في المستقبل.
أما سبينوزا فقد كان يحمل رأيًا نقديًّا متميزًا اتجاه “الرجاء”، فقد عرّفه في كتابه “الأخلاق”، بأنه شكل من أشكال اللذة أو الفرح ممزوجًا بالحزن بسبب عدم اليقين، وعدّ سبينوزا أن “الرجاء” غير عقلاني بشكل أساسي؛ لأنه ينبع من اعتقاد خاطئ في طوارئ الأحداث، وفشله في التوافق مع الضرورة الحتمية التي تحكم كل شيء، كما صرّح بأن الرجاء سبب للخرافة، وغالبًا ما يرتبط بالخوف ويعيق تحقيق الحرية الحقيقية من خلال العقل.
وقبالة الرأيين السابقين نجد أن هيوم قد قام بتحليل مفهوم “الرجاء” ضمن علم النفس التجريبي بوصفه “انفعال مباشر” ينشأ من تأمل العقل للأحداث التي تمتلك احتمالية تقع بين اليقين المطلق والاستحالة، ولقد صرح بأن “الرجاء” يمثل مزيجًا من الفرح والحزن، حيث يحدد العنصر السائد الشعور العام.
وعند الانتقال إلى كانط في إطار فلسفته النقدية نجده قد منح “الرجاء” مكانة مختلفة، إذ جعل السؤال “ما الذي يجوز لي أن أرجوه؟” أحد الأسئلة الثلاثة الأساسية للعقل البشري إلى جانب “ما الذي يمكنني أن أعرفه؟”، و “ما الذي يجب علي أن أفعله؟”، ووفقًا لكانط فإن “الرجاء” كموقف سمح للعقل البشري بالتعامل مع الأسئلة التي تقع خارج نطاق الخبرة التجريبية، ولا سيما تلك المتعلقة بالأخلاق والدين، وقام بتحديد ثلاثة موضوعات رئيسة للرجاء، أولًا: سعادة الفرد، والأهم من ذلك السعادة بما يتناسب مع استحقاقه الأخلاقي (كجزء من الخير الأسمى أو الخير الأعلى)، ثانيًا: التقدم الأخلاقي للفرد، وهو السعي المستمر نحو الفضيلة، ثالثًا: التحسين الأخلاقي للجنس البشري ككل وصرح بوجود صلة ضرورية – وإن كانت مثالية – بين القانون الأخلاقي والرجاء في السعادة، وبما أن العقل يُملي علينا أن نتصرف بشكل أخلاقي؛ فإنه يستلزم أيضًا الرجاء في أن هذا السلوك الأخلاقي سيُكافأ في النهاية بالسعادة، وهذه الصلة وفقًا لكانط يمكن تحقيقها من خلال افتراض “عقل أعلى” (الذي حدده بالله). كذلك عمل كانط على ربط الرجاء بالإيمان بحجة أن الاعتقاد بإمكانية تحقيق الخير الأسمى – اتحاد الفضيلة والسعادة – يستلزم الاعتقاد بوجود الله وخلود الروح، وهذه المعتقدات وفقًا لكانط يمكن فهمها على أنها أشكال من الإيمان العقلاني أو الأخلاقي الذي يدعم الرجاء الديني، كما عدّ التقدم الأخلاقي للفرد والتحسين الأخلاقي للبشرية موضوعين للرجاء العقلاني مرتبطين بالواجبات الأخلاقية، ويعملان كدافع للعمل الأخلاقي، وعلى الرغم من أن كانط رأى أن الرجاء ينطوي على عدم اليقين ورغبة في نتيجة معينة، نجده قد ميّز بين مجرد التمني والرجاء العقلاني. ولقد عرّف “الرجاء” من الناحية الوصفية بأنه أمنية غير مؤكدة، ولكنه عرّفه من الناحية المعيارية بأنه عقلاني إذا لم يكن من المستحيل إثبات عدم إمكانية تحقيقه أو إذا كان مرتبطًا بواجب أخلاقي.
وفي أثناء تجوالنا في تاريخ الفكر الغربي نصل إلى كيركجارد، الذي يُعدّ مؤسّسًا للمدرسة الوجودية، إذ كان منظوره إلى “الرجاء” من حيث جعله في المقام الأول نتيجة ارتباطه العميق بالإيمان الديني، وأكد على أن الرجاء الحقيقي والأبدي يتجاوز حدود الفهم البشري ويستعمل كترياق مباشر لليأس، وقام كيركجارد بالتمييز بين “الرجاء الأرضي” الذي غالبًا ما يُخيّب الآمال، وقوة “الرجاء الأبدي” التي توجه دائمًا نحو الأبدي ولا يمكن أن تُخيّب في نهاية المطاف، كما ربط قيمة الرجاء بالطلب الأخلاقي المتمثل في محبة الآخرين.
أما شوبنهاور المعروف بفلسفته المتشائمة، فإن “الرجاء” لديه يمثل “حماقة القلب”، ولقد صرّح بأن الرجاء يشوّه الفكر من خلال تقديم الرغبات على أنها نتائج محتملة؛ مما يعيق فهم الطبيعة الحقيقية للواقع، وغالبًا ما يؤدي إلى خيبة الأمل الحتمية، ويرى بأن “الرجاء” عقبة أمام “نفي إرادة الحياة” التي عدّها طريق التحرر من المعاناة، حتى أنه أشار إلى “رجاء نهاية الرجاء” في التجاوز النهائي للرغبة.
في حين نجد أن نيتشه قد انتقد بشدة ما أسماه “الآمال الخارج أرضية” – الآمال في عالم متعال أو حياة أخروية – في تفسيره لأسطورة باندورا، وقد أعلن نيتشه من أن “الرجاء” هو “أسوأ الشرور لأنه يطيل عذاب الإنسان”، ومع ذلك تشير بعض التفسيرات إلى أن نيتشه ألمح أيضًا إلى منظور أكثر إيجابية للرجاء كجسر إلى “رجاء أعلى”، ربما يتعلق بالتغلب على العدمية وظهور “الإنسان الأعلى”، وصرّح بأن الرجاء شيء يجب تثبيته في تغييرات النظام الاجتماعي القائمة على الثقة في قدرة الفرد.
رابعًا: في الفكر الغربي المعاصر.
نبدأ مع ألبير كامو من فلاسفة المدرسة الوجودية الذي ربط نقده للرجاء بـ “عبثية” الوجود الإنساني – الصراع الأساسي بين رغبة الإنسان الفطرية في المعنى ولا مبالاة الكون الباردة – ورفض كامو الرجاء الديني والرجاء في قضايا كبرى تتجاوز الذات، عادًّا إيّاها محاولات للتهرب من الواقع الصارخ للوضع الإنساني، ودافع عن تبني اللحظة الحاضرة بوعي وإيجاد السعادة داخل العبث، حتى أنه اقترح تخيل سيزيف الذي يدفع صخرته إلى الأبد سعيدًا في مهمته اليائسة على الرغم من رفضه للرجاء التقليدي، وقد ألمح كامو أيضًا إلى “رجاء غريب” موجه نحو الإمكانيات الحالية، يتميز بالإنسانية والتضامن.
أما رفيق كامو في المدرسة الوجودية غابرييل مارسيل – على الرغم من كونه من التيار المؤمن لهذه المدرسة – فقد ركّز على مفهوم الرجاء المطلق كوسيلة للتغلب على إغراء اليأس في مواجهة الشدائد، ولقد ميّز بين “آمل أن…” (رجاء في نتيجة معينة)، و”آمل…” (رجاء مطلق)، مؤكّدًا الأخير بوصفه توجهًا أساسيًّا للوجود يتجاوز التوقعات المحددة، وعمل مارسيل على الربط بين الرجاء المطلق بالصبر والثقة في النمو الروحي، وفي النهاية بالإيمان بالله.
علاقة الرجاء بنظرية المعرفة.
توجد عدة نقاط التقاء ما بين الرجاء ونظرية المعرفة، والأخير مجال يهتم بطبيعة المعرفة ومصادرها ونطاقها، ومن أوجه الالتقاء هو ما بين الرجاء والاعتقاد والمعرفة والعقلانية، ومن يطلع على الكتب الفلسفية يجد أن “الرجاء” ينشأ من نقص المعرفة الكاملة، أو كشكل من أشكال التفكير بالتمني في غياب أدلة كافية، ومع ذلك توجد وجهات نظر أخرى مثل وجهة نظر أفلاطون الذي يعتقد أن الرجاء – ولا سيما في توقع الملذات المستقبلية أو في سياق الحياة الآخرة – يمكن عدّه عقلانيًّا. وربط كانط “الرجاء” بالأسئلة التي تتجاوز المعرفة التجريبية، مثل وجود الله وإمكانية تحقيق الخير الأسمى، بحجة أن الرجاء في هذه المجالات يمكن أن يكون عقلانيًّا بناءً على الإيمان الأخلاقي. أما الفلاسفة التحليليون المعاصرون فقد ناقشوا على نطاق واسع الشروط المعرفية للرجاء. ويدور سؤال مركزي حول ما إذا كان “الرجاء” يتطلب بالضرورة اعتقادًا بإمكانية تحقيق النتيجة المرغوبة، وإذا كان الأمر كذلك، فما هو مستوى الاحتمالية المطلوبة لاعتبار الرجاء عقلانيًّا؟ ويصرّح البعض بأن الرجاء يمكن أن يكون عقلانيًّا حتى قياسًا للنتائج التي تُعدّ غير محتملة للغاية، بينما يرى آخرون أن الرجاء العقلاني غير متوافق مع معرفة أن النتيجة المرجوة لن تتحقق، وتُعد العلاقة بين الرجاء والمعرفة أيضًا مجالًا رئيسًا للاستفسار. ويصرّح العديد من الفلاسفة بأن الرجاء بمعنى ما غير متوافق مع المعرفة، فنحن عادة ما نرجو أشياء لا نعرف بعد أنها صحيحة أو خاطئة، وبمجرد أن نكتسب يقينًا بشأن نتيجة ما فسرعان ما يتحول موقفنا من الرجاء إلى الرضا أو خيبة الأمل، فضلًا عن ذلك تستكشف بعض الكتابات الفلسفية القيمة المعرفية للرجاء مشيرة إلى أنه يمكن أن يلعب دورًا في تحفيز المساعي المعرفية، وزيادة الفهم الذاتي من خلال التصور العقلي، والنظر في الاحتمالات المستقبلية.
تتعمّق الفلسفة في المكونات الأساسية للرجاء، وغالبًا ما تعدّه على أنه موقف معقد ينطوي على الرغبة والاعتقاد بالإمكانية والانخراط العاطفي المتميز في النتيجة المحتملة، وتستكشف مسألة ما إذا كان الرجاء يمكن اختزاله إلى هذه المكونات أم أنه ينطوي على شيء آخر مثل التصور العقلي، أو توجه معين نحو المستقبل، ويسلّط التحليل الفلسفي الضوء على الوظيفة الحاسمة للرجاء بوصفها قوة محفزة قوية للفعل الإنساني، إذ يدفع الأفراد إلى السعي لتحقيق الأهداف والمثابرة في مواجهة العقبات، ويستكشف كيف يمكن للرجاء أن يدعم الأفراد خلال حالات عدم اليقين ويساهم في سعادتهم.
تميّز الفلسفة مفهوم “الرجاء” عن المفاهيم ذات الصلة مثل التفاؤل والتفكير بالتمني، وتسلط الضوء على الخصائص المحدّدة التي تحدّد الرجاء كموقف متميز، ويسمح هذا الفهم الدقيق بتحليل أكثر دقة لدور الرجاء في التجربة الإنسانية، ومن خلال فحص الرجاء من منظور فلسفي، نكتسب تقديرًا أعمق لأهميته في توفير المعنى والهدف للحياة الإنسانية، ولا سيما عند مواجهة التحديات والقيود المتأصلة وفناء الوجود، وتساعدنا الفلسفة على فهم كيف يمكن للرجاء أن يشكّل علاقتنا بالمستقبل ومشاركتنا في الحاضر.
علاقة الرجاء بالأخلاق.
يُعدّ “الرجاء” في اللاهوت المسيحي إحدى الفضائل اللاهوتية الأساسية الثلاث إلى جانب الإيمان والمحبة (الإحسان)، ويلعب دورًا مركزيًّا في الحياة الأخلاقية والروحية للمؤمنين، ومثال على ذلك هو رؤية توما الأكويني الرجاء اللاهوتي بوصفه هدية إلهية توجّه الأفراد نحو السعادة الأبدية. أما كانط فنجده قد ربط الرجاء في السعادة بالسلوك الأخلاقي ضمن فلسفته الأخلاقية بحجة أن السعي وراء الفضيلة يجب أن يصاحبه رجاء عقلاني في تحقيق الخير الأسمى (اتحاد الفضيلة والسعادة). أما كيركجارد فقد ربط الرجاء الأبدي بالمحبة المسيحية، مشيرًا إلى أن الرجاء الحقيقي متشابك مع مطلب أخلاقي يتمثل في العمل بمحبة اتجاه الآخرين. بينما انتقد نيتشه الآمال الدينية والميتافيزيقية التقليدية مع إشارته إلى “رجاء أعلى” في إمكانية خلاص البشرية من روح الانتقام وخلق قيم جديدة. في حين أن ألبير كامو اقترح “رجاء غريبًا” متجذرًا في الإنسانية والتضامن كرد أخلاقي محتمل على عالم لا معنى له على الرغم من تركيزه على عبثية الوجود. وفيما يخص غابرييل مارسيل فقد كانت نظرته إلى الرجاء المطلق كموقف أخلاقي أساسي يمكّن الأفراد من التغلب على اليأس والعيش بصدق في مواجهة المعاناة، و”موت الإله”.
ويواصل الفلاسفة المعاصرون مناقشة الأبعاد الأخلاقية للرجاء، إذ صرّح البعض منهم بأن الرجاء فضيلة أخلاقية ضرورية لحياة مزدهرة وتحفيز العمل الأخلاقي، في حين نجد آخرين يحذرون من مخاطر الرجاء، ولا سيما “الرجاء الكاذب” الذي يمكن أن يؤدي إلى التقاعس أو إدامة المواقف الضارة.
الرجاء عند الوجودية.
تتعامل الفلسفة الوجودية بشكل مكثف مع مفهوم الرجاء، وغالبًا ما يكون ذلك في سياق تجربة الإنسان في اللامعنى والحرية واليأس، إذ كانت نظرة كيركجارد إلى الرجاء بوصفه عنصرًا حاسمًا في الإيمان الديني وترياقًا حيويًّا لليأس، مؤكّدًا أهمية “الرجاء الأبدي” الموجه نحو عالم متعال، ولقد ميّز الأخير عن “الرجاء الأرضي” الذي عادة ما يكون عرضة لخيبة الأمل، بينما نجد أن نيتشه قد انتقد بشدة الآمال الدينية التقليدية، وقد اقترح شكلًا من أشكال الرجاء موجّهًا نحو التحول الأرضي والتغلب على العدمية من خلال خلق قيم جديدة وظهور “الإنسان الأعلى”، ونجد رفضًا لألبير كامو في فلسفته عن العبث للآمال الدينية واليوتوبية بوصفها محاولات للتهرب من اللامعنى الأساسي للوجود، ولقد دافع عن تبني اللحظة الحاضرة دون الاعتماد على توقعات مستقبلية، على الرغم من أنه أشار إلى “رجاء غريب” موجود في التضامن الإنساني والاعتراف بالإمكانيات الحالية، في حين نجد أن غابرييل مارسيل ركّز على “الرجاء المطلق” بوصفه نمطًا أساسيًّا من الوجود يسمح للأفراد بتجاوز اليأس والحفاظ على الإيمان في مواجهة المعاناة والغياب الظاهر للإله، وبشكل عام فإن مفهوم “الرجاء الوجودي” ظهر مؤكّدًا إمكانية حدوث تغيير إيجابي في المستقبل من خلال الفعل الإنساني الجماعي ومنظور طويل الأجل على عكس مشاعر الكارثة الوجودية، وأخيرًا تقدم الوجودية عند جان بول سارتر طريقًا إلى الرجاء والإشباع من خلال قدرة الفرد على خلق معنى من خلال خياراته وأفعاله على الرغم من أنها غالبًا ما ترتبط بمواضيع اليأس والقلق.
الرجاء ما بين الفلسفة والدين.
بينما يعترف كل من الفلسفة والدين بأهمية الرجاء، إلا أنه غالبًا ما تختلف مناهجهما وتركيزاتهما وتسويغاتهما بشكل كبير، وتشمل الفلسفة مجموعة متنوعة من وجهات النظر حول الرجاء، من الشكوك القديمة إلى التحليلات المعاصرة لعقلانيته وقيمته، بالمقابل نجد أن الدين عادة ما يركّز – ولا سيما داخل التقليد المسيحي – على الرجاء كفضيلة لاهوتية أساسية مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بالإيمان والإله، كذلك يختلف موضوع الرجاء بين المجالين من ناحية أن الرجاء الديني يركز على الله ووعد الخلاص واحتمالية الحياة الآخرة، أما الرجاء الفلسفي فإنه يشمل هذه الجوانب، فضلًا عن اشتماله لمجموعة أوسع من النتائج، بما في ذلك السعادة الفردية، والتقدم الأخلاقي، والتحول المجتمعي، وحتى حل المخاوف الوجودية. ويختلف تسويغ الرجاء بين المجالين، فالرجاء الديني عادة ما يستند إلى الإيمان بالوعود الإلهية وجدارة قوة أعلى بالثقة، أما الرجاء الفلسفي فيسعى إلى التبرير من خلال العقل والخبرة ودوره في الفعل الإنساني والسعادة. وأخيرًا نجد اختلافًا في مسألة التقييم النقدي للرجاء، إذ يرى الدين عمومًا أن الرجاء فضيلة إيجابية وأساسية، أما الفلسفة فتتضمن وجهات نظر نقدية كبيرة تشكك في قيمته وعقلانيته وإمكانية قيادته إلى الوهم أو التقاعس.
الرجاء بين الفلسفة وعلم النفس.
يتعامل كل من الفلسفة وعلم النفس مع مفهوم “الرجاء”، لكنهما يفعلان ذلك بمنهجيات مختلفة ومجالات تركيز أساسية، إذ تميل الفلسفة إلى استكشاف طبيعة الرجاء وعقلانيته وقيمته بطريقة واسعة ومفاهيمية، وغالبًا ما تعتمد على النصوص التاريخية والاستدلال المنطقي في ذلك، بينما يتبنى علم النفس نهجًا تجريبيًّا، ويركّز على الرجاء كنظام معرفي وتحفيزي يؤثر في السعادة الفردية، وتحقيق الأهداف، وآليات التكيف. وقد طوّر علم النفس نماذج محددة للرجاء مثل نظرية شنايدر التي تُعرّف الرجاء من حيث الفاعلية (القدرة المدركة على السعي لتحقيق الأهداف)، والمسارات (القدرة المدركة على إيجاد طرق لتحقيق تلك الأهداف)، وتقدم الفلسفة مجموعة أوسع من وجهات النظر التي تفترض أن الرجاء يتكون من رغبة في نتيجة ما واعتقاد بإمكانية تحقيقها. وبينما تتعمق الفلسفة في الأسئلة المعيارية حول متى يكون الرجاء عقلانيًّا أو فاضلًا، فإن علم النفس يهتم بفهم العمليات النفسية التي ينطوي عليها الرجاء، وتأثيره في السلوك البشري والصحة العقلية، ومع ذلك يمكن أن تفيد نتائج علم النفس، مثل العلاقة بين الرجاء والمرونة في المناقشات الفلسفية المتعلقة بقيمة “الرجاء”.
دور الرجاء في مواجهة تحديات الحياة.
استكشف الاستفسار الفلسفي على نطاق واسع دور الرجاء في تمكين الأفراد من التغلب على تحديات الحياة الحتمية، وتعزيز المرونة في مواجهة الشدائد، والحفاظ على المثابرة خلال الأوقات الصعبة، فعلى سبيل المثال رأى أوغسطين أن فضيلة الرجاء ضرورية لمقاومة اليأس عند مواجهة الصعوبات؛ مما يوفّر منظورًا متوازنًا بين الافتراض واليأس، ويؤكد مفهوم “الرجاء الوجودي” على أهمية الاعتقاد الجماعي بإمكانية حدوث تغيير إيجابي كوسيلة للتغلب على مستقبل غير مؤكد. وفي المقابل تدعو الفلسفة الرواقية إلى التركيز على المرونة الداخلية وتقبّل ما لا نستطيع السيطرة عليه، مشيرة إلى أن القوة الحقيقية تكمن في إدارة ردود أفعالنا اتجاه الشدائد، بدلًا من الاعتماد على الرجاء في تحقيق نتائج خارجية، وغالبًا ما تربط وجهات النظر الفلسفية الرجاء بالمرونة، وتسلط الضوء على دوره في توفير شعور بالفاعلية والقوة والتحفيز للتغلب على العقبات والعمل نحو مستقبل أفضل.
البوصلة الأخلاقية للرجاء: فضيلة أم رذيلة أم أرض محايدة؟
يقدم الفكر الفلسفي طيفًا من الآراء حول الوضع الأخلاقي للرجاء، إذ تعدّه بعض الآراء فضيلة، والبعض الآخر رذيلة، بينما يراه آخرون محايدًا أخلاقيًّا، وتعتمد قيمته على السياق والموضوع، وعادة ما يُنظر إلى الرجاء في الفلسفة المسيحية على أنه فضيلة لاهوتية أساسية، وهبة إلهية توجّه المؤمنين نحو الحياة الأبدية، وتشكّل سلوكهم الأخلاقي، فعلى سبيل المثال نجد أن توما الأكويني صنفه كفضيلة متعالية، ويصرح بعض الفلاسفة المعاصرين بأن الرجاء فضيلة أخلاقية في سياقات علمانية، مؤكدين على ارتباطه بتوجّه إيجابي نحو الفعل، ودوره في تعزيز الازدهار البشري، وعلى العكس من ذلك نظر العديد من الفلاسفة إلى الرجاء بشكل سلبي، معتبرين إياه رذيلة، فقد وصفه نيتشه بأنه “أسوأ الشرور”، بحجة أنه يطيل المعاناة الإنسانية من خلال توجيه الانتباه نحو مستقبل غير مؤكد بدلًا من تبني الحاضر، وعدّ سبينوزا أن الرجاء انفعال غير عقلاني ينبع من عدم فهم الطبيعة الحتمية للواقع، كما نظر بعض المفكرين اليونانيين القدماء إلى الرجاء بشك، وربطوه بالوهم ونقص البصيرة، وتشير وجهات نظر فلسفية أخرى إلى أن الرجاء ليس فضيلة ولا رذيلة بطبيعته، بل هو مفهوم أكثر حيادية يعتمد تقييمه الأخلاقي على موضوعه وأساسه في الواقع وعواقبه، وفي هذا السياق رأى أوغسطين أن الرجاء فضيلة تتنقل بين رذيلتي الافتراض واليأس.
الرجاء في الأعمال الفلسفية.
ندرج في أدناه بعض الأعمال الفلسفية التي تناولت مفهوم “الرجاء” بأشكال مختلفة:
- جمهورية أفلاطون: يناقش سقراط الرجاء بوصفه مرافقًا عزيزًا على الروح التي تعيش في العدل والقداسة، ولا سيما في سياق الحياة الآخرة.
- أخلاق نيقوماخوس لأرسطو: يستكشف أرسطو العلاقة بين الرجاء والشجاعة، مشيرًا إلى أن النزعة المفعمة بالرجاء هي سمة الشجعان.
- اعترافات أوغسطين: يتأمل أوغسطين في رحلته الخاصة ودور الرجاء في تحوله الروحي وتوجهه نحو الله.
- الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني: يقدم الأكويني تحليلًا لاهوتيًّا وفلسفيًّا مفصّلًا للرجاء بوصفه إحدى الفضائل اللاهوتية الثلاث.
- نقد العقل العملي لإيمانويل كانط: يسأل كانط: “ما الذي يجوز لي أن أرجوه؟” رابطًا الرجاء بمسلمات العقل العملي، بما في ذلك وجود الله والخلود.
- هكذا تكلم زرادشت لفريدريك نيتشه: بينما ينتقد نيتشه الرجاء في كثير من الأحيان، فإنه يستعمل أيضًا استعارة قوس الله لتمثيل جسر عابر إلى حالة أعلى، مما يشير إلى علاقة معقدة بالمفهوم.
- الخوف والرعدة ومرض الموت لكيركجارد: يستكشف كيركجارد طبيعة الإيمان والرجاء في مواجهة القلق الوجودي واليأس، ولا سيما في سياق المعتقد الديني.
- الغريب وأسطورة سيزيف لألبير كامو: يوضح كامو فلسفته عن العبث ورفض الرجاء في حياة آخرة أو معنى نهائي من خلال تجارب أبطاله.
- الكينونة والوجود والإنسان المسافر لغابرييل مارسيل: يتعمق مارسيل في طبيعة الرجاء كجانب أساسي من الوجود، ولا سيما في مواجهة المعاناة والفقد.
- مبدأ الرجاء لإرنست بلوخ: يقدم بلوخ رؤية شاملة ويوتوبية للرجاء بوصفها قوة دافعة للتغيير الاجتماعي والسياسي.
المقالات المرتبطة
الشيطان وتكامل الإنسان(2)
هناك تصور لدى العديد من الناس مفاده أن لإبليس قدرة هائلة يستطيع من خلالها التأثير على بني البشر وإخضاعهم لسلطانه ونفوذه، الأمر الذي يجعل الإنسان مخلوقًا ضعيفًا
ماذا.. ما بعد الغرب؟ معضلة الإستئناف الحضاري
لقد كشفت تقنية ما بعد الغرب الكلاسيكي عن مسار عام يسير نحو نزع الإنسانيّة، وانحطاط قِيَمِها وتهافُت معاييرها.
منهج الشهيد الصدر في (بحث حول المهدي)
يقوم السيّد الشهيد بطرح الإثارات حول القضية وعرض التساؤلات والإشكالات المنتزعة مما قيل ويقال حول القضية، ثمّ يبدأ بالمناقشة العميقة والدقيقة معتمدًا الدليل العقلي، ومستندًا إلى معطيات العلم الحديث والحضارة المعاصرة،