دراسة تحليلية مقارنة في ضوء الفكر الإسلامي والغربي

         الرجاء عند العرفاء

(3)

الباحث: حامادو جيرو*

يُعتبر الخوف والرجاء من المواضيع المهمة في الأخلاق والعرفان، حيث يرى العرفاء أنهما الجناحان الأساسيان للسير الروحي للسالك. (المکي، قوت القلوب في معاملة المحبوب، 381/1؛ فیض الکاشاني، المحجة البیضاء في تهذیب الأحیاء، 248/7). لأن التقدّم والسعادة الإنسانية ترتبطان بضرورة تحقيق اعتدال روحي وقوى روحية متوازنة. نجد في القرآن الكريم العديد من الآيات التي تحتوي على تحذيرات تُشجع المسلمين على الخوف والرجاء. (سورة هود، الآية 119؛ سورة النبأ، الآيات 21–26؛ سورة الحاقة، الآيات 26–37)، وعلى وعُود تُلهمهم بالثقة في لطف الله وكرمه. (سورة النحل، الآية 119، سورة الزمر، الآية 153). وقد أُفردت بعض المصادر الروائية أبوابًا خاصة لهذه المواضيع. (الکلیني، الکافي، 67/2/؛ الحر العاملي، تفصیل وسائل الشیعة إلی تحصیل مسائل الشریعة، 216/15).

الخوض في قضية الخوف والرجاء تاريخ طويل في الكتب الأخلاقية والروحانية. من أوائل الكتب في عرفان السلوك العملي هي كتاب التعرّف لكلاباذي. (کلاباذي، التعرف، ص 97-98)، وكتاب اللمع للسرّاج (سرّاج طوسي، اللمع في التصوف، ص 111-114). وقد ذكر علماء الأخلاق أنواع الخوف غير المحببة، مثل الخوف من الموت أو الناس. (فیض الکاشاني، المحجة البیضاء في تهذیب الأحیاء، 273/7–275، النراقي، جامع السعادات، 1/246). أما الإمام الخميني فقد تناول تفسير روايات تتعلق بالخوف والرجاء في مؤلفاته، مثل شرحه للأربعين حديثًا. (الإمام الخميني، شرح الأربعين حديثًا، ص 221)، وشرح حديث جنود العقل والجهل. (الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 129، 137، 325)، حيث أضاف المزيد إلى هذه المواضيع من خلال تحليل البدائل وآثار الخوف والرجاء، مقسّمًا الخوف والرجاء إلى خاص بالخواص، الأولياء، العامة والخاصة. (الإمام الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل، ص 327-328).

الخوف والرجاء هما عبارة عن الخوف من عقاب الله أو هيبته والأمل في رحمته. يرى الإمام الخميني أن الخوف هو خشية من الله تعالى، بينما الرجاء هو الأمل في رحمته، ويعتبرهما من جنود العقل، حيث ينشأ الخوف من إدراك عظمة وهيبة الله، والرجاء ينبع من الأمل في رحمته. يشدد الإمام على أن الرجاء الحقيقي لا ينبغي أن يقود إلى التهاون في أداء العبادة.

يُقسّم الإمام الخميني كلًّا من الخوف والرجاء إلى قسمين؛ الأول محمود والآخر مذموم، ويوضح الأسباب لكل منهما. فيما يتعلق بالخوف، يذكر مراتب مثل العامة والخاصة، وبالنسبة للرجاء يتطرق إلى مستويات مثل الأمل في الثواب ورجاء العارفين.

يؤكد الإمام على ضرورة مصاحبة الخوف والرجاء معًا، ويصنّف الأنبياء (ع) إلى ثلاث فئات بناءً على سيطرة الخوف أو الرجاء عليهم، أو جمعهم بين الخوف والرجاء.

يرى الإمام الخميني أن الخوف يمثل كمالًا معنويًّا، وهو منشأ للعديد من الفضائل النفسية ومبدأ لعلاج جميع الأمراض الروحية.

1- الرجاء كمقام من مقامات السالكين.

يُعدُّ الرجاء عند العرفاء من المقامات الأساسية في طريق السلوك إلى الله، ويقترن غالبًا بـالخوف، إذ لا يُتصوَّر أحدهما دون الآخر. وقد وضعه أبو طالب المكي (ت. 386هـ) في قوت القلوب ضمن المقامات التي يمر بها المريد في ترقيه نحو المعرفة، قائلًا: “الرجاء من أحوال الموقنين، لا من صفات الغافلين”. (قوت القلوب، ج2، ص124).

وعرّفه الجنيد البغدادي (ت. 297هـ) – وهو من أعلام العرفاء الأوائل – بقوله: “الرجاء هو سكون القلب إلى ما عند الله تعالى”، وهو بذلك ليس مجرد تمني، بل حال قلبي ينبع من المعرفة بالله وأسمائه الحسنى. (الرسالة القشيرية، ص 89).

2- الرجاء بين العابد والزاهد والعارف.

فرّق العرفاء بين الرجاء عند العابد، والرجاء عند العارف:

العابد يرجو الثواب والجنة، أي أن رجاءه مشروط بالعوض.

أما العارف، فيرجو القرب من الله، ووجهه، ورضاه، ولا يطلب من وراء الرجاء شيئًا من حظ النفس.

يقول الشيخ الهجويري (ت. 465هـ): “الرجاء الحقيقي هو الذي لا يخالطه طلب أجر، بل هو رجاء لوجه الله وحده”. (كشف المحجوب، ص275).

ويُشير أبو عبد الرحمن السلمي إلى هذا المعنى بقوله: “رجاء العارفين لا يتعلّق بالجنة والنار، بل بجود المولى وبقائه”. (طبقات العرفاء، ص146).

نقطة محورية: العرفاء يُعلون من شأن الرجاء الذي يتجاوز الحظوظ الذاتية نحو الرجاء في الذات الإلهية، بوصفه مظهرًا من مقام التوحيد المحض.

3- علاقة الرجاء بالخوف والزهد.

يُبرز العرفاء الثنائية التربوية بين الرجاء والخوف، ويُشدّدون على أن كليهما لا بدّ أن يكون حاضرًا في قلب السالك، ويُشبّه أبو حامد الغزالي (ت. 505هـ) القلب بـ”طائر رأسه المحبة، وجناحاه الخوف والرجاء”، فمن خلا قلبه من الخوف هلك، ومن خلا من الرجاء قنط. (إحياء علوم الدين، ج4، ص135).

كما أن الرجاء يُعدّ عندهم شرطًا من شروط الزهد، لأن الزهد لا يتحقق إلا حين يُرجى ما عند الله، لا ما في أيدي الناس، وهو ما أكّد عليه ابن عطاء الله السكندري في الحكم العطائية: “أرجِ ما وعدك الله، وازهد فيما سوى ذلك”.

4- الرجاء والمقام الوجداني.

للرجاء عند العرفاء أيضًا بُعد وجداني – ذوقي، إذ يُعدّ مظهرًا من مظاهر الأنس بالله، ويبلغ مداه عند من يسمّونهم “أهل التمكين”، وهم الذين أصبح الرجاء عندهم حالًا دائمًا، لا ينتقلون منه إلى غيره.

وفي هذا السياق، يقول الرُّويمي: “الرجاء هو مقام المحبين إذا احتجبوا، والأنس إذا حضروا، واليقين إذا ذاقوا”. (اللمع في التصوف، ص231).

5- مصادر الرجاء عند العرفاء.

ينطلق العرفاء في بناء مقام الرجاء من النصوص القرآنية، لكنهم يقرؤونها بمنظار ذوقي وإشاري، ومن أبرز الآيات التي يستندون إليها:

﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ﴾. (سورة الزمر، الآية 53).

و﴿وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَ الضَّالُّونَ﴾. (سورة الحجر، الآية 56).

ويُفسرها الطبرسي في مجمع البيان بأنها دالة على أن الرجاء أصل من أصول الرجوع إلى الله، وقد وظّفها المتصوفة كثيرًا في أدبياتهم.

6- مفهوم الخوف والرجاء عند العرفاء.

مفهوم “الخوف” يشير إلى الشعور بالخشية والذعر. (الجوهري، الصحاح، 1359/4، ابن ‌منظور، لسان العرب، 99/9)، ويقابله “الرجاء” الذي يعني الأمل والتمني. (ابن‌ منظور، لسان العرب، 309/14؛ الزبیدي، تاج العروس من جواهر القاموس، 447/19).

 في مجال الأخلاق، يُعرّف الخوف على أنه الخشية من العقوبة التي يتوقعها الإنسان نتيجة ارتكابه للمحرمات. (خواجه ‌نصیر، أوصاف الأشراف، ص 51؛ النراقي، معراج السعادة، ص 170).

 وفي مجال العرفان، يُعبّر الخوف عن القلق الناتج عن المعرفة بالأنباء والتحذيرات من الرسل الإلهيين. (الأنصاري، مجموعة رسائل فارسي، منازل السائرین، ص 50).

الرجاء في مصطلح الأخلاق والعرفان يعني الأمل في شيء محبوب من جانب الحق تعالى. (القشیري، الرسالة القشیریة، ص 259؛ النراقي، جامع السعادات، 1/280، النراقي، معراج السعادة، ص 202).

واعتبر الإمام الخميني الخوف بأنه الخشية من الحق تعالى، والذي ينشأ من تجلي جلاله وكبريائه، أو من التفكير في الحساب والعقاب الإلهي، أو نقص الفرد في أداء الأمر الإلهي. (الإمام‌ الخمیني، حدیث الجنود، ص 137–138). كما يعتبر الرجاء بأنه الأمل في رحمة الحق، والذي يتحقق من إدراك الرحمة المطلقة منه. (الإمام ‌الخمیني، حدیث الجنود، ص 129).

هناك مصطلحات مثل الخشية والحزن ترتبط بالخوف، والطمع يرتبط بالرجاء. فالخشية هي حالة تنبع من مواجهة عظمة الخالق. (خواجه ‌نصیر، أوصاف الأشراف، ص 52–55). والفرق بين الخوف والخشية هو أن الخشية كالعلة والخوف كالمعلول. (گیلاني، ترجمة وشرح مصباح الشریعة ومفتاح الحقیقه، ص 40). أما الحزن فهو حالة تنشأ من حدوث مكروه أو فقدان شيء محبوب. (جرجاني، کتاب التعریفات، ص 38)، ويتعلق بالماضي، بينما يتعلق الخوف بالمستقبل. (الطریحي، مجمع البحرین، 57/5). وبالنسبة للطمع، يختلف عن الرجاء لأنه في الرجاء يكون الأمل في الرحمة مصحوبًا بالعمل، أما الطمع فلا يصحبه العمل أو لا يُلاحظ فيه ذلك. (الإمام‌ الخمیني، حدیث الجنود، ص 193).

7-حقيقة الخوف والرجاء.

كل من الخوف والرجاء يُعتبَران من الحالات النفسية التي صنّفها العرفاء ضمن مقامات سالكي الطريق إلى الله. (الأنصاري، منازل السائرين، ص 49). ويعتبرها العلماء الأخلاقيون سمات نفسية، حيث يُعبَّر عن الخوف كشعور بالألم في القلب عندما يتوقع الشخص حدوث أمرٍ مكروه، بينما يُوصَف الرجاء بالشعور باللذة والطمأنينة عند انتظار أمر محبوب. (الغزالي، إحياء علوم الدين، 12/173، فيض الكاشاني، المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء، 249/7).

يصف الإمام الخميني الخوف والرجاء كجزء من الفطرة المخزونة للإنسان، ويعدهما من جنود العقل. يُستَلهَم الخوف من إدراك عظمة الله وهيبته. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 329)، في حين ينشأ الرجاء من الأمل في رحمة الله المشفوعة بالعمل والجهد. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 193). فالفرد بفطرته يدرك رحمة الخالق، مما يمنحه الأمل والرجاء في رحمته، إلى جانب تعرّفه على نقصه الذاتي. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 136-137). لكن إذا حُجبت هذه الفطرة، يصبح الإنسان يائسًا من رحمة الله، ما يؤدي به إلى القنوط والافتقار، نتيجة قصر نظره في حدود الرحمة والأسماء والصفات الإلهية. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 138).

يرى الإمام الخميني أن الرجاء الحقيقي هو الذي لا يؤدي إلى التهاون في أداء الواجبات والعبادات، بينما يبقى الشخص غير معتمد كليًّا على أعماله، بل يظل متطلعًا إلى رحمة الله. ويعتبر أن أي رجاء يدفع للفشل والتهاون هو غرور ينبغي الحذر منه. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 131-133، الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 227-228). بناءً على رواية عن الإمام الصادق (ع) التي ترفض رجاء العاصين. (الکلیني، الکافي، 68/2)، يرى الإمام أن الرجاء الصحيح هو في استغلال النعم الممنوحة من الله، والاعتماد بعد ذلك على فضل الله لتوفير ما ليس في مقدور الإنسان والوصول إلى حل الموانع والعوائق. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 227-229، الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 131-137).

يرى الإمام أن الغرور هو من أعظم جنود إبليس، بينما يعد الرجاء من جنود الرحمن، فالغرور والرجاء يختلفان في أسسهما ونتائجهما؛ إذ يستند الرجاء إلى العلم بسعة الرحمة الإلهية، بينما يعتمد الغرور على الاستهانة بأوامر الله. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 131-132).

8- الجمع بين الخوف والرجاء.

يؤكد علماء الأخلاق والعرفان على الجمع بين الخوف والرجاء، ويعتقدون أن الخوف يجب أن يكون بدرجة لا تؤدي إلى اليأس؛ كما أن الرجاء يجب ألا ينتهي إلى الأمن من العقوبة الإلهية. (الأنصاري، منازل السائرین، ص 84، الغزالي، إحیاء علوم الدین، 12/17، النراقي، جامع السعادات، 266/1). يؤكد الإمام الخميني على ضرورة اقتران الخوف والرجاء. (الإمام الخميني، آداب الصلاة، ص 113، الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 223). ويعتقد أن الإنسان يجب أن يكون لديه دائمًا الأمل في رحمة الحق والخوف الذي هو الالتفات إلى الفقر والقصور الذاتي لنفسه، جنبًا إلى جنب. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 223، الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 145).

ويرى أن اقتران الخوف والرجاء يكون على نوعين: النوع الأول هو الجمع بين الالتفات إلى القصور والنقصان الذاتي والالتفات إلى سعة الرحمة والنعم اللامتناهية للحق. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 145)، وهذا ما تشير إليه العديد من الروايات.(الكليني، الكافي، 67/2)، والأدعية (الطوسي، مصباح المتهجد، 591/2). أما النوع الآخر فهو خاص بالعارفين الكاملين، وهو الجمع بين التجليات اللطفية الناشئة من أسماء جمال الحق والتجليات القهرية الناشئة من أسماء جلاله. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 142).

9-أقسام ومراتب الخوف والرجاء.

علماء الأخلاق قاموا بتقسيم “الخوف والرجاء” إلى نوعين: محمود ومذموم، حيث يُعتبر “الخوف والرجاء” المحمود هو الذي يوجه الإنسان نحو الغاية الأسمى، وهي القرب من الله تعالى، في حين أن أي نوع من “الخوف والرجاء” يعيق الوصول إلى هذه الغاية يكون مذمومًا، كأن يؤدي إلى اليأس أو فقدان العقل. (الغزالي، إحياء علوم الدين، 7/13). وبالمثل، يُعتبر الرجاء المحمود هو الذي يحفز على الطاعة والتوبة من الذنوب، بينما الرجاء الذي يؤدي إلى الأمن من مكر الله. (الکاشاني، شرح منازل السائرین، ص 444–445)، أو الغرور والتكاسل في العمل يُعدان مذمومين. (ابن القیم، مدارج السالکین، ص 351). يشير القرآن الكريم إلى مراتب مختلفة من الخوف بمفهومه العام، معتبرًا الخوف. (سورة آل عمران، الآية 175) شرطًا للإيمان والخشية. (سورة فاطر، الآية 28). شرطًا للعلم والهيبة. (سورة آل عمران، الآية 28). شرطًا للمعرفة. (القشيري، رسائل القشرية، ص 213).

العرفاء أيضًا يفرقون في درجات الخوف والرجاء، كما أوضح خواجه عبد الله الأنصاري الذي قسم الخوف والرجاء إلى ثلاث مراحل:

1-9 الخوف والرجاء العابر** الذي يمر على القلب ويمضي.

2-9 الخوف والرجاء المستقر** الذي يمنع الإنسان عن المعاصي.

3-9 الخوف والرجاء الغالب** وهو الخوف من المكر. (الأنصاري، صد میدان، 1/283–284).

يقسم الإمام الخميني الخوف والرجاء إلى ثلاث مراحل بناءً على حالات الناس؛ العامة من العذاب، والخاصة من العتاب، وأخص الخواص من الحجاب. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 224). إلا أنه في موضع آخر أضاف مرحلة رابعة وهي الأولياء الذي يتجلى برهبة عظيمة ورحمانية في قلوبهم، حيث يغيب الأنانية ويظهر عظمة الرحمة الإلهية. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 328). يرى الإمام أن اختلاف درجات الخوف والرجاء يرجع إلى تباين حالات العابدين والسالكين ومعرفتهم. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 326-327، الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 224).

لقد اعتبر خوف الأنبياء والأولياء مختلفًا عن خوف الآخرين؛ لأنه يأتي بعد حالة الصحو، ويُعدّ أسمى مراتب الخوف. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 331).

يعتبر الإمام الخميني مفهوم “الرهبة” نوعًا من الخوف الناجم عن تجلّي صفات الجلال والجمال الإلهية على قلوب الأولياء، مع وجود مراتب مختلفة لهذا النوع من الرهبة. هذه التجليات تتجلّى في الأفعال والأسماء الإلهية. في أعلى مرتبة لهذه الرهبة التي تُعتبر الرهبة الحقيقية، لا يكون للأنانية أو الرغبات النفسية أي تأثير، فهي مقام الفناء في الرهبة وإزالة الخوف. وفقًا لبعض الآيات القرآنية (سورة يونس، الآية 62)، يصل أولياء الله إلى هذه المرتبة النهائية. وعلى النقيض من الرهبة، تأتي الجرأة، ولكل درجة من درجات الرهبة ما يعادلها من درجات الجرأة. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 328-331).

أما بالنسبة للرجاء، فإن العرفاء قد حددوا درجات متعددة له:

أ. رجاء أهل العمل** الذي يدفعهم للاجتهاد وبذل المزيد من الجهد.

ب. رجاء أهل الرياضة الروحية** الذين يركزون على ترك ملذات الدنيا.

ج. رجاء أصحاب القلوب** الذين يتطلعون للقاء الله. (الأنصاري، منازل السائرين، ص 57).

يرى الإمام الخميني أن للرجاء أيضًا عدة درجات؛ بدايةً الرجاء في الثواب والرحمة الإلهية. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 195)، أعلى مراحل الرجاء هي رجاء العارفين، حيث يكون السالك ممتلئًا بأمل في الله دون أن يرى أي عمل يستحق الذكر لنفسه. ومع ذلك، فإن رحمة الحق تنير قلبه وتملأه بحياة جديدة. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 193-194). يرى أن الحالة المثلى هي تلك التي يجتمع فيها الخوف والتجليات الجلالية، بحيث يكون كلاهما في حالة توازن؛ لا يغلب الجلال على الجمال، ولا الجمال على الجلال. وصاحب هذا المستوى من التوازن هو نبي الله خاتم الأنبياء (ص). (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 142-144).

10-أسباب الخوف والرجاء.

تُبَيِّنُ بعض الرواياتُ الأسبابَ الثلاثةَ التي تُفضي إلى خوف المؤمن بشكل محمود:

أ. سعةُ المعرفةِ والإدراك. (المجلسي، بحار الأنوار، 22/67).

ب. الذنب الذي يجهل كيف سيتعامل اللهُ معه.

ج. مدة الحياةِ المتبقيةُ لدى الشخص والتي لا يدرك ما المخاطر والتهديدات المحتملة فيها. (الكليني، الكافي، 71/2).

د. وفقًا لبعض الروايات الأخرى، يُستند الرجاء إلى اليقين في لطف ورحمة الله تعالى. (الآمدي، تصنیف غرر الحکم ودرر الکلم، ص 83).

هـ. يعتبر علماء الأخلاق أن السبب وراء الخوف هو ارتكاب المعاصي وعدم الوصول إلى منزلة الأبرار. (خواجة نصیر، أوصاف الأشراف، ص 52).

و. يعتقدون أيضًا أن العلم بالضرر الناتج عن الذنوب والعقاب المرتبط بها ينبع من الإيمان بالآخرة. (فیض الکاشاني، المحجة البیضاء في تهذیب الأحیاء، 99/7).

ز. إن إدراك عظمة وجلال الله يُزرع في القلب شعورًا بالخوف. (الغزالي، إحیاء علوم الدین، 104/11).

ح. وكما أن العلم والإيمان بالثواب والآخرة يولدان الأمل في الإنسان. (النراقي، جامع السعادات، 281/1–282).

يرى الإمام الخميني أن أسباب ومبادئ الخوف المحمود هي إدراك النقص الجوهري والقصور الذاتي، أو التأمل في شدة العذاب والمخاطر المرتبطة بحياة الإنسان، وموته، والحساب والميزان. وبالنسبة له، فإن خوف العارفين ينبع من تجلي الجلال والعظمة الإلهية. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 226 و361، الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 137-138). ينشأ الخوف غير المذموم من عدة عوامل، منها قلة الفهم العقلي والخضوع المتكرر للتصورات الوهمية، مثل الخوف من الأموات والجن. (النراقي، جامع السعادات، 247/1). ومن الأسباب الأخرى الارتباط الشديد بالدنيا، مما يؤدي إلى الخوف من الموت. (النراقي، جامع السعادات، 249/1). على الرغم من أنه يعتبر الخوف من الموت أمرًا فطريًّا. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 358-359)، إلا أنه يذكر عوامل لذلك؛ ومنها: الاهتمام بالدنيا والتعلق بها، وحب البقاء، وكراهية الفناء، وعدم الإيمان، وطمأنينة القلب في الانتقال من الدنيا إلى دار البقاء، والاهتمام بإصلاح أمور الدنيا وإهمال إصلاح أمور الآخرة. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 358-359)، لكن خوف الإنسان الكامل من الموت ينبع من الخوف من عظمة الله تعالى. (الإمام الخميني، الأربعون حديثًا، ص 361).

يرى الإمام الخميني أن الرجاء المحمود ينشأ من تجليات جمال الله تعالى ورحمته. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 143). ويرى أيضًا أن سبب الرجاء هو حسن الظن بالله، الذي ينشأ بدوره من العلم بسعة رحمته، والإيمان بكمال أسمائه وصفاته وأفعاله. في المقابل، اليأس هو الذي ينشأ من سوء الظن والجهل بسعة الرحمة الإلهية، وبما أن معرفة الإنسان بالحق تعالى هي بحسب فطرته الأصلية، فإن أنسه وأمله ينشآن أيضًا من خلال هذه المعرفة وتجليات الأسماء الإلهية. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 130). ومنشأ الرجاء المذموم هو الحجاب عن الفطرة الأصلية وعن الحق وكمالاته الذاتية والصفاتية وعن سعة رحمته. (الإمام الخميني، حديث الجنود، ص 129).

* دكتوراه فلسفة في جامعة المصطفى(ص) العالمية –  قم.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.