الفلسفة والحياة

الفلسفة والحياة

  إن المشتغل بالفلسفة والمهتم بالقضايا الفكرية والفلسفية تسترعيه – دومًا – مهمة الاهتمام بالشؤون الحياتية والعمل على الارتقاء بها وتحسين جودتها، وذلك سعيًا من جانبه إلى تحسين نمط الحياة والارتقاء بسلوك الأفراد، وجعل هذا الأمر هدفًا رئيسًا من أهدافه. كيف لا وهي- أعني الفلسفة- تهتم أو بالأحرى تبحث في قضايا الأخلاق والسياسة والعدالة وغيرها من القيم الأخلاقية التي تمس – بشكل مباشر – النواحي الحياتية والمناحي الاجتماعية كما تبدو الفعالية الحقيقية للفلسفة، أو بالأحرى لفعل التفلسف في تحقيق، أو بالمعنى الأدق، تحسين جودة الحياة ليس على مستوى الأفراد والجماعات فقط، بل على مستوى العالم بأكمله، فالسلام العالمي أو بالمعنى الأشمل السلام الكوني يتعرض للتهديد إذا انتهكت الحقوق وتقيّدت الحريات سواء السياسية منها أو الدينية أو الاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية، فمن المسلّم به أن انتهاك أيًّا من هذه الحريات يقرّبنا من الحرب، ويبعدنا عن السلم مما يؤثر سلبًا على جودة حياتنا وسلامة مجتمعاتنا وأمن قوميتنا. وهنا تبدو أهمية الفلسفة وذلك في العمل على توفير سبل التعايش السلمي بين الأفراد وداخل المجتمعات،  والذي يعدّ أسمى هدف إنساني تتفق عليه البشرية جمعاء منذ نشأتها وحتى يومنا هذا؛ إذ استطاعت الفلسفة أن تقدم من النماذج الفكرية والتعاليم الفلسفية  – عبر العصور والأزمنة المختلفة –  ما أسهم بشكل مباشر وبصورة حقيقية في تحقيق، أو بالأحرى تنمية وتحسين جودة الحياة من منظور عقلاني فلسفي، فكانت ولا تزال علمًا نافعًا أفاد البشرية جمعاء منذ فجر التاريخ وحتى عصرنا الحاضر، ولعل نظرة واحدة إلى تاريخها كفيلة بأن توضح لنا إلى أي مدى استطاعت الفلسفة أن تخدم حياتنا في شتى مناحيها وكافة جوانبها.

فلقد استطاعت الفلسفة – عبر عصورها المختلفة – أن تكون علمًا نافعًا له آثاره الفعّالة وإيجابياته الملموسة ودوره المفعّل في النهوض بالنواحي الحياتية، والمناحي الاجتماعية والسياسية وغيرها من الجوانب الأخرى، فاستطاعت أن تعالج بشكل مباشر الكثير من الأوضاع الاجتماعية والفكرية والأخلاقية وغيرها، فكانت ولا تزال تمثّل ضرورة حياتية وحتمية اجتماعية وسياسية وأخلاقية لا غنى عنها على مستوى الأفراد والمجتمعات .

 كما تبدو أهمية الفلسفة ودورها الفعّال في النهوض بالذوقيات العامة وهو أمر من الأمور التي أصبحنا في أمسِّ الحاجة إليها في هذا الوقت الذي نعيش فيه، وخاصة في ظل هذه المستحدثات الجديدة، وعبثية الغزو الفكري والثقافي المهيمن على الأفراد والجماعات بشكل مخيف، ولعل نظرة واحدة إلى هذا العالم من حولنا هي كفيلة تمامًا بأن تشعرنا بما صار عليه مجتمعنا؛ ذلك أن التافهين من محدودي العقل والفكر، ومن منحدري الثقافة والاطلاع، ومن أشباه القدوة والمثل العليا قد أمسكوا بكل شيء فعمّ الابتذال وانتشر الانحلال، وساد الانهيار في كل القيم الإنسانية وأحاط الفساد كل شيء حتى صار – إن صح التعبير – فسادًا مبرمجًا ذوقًا وأخلاقًا، قيمًا وسلوكًا، شكلًا وموضوعًا، وأصبحنا نعيش في حالة من انحدار للذوق العام في شتى مجالات حياتنا لغة وسلوكًا، محتوًى وموضوعًا وفكرًا، وعمومًا أصبحنا نعيش في زمن الإسفاف والابتذال والهبوط والانحلال الضالّة دون الشموخ، الضحالة دون العمق، التصادم دون التفاهم،  السجال دون الحوار، فصرنا نتعايش دون أن نعيش، وصرنا نعمل دون أن نتأمل، فأصبحنا نفسًا بلا روح، وجسدًا بلا قلب.  

ومن هنا، ومن هذا المنطلق، فلا بدّ من إعادة النظر في كل ما حولنا، ولا بدّ من مراجعة كل ما يحيط بنا، بادئين بسلوكنا وأفعالنا، ولا بدّ من إعمال العقل في كل ما يدور حولنا لأجل تقييمه، أو بالأحرى لأجل تقويمه بما يتناسب مع هويتنا الثقافية، ومنظومتنا الدينية، ومتطلباتنا الفكرية، وإلزاماتنا العقلية، وأصولنا الحضارية، ولا بدّ من ثورة للعقل – إن جاز التعبير –تصحّح مفاهيمنا، وتعيد بناء أفكارنا وتمحي فينا تلك المستحدثات التي أغرقتنا في عالم الإسفاف فأودت بكل جميل بداخلنا، وتقضي على تلك العبثية التي ألمّت بآرائنا وأفكارنا، هذا إذا أردنا العيش لا التعايش، الارتقاء لا الانحدار، الترفع لا الابتذال، وإذا أردنا الارتفاع إلى منابع الخير بعيدًا عن نوازع الشر، وإذا أردنا دنيا الفضيلة بعيدًا عن مفاعيل الرذيلة، وإذا أردنا الأفضل دون الأسوأ.

وهنا يبدو دور الفلسفة واضحًا تلك التي تسعى بنا إلى الخروج من محاريب الجهل ومنحدرات الواقع إلى ساحات الرقي وآفاق المثل، إلى المحبة دون الكراهية، إلى الانفتاح دون الانغلاق، إلى التسامي دون الانحدار، إلى الفضيلة دون الرذيلة، إلى الحق دون الباطل، والخير دون الشر، والجمال دون القبح تلك التي تسعى إلى الارتقاء بذوقياتنا العامة، وذلك من خلال إعمال العقل دون إهماله لأجل استعادة إنسانيتنا بما يتناسب مع فطرتنا التي فطرنا الله عليها؛ إذ لا تبديل لخلق الله.           

*  أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب، جامعة المنوفية بمصر.

الأستاذة الدكتورة نادية البرماوى

الأستاذة الدكتورة نادية البرماوى

أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة المنوفية....مصر



المقالات المرتبطة

دور علماء الدّين ومساهمتهم الإنسانية

ما مرَّ من أدوارٍ قد تصدّى علماء الدِّين لتحمّل مسؤوليتها، إنما هي بعضُ وظيفتِهم وواجبهم الإنساني الطبيعي، وعهدٌ قد أخذه الله عليهم، ومساهمتُهم الضرورية في حركة الإنسان والمجتمعات.

الحسن المجتبى (ع) غربة إمام في وطن

كانت حياة الإمام الحسن (ع) حافلة بالعلم والجهاد والكفاح والمظلومية لصيانة دين الإسلام من أيّ  شائبة. وقد عانى في مجتمعه

الطبيعة البشريّة: ما-فوق-المفهوم- قراءة في فكر هانس أُرس فون بلتزار

لقد اعتاد أغلب المفكرين مقاربة مفهوم الطبيعة البشرية بمصطلحات عمومية وجامدة،

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<