تجليات عبقرية الشهادة في جدلية الموت والحياة: الرؤية محور وجود المرء.
by الشيخ شفيق جرادي | ديسمبر 28, 2020 4:07 م
الرؤية محور وجود المرء
الحديث في الموت يصعب أن يكون خارج سياق الحياة، لما لهذين المخلوقين (الموت والحياة) من تجادل تكاملي لتحقيق وحدة الهدف الإلهي المـُتوخّى للإنسان ومن الإنسان، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[1][1]. تثير الآية في النفس انطباع كون الحياة كما الموت حدثًا هو الخَلْق. وما من فعل أو حدث إلهي إلّا وله غاية. والغاية المـُصَرَّح بها هنا هي البلاء، الامتحان، والاختبار، الذي بموجبه تنكشف الأعمال المـُفْصِحة عن الحَسَن والقبيح، والأحسن. ولما كانت الحياة – الموت، هي الفعل الوجودي الأعمق والأصعب في دائرة الكينونة البشرية. كان العمل الأحسن مورد تنافس شديد التعقيد؛ لا يسلكه إلا أهل العبقرية من أهل الإلهام الذين يدخلون عالم الاستثناء عن سنن العادة، والدائم، والمألوف. وبمحضر شهادة استنثائية، يأخذ الكلام استحقاقات من المدخلية والتوصيف والشرح والتأمّل كمداخل للاستئذان بإدلاء الرأي في حضرة الحضور والشهود، من ذلك أن نسأل حول معنى الموت، وهل هو مجرّد قلق أثارته الأديان، أم أن ما من فكر وفلسفة إنسانية إلا وولجت عُبابه؟
ثم إن كان الموت حقًّا على العباد، وحتمًا مقضيًّا، فما معنى الحديث حول عبقرية الموت؟ لنصل إلى مثير الأحزان ومحور الكلام في هذا الموضوع، صاحب الشهادة العبقرية الحاج قاسم سليماني في وصيته التي تركها للأجيال بعده.
* * *
وقبل أي بداية أراني أقف عند كلام أمير الإيمان والبيان، وأيقونة الشهادة الإمام علي (ع) في رواية المتقين، التي لكأنما صيغت لترسم شخصية الحاج قاسم سليماني. “قد أحيا عقله، وأمات نفسه حتى دق جليله ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه”.
* * *
لا شكّ أن مفصل كل عيش للمرء رهين تصوراته وأحكامه وفهمه. وما أقصده هنا، هو فهمه الذاتي كما تصوراته وأحكامه النابعة من ذاته. وهنا لا يتوقف الوضع عند الوعي فقط، فلتاريخ الوعي وثقافته وسيادته على الذات الفردية والعامة دوره المركزي في كل ما يتصل بالعيش النفسي والروحي، فضلًا عن المعرفي والأخلاقي والاجتماعي، ولعلّ التحولات الكبرى في حياة الناس إنما نبعت من تحولات كبرى، وعبقرية فذّة في مقاربتهم الأمور، ورؤاهم للوجود والحياة والأحداث حدَّ التماهي. بحيث صارت هوية ذواتهم الفردية أو الجمعية، وِفقًا وَوَقْفًا على تلك الرؤى والتصورات والأحكام. وغالبًا ما يكون المنطق والبرهان تابعًا لحدس عبقري يلتمع من خلال تجربة عيش، أو تجربة روح وذات عميقة وصادقة وشفافة. ولطالما كان الذِكْرُ أو التَذَكُّر ملهمين لما فيهما من العِبر. ولطالما كان التأمّل الذي يتحول تدريجًا إلى حقيقة حال هؤلاء؛ بمثابة روح سيرهم في الحياة. يعيشون الآفاق من عالم يحيط بهم بالتأمّل، ويعيشون سِيَر التاريخ والحاضر بالتأمّل، ويعيشون ذواتهم عيشًا تأمّليًّا ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[2][2].
قد يُحار المتفلسفون في منشأ هذا التأمّل في تقدير معاني الموت والحياة، بحيث يتداولون قَبْلِيَّتُهُ، أو أنه جاء عبر معرفة بَعدِيَّةٍ أثارتها فيهم صدمة تجربة الموت الناشئة من فقدان عزيز أو عظيم، أو ناشئة عن مرض.. ما يخلق في الذات وضعًا يعيد تشكيل كل مألوف ومُشاهد عادة، ضمن منظورٍ جديد ومُختلِف. بحيث إن الموت يعطي فرصة تأمّل لفهم جديد للحياة عندهم.
ومهما كان الأمر، فإن ما نعتقده أن الموضوع الذي سنثيره يقوم على جملة ركائز منها:
-
فطرية الحياة، وقيمة حفظ الذات واستمرارها الذي يولد الرغبات فيها، كما يولد القلق والخوف من تناهيها أو انتهائها بالموت وغيره.
-
طبيعة الإنسان القائمة على ملكات ذاتية من القابليات الأخلاقية والمعرفية والدفاعية، التي تُجهزه لاحتساب كل أمر والتدقيق فيه بُغية الولوج إلى أعماق الأمور والأشياء، والقيام بما يلزم، وأن يبني على الشيء مقتضاه.
-
تأثير ما اعتاده المرء من تراث حياة زاخرة بالقيم والمعطيات والمعتقدات والقناعات المحتشدة فيه عبر بيئته وتاريخه الذي ينتسب إليه، ثم ما يثيره فيه إيمانه بسياقات من تاريخ الأبطال والرموز والملهمين.
-
ولا يفوتنا أن نذكر اللحظة التي قد تتقد أمام الإنسان، فتُشعِل فيه كل كيانه وفكره لتولِّد عنده انبثاق روح فكرة أو إرادة أو رؤية أو موقف. وهذا ما يحصل عادة لأهل الذوق سيما منهم أهل العبقرية.
كل هذا يخلط الأمور أمام الناظر المتـُدبّر؛ ليندهش وليسأل وليبحث. ما السبب؟ لماذا كان ما كان؟ وكيف كان؟ ومن أين؟ ويجنح المتدبّر ليواكب الأمور بعقله وأفكاره؛ فيولد من سؤال الدهشة محاور للفكر والنظر يصل أحيانًا ليخلق عنده عبقرية مُكْتَسَبَة، عبقرية الفيلسوف، أو الشاعر والفنان، لكن إن كان كل مُكْتَسَبٍ يعود لذات حضرت عندها الحقائق والعبقرية فكانت واحدةَ الذات، أو أربابًا للمعنى والمثال، فإن عبقرية الفلسفة والفن المستلّة من عبقرية الذوات الرموز في مثاليتها، تكون مَدينَةً لتلك الذوات.
مهما فعل وكتب فلاسفة اليونان بذوق عبقري، هم مدينون لعبقرية ذات سقراط الذي جسَّد لحظة ولادة الموت عند قدس أقداس الحياة والحقيقة. لكنها عبقرية صيغت بمواقف من البيان؛ والبيانُ جماليةٌ في الإنشاء إن تماهى مع الحقيقةِ ولم يغادرها؛ وتماهى مع جرأة دهشة السؤال فلم يجافيه وأخلص له؛ ليولّد عالمًا من الحكمة والفلسفة، لكنها فلسفة قائمة بين عالمي الحقائق والاعتبار؛ وهي جدلية لا تتوقف عن صوغ المقولات والقوالب المتغايرة مرةً بعد مرة في مرايا عقول المتلقّين من أصحاب الخبرة والذوق والعقل.
الأمر الذي ولَّد سياقًا من نهرٍ لم يتوقف لفلاسفة الغرب ومن تأثّر بهم. فيهم صاحب الأصالة، وفيهم صاحب الصُنعة؛ وهنا الخداع. وهو ما سمح لمسار من جدل الوجود والعدم في بناء تاريخ من الحضارات؛ لحضارة كُتِب عليها أن تموت وتُميت لتعيد بناء لباسها وتشكّلها وألوانها من جديد. سواءً بإعدام الحقيقة والإله والإنسان والتاريخ، أو بجعل الحياة لعبة تحترفُ فيها سحر الفتنة والجديد.
ومهما فعل لاهوت الدين المـُحَصَّن بسلطة الغرب؛ ورغبة السيادة الكونية؛ من تقديم عبقرية الحب والمرونة، في شاعرية دينية أرخت العقال وتناست الشريعة. لتهب الحياة إلى خصمها الدنيوي المـُرمَّز بقيصر؛ واستأثرت بالخلاص لكرازة لاهوت يمثّل الله في معبده وسلطته وقرابينه وطقوسه. فإنها عبقريةٌ تدِينُ للحظةٍ عبقرية قامت على أيقونةِ إلهٍ ثالوثيِّ الحب والمحبة والحبيب يُصلب مُهانًا على خشبة. ليقوم من بين الأموات، فيقهر الموت بالموت. وليولد معنىً لإله آبٍ بلا فاعلية، وإله ابن هو الفادي، وروح قدس، سرعان ما صار كنيسة. إنها عبقرية اللحظة والتعبير العفوي والمكثّف “قهر الموت بالموت”، وجعل الشخص هو الحياة والحق والطريق، بالموت الفادي. إلا أن ما تلا عبقرية اللحظة العفوية من سِلْكٍ ومؤسسةٍ ولاهوت تحوَّل ليكون مفترق طريق في حياة التأمّل الديني والفلسفي والإنساني، وقد طبع تأثيره على كل اتجاه ديني أو إلحادي؛ لاهوتي أو مدني علماني في الغرب ومن تبعه.
وبناءً على الذوق العبقري المـُؤسِّس؛ في حالة الفيلسوف والمتألّه في المخيال الغربي، نحن أمام ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: غياب دور النصير والعضد عند لحظة استحقاق الموت. فطلاب سقراط كحواريي المسيح كانوا ينظرون من بعيد؛ وكأن اللحظة كانت يتيمة في انتمائها لأي محيط أو آخر. بل وأنها كانت كلمةٌ تُناظِر ما لا صِدْقَ فيه. موت فردي، وحقٌ يبحث عمن يُوَرِّثُهُ ابتداءً لا استئنافًا لعلاقة، وهو ما جعل في الحالة الأولى عالمـًا من العقل الكلّيِّ الاعتبار والمولِّد لاعتبارات تتأرجح بين عقل الدنيا والزمن، وعقل الميتافيزيقا، بهيولى من الكلمات وحدود الماهيات المعلنة عن هذا الحد وذاك الحد…
أما في الحالة الثانية فجدل بين الباعث (الآب)، والفادي (الابن) لعالم غائب غارق بالخطيئة، وليست الخطيئة سوى رمز للموت والحرية الشخصية المفتوحة على ما لا تعلم. فعالم الآلهة، بجدله يدخل الزمن/الخطيئة/ الموت. ويقْدحُ الشعلة الإلهية المتزمّنة الخارقة لعالم العَنْصَرة لمـُشاهِدٍ مدهوشٍ بالجهل المـُنْتَظِرِ لأمرٍ ما يخترقْهُ ليوَلِّد فيه إنسانًا آخر، لا ينتمي لزمن المكان. فتنطلق أَلْسِنَةُ الإلهام عند جمع من حوارييِّ الدَّهْشة الناظرين، ولتنطلق الكلمات الجوّالة بين شعوب من عالم الموت الخطّاء. عساها تولد من جديد ما أسماه اللاهوت (روح القدس)، وأسماه ورثة الإلهام، الإيمان، والحب، والخلاص الوحيد. لتَبْنيه على صخرةٍ تتحول إلى مؤسسة هي كنيسة.
الملاحظة الثانية: هي تولُّد المؤسَّسة. في الحالة الأولى نحن أمام الأكاديمية الأفلاطونية والأرسطية التي توالت في كنف مؤسسة أكبر هي بذور المدينة، ومن ثَمَّ الدولة. وإن كانت المؤسسة الأكاديمية والدولة هي البذور الأولى لحضارة وعقل حضارة شكّلت مسارًا ممتدًا من التحولات إلى اليوم أغرب ما فيه تنكُّر ما قبله وإعادة بعثه من جديد ليُصبح الأيقونة عند كل مرة كأنه مولود جديد، وطرحٌ جديد واعتباراتُ كلّي العقلِ الراقصِ على إيقاعِ الكلماتِ والحيثياتِ بين الموتِ والبعثِ فيما يشبه العود الأبدي.
لكنه بعثٌ لموت أرسى قاعدة أن ما من حضارة إلا وتشيخ فتموت، ثم تكون الولادة الجديدة.
أما الحالة الثانية فالمؤسسة هي الكنيسة، ومدينة الله. وسرعان ما كانت الكنيسة حافظة لسر الخلاص؛ حتى أَشاعتها الكلمات، وتأرجحت بين أن تكون هي مدينة الله (الكنيسة الأم)، وبين كنائس تعدّدت بين جدل الصراطية والتجدّد. والحاكم الحاسم هو أن تؤمن؛ إذ بالإيمان تحفظ انبثاق اللحظة الأولى والشعلة الأولى، والثلاثي المجهول السر المتجلبب بالنقيض.
ولما كانت المؤسّسة لا تقوم إلا على نحو من العقلنة، والانتماء إنما يقوم على الإيمان. فكانت القاعدة الذهبية (آمن ثم افهم). وهو ما أفسح للزمن، لقيصر، أن يخترق حصون المقررات الإيمانية، وليتماهى مع الإيمان المـُتفهِّم لكل وافد من زمن الإنسان، فتتشكّل حضارة مدينة الإله وفق نظام دولة قيصر. بالتالي حضارة الغرب المسيحي.
[1][3] سورة الملك، الآية 2.
[2][4] سورة آل عمران، الآية 191.
Endnotes:- [1]: #_ftn1
- [2]: #_ftn2
- [1]: #_ftnref1
- [2]: #_ftnref2
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
Source URL: https://maarefhekmiya.org/11392/3abkariat-shahada1/
Copyright ©2024 معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية unless otherwise noted.