التفلسف على ضفاف علم الكلام

التفلسف على ضفاف علم الكلام

1st مايو 2024

فيما يلي محاولة لاستحضار خلاصة مكثفة عن التصور، الذي يراد له أن يسود عن علم الكلام وتاريخه وارتباطاته العقلية والفلسفية. وهو تصور عام، قائم على تحقيب تاريخي موجّه، ينزع إلى تأثيم الفلسفة بتحميلها تهمة ضمور الكلام، بغية استعادة علم الكلام بوصفه علمًا حيًّا وفاعلًا من شأنه أن يتطرق إلى الحلول الشافية لمشاكل الواقع الإسلامي. وفي الوقت الذي تسوغ هذه المحاولات لنفسها السعي إلى إحياء علم الكلام باعتباره علمًا أصيلًا ومستقلًّا سيما في نشأته ومنبته، إلا أنها غالبًا ما تتدحرج في مآلاتها – بحكم قوة الجذب الفكري للحضارات السائدة – إلى الوقوع في شرك الإسقاطات المستعصية على الواقع، وفي فخ الاستنبات في غير أرض، كما يظهر ذلك بوضوح في فهرست الموضوعات المشتغل عليها في هذا الجانب. وإذا كان من الحق أن يرفع أصحاب هذه الدعوات الصوت عاليًا، في مرحلة تمهيدية، يعقبها اعتدال النظر، واستقامة الرؤية، وتوازن الفكر، فلا نملك حينئذٍ إلا أن ندرج هذا التصور العام في مرحلته الراهنة في إطار المسائل جدلية الطرفين، والتي تستدعي نقاشًا ناضجًا بعيدًا عن حماسة القلم وفورة الادعاء.

لا شك أن علم الكلام ليس علمًا وافدًا من خارج الدائرة الإسلامية، وإنما تشكّل في الفضاء الإسلامي استجابة لاحتياجات الواقع ومتطلباته، فكان المسلمون الأوائل يرجعون في فهم دينهم إلى القرآن والسنّة. وكانت لديهم اجتهادات مختلفة في فهم النصوص وتفسيرها. ومن ثم الدفاع عن تلك المسائل الدينية والترويج لها؛ بلا فرق في ذلك بين الأحكام الاعتقادية أو العملية أو الأخلاقية. من هنا، عرّفه الفارابي في كتاب إحصاء العلوم بأنه صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدّدة التي صرّح بها واضع الملة.

بدايات تشكّل الكلام كانت نتيجة ظهور اختلافات حول مجموعة من المسائل التي أثيرت خلال القرن الأول الهجري، كالخلاف الواقع حول مسألة الإمامة والتي تبلور على إثرها التيار الشيعي. والخلاف الحاصل في مسألة الإيمان والكفر، والذي ظهر بنتيجته كل من الخوارج والمرجئة. والخلاف حول مسألة القضاء والقدر وما نشأ عنها من مقولات القدرية. والخلاف حول مسألة الصفات الإلهية والتي أدّت إلى ظهور المشبهة والجهمية. ومن ثم فقد ترسخت هذه الاتجاهات بصورة تيارات كلامية جامعة خلال القرن الثاني للهجرة، واستقر مصطلح الكلام والمتكلم في التداول العام آنذاك. وإن كان علم الكلام بوصفه علمًا مستقلًّا لم يعرف إلا بعد حلول القرن الثالث الهجري.

شهد القرن الثاني للهجرة ظهور فرقة المعتزلة، والتي امتد تأثيرها إلى القرن الخامس منه. وقد رفع المعتزلة رتبة العقل فوق رتبة النصوص الدينية جاعلين إياه من المصادر الأساسية للمعرفة الدينية؛ وذلك لما رأوا أن العقائد لا تستفاد من خبر الواحد، وأن حظر التدوين تسبب بانقطاع سلسلة الأسانيد عن بلوغ مستوى التواتر، كما أن كثيرًا من آيات القرآن الكريم اعتورها التشابه أو الإجمال، فانتزع المعتزلة نتيجة ذلك نزعة عقلية كاملة، وحصروا دور النصوص بالتأييد والإشهاد. ومع بداية القرن الثالث الهجري، اطلع المعتزلة على المفاهيم والاستدلالات الفلسفية، واستفادوا منها في تظهير معتقداتهم، ثم بلغ امتزاج الكلام المعتزلي بالفلسفة اليونانية شأوًا كبيرًا بين متأخري المعتزلة.

في مقابل المعتزلة، حصر أهل الحديث مصادر المعرفة بظواهر الكتاب والسنّة، واعتبروا أن علم الكلام القائم على الاستدلال العقلي من جملة البدع المحظورة. وبذلك واجه الكلام خصومة مشدّدة من قبل أهل الحديث في فترة تشكّله في بداياته، حيث عارضه بشدة أمثال أنس بن مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد بن حنبل. واحتج عليهم المتأخرون أمثال الغزالي بأن الكلام ليس إلا معرفة الله بالدليل، وأن القرآن مشحون بالحجج والأدلة في مسائل التوحيد، وإثبات الباري، والمعاد، والنبوة. وكما على الساحة السنية، فقد تحفظ بعض أهل الحديث من الشيعة على المسلك الكلامي بنزعته العقلية، انطلاقًا من بعض النصوص التي يظهر منها النهي عن التكلم. على الرغم من أن النصوص نفسها تشير بوضوح إلى أن النهي إنما توجّه إلى خصوص من لا يحسن الكلام، أو أنه يثبت أصولًا على خلاف الأصول الحقة، أو أنه يتكلم في تشبيهه تعالى بخلقه، فلم يكن تحريمًا للكلام في نفسه.

مع انطلاقة القرن الرابع للهجرة، وجدت محاولات لتجاوز إفراطية أهل الحديث وتفريطية المعتزلة. وكان من نتيجتها أن تحول أبو الحسن الأشعري من عقيدة المعتزلة إلى عقيدة أهل الحديث، فخالف المعتزلة بإنكاره لأحكام العقل العملي؛ وقوله بشرعية الحسن والقبح. كما خالف أهل الحديث من خلال تبنيه لوجوب الاستدلال العقلي واستحسان الخوض في علم الكلام. وبذلك فقد رفض الأشعري الاحتكام إلى العقل العملي في الكلام، فيما احتكم إلى العقل النظري إلى جانب الاستدلال بالقرآن والحديث.

من جانب آخر، ذهب أبو منصور الماتريدي في القرن الرابع الهجري أيضًا، إلى القول بحجية العقل النظري في النظر والاستدلال، فخالف بذلك أهل الحديث، كما خالف أبا الحسن الأشعري من خلال قبوله بالاحتكام إلى العقل العملي والقول بالحسن والقبح العقليين. وقد حدّد الماتريدي مصادر المعرفة بالسماع المباشر، والنقل المتواتر، وبخبر الواحد إذا توافق في مضمونه مع حكم العقل، كما استفاد من حكم العقل نفسه في استنباط المعارف الدينية في الموارد التي تفتقد إلى النص. وبذلك فقد تمسك الماتريدي بالعقل النظري والعملي، وقال بالوجوب العقلي في معرفة الله، خلافًا لأهل الحديث والأشاعرة.

وفي خلاصة سريعة عن موقف المسلمين الأوائل من الكلام، فقد ذهب المعتزلة إلى القول بأن المعارف العقدية هي معارف عقلية، وحصروا دور الوحي في تأييد حكم العقل والإرشاد إليه. فيما ذهب أهل الحديث إلى حصر مصدر الاعتقاد بالكتاب والسنة، واحترزوا عن الخوض في المسائل الكلامية. بينما ذهب الأشاعرة إلى أن الواجبات كلها بما فيها من حسن وقبح إنما تستفاد من النقل، وينحصر دور العقل الأساس في الدفاع عن الدين. أما متكلمو الإمامية فقد اتفقوا على أصل حجية العقل والوحي، وانقسموا إلى اتجاهات مختلفة في هذا المجال، يمكن تلمسها على النحو التالي:

باعتبار أن الإمام من وجهة نظر الإمامية أحد المصادر الأساسية للمعارف الدينية، فقد بذلوا اهتمامًا كبيرًا بنقل الروايات وجمعها وتصنيفها، وقد ترافق هذا النشاط المشهود في الكوفة خلال القرن الثاني والثالث للهجرة مع الأخذ بالاستدلال العقلي في إثبات المعارف الكلامية.

شهد القرن الثالث للهجرة انتقال الميراث الكوفي إلى مدينة قم نتيجة الجهود التي بذلها أمثال أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وإبراهيم بن هاشم الكوفي. وقد عرف الأخير بأنه أول من نشر حديث الكوفيين في قم، وعن طريقه انتقلت أفكار المتكلمين من قبيل هشام بن الحكم، وسار على نهجه ولده علي بن إبراهيم، ومحمد بن يعقوب الكليني، والذي ضمّن كتابه الكافي تبويبًا خاصًّا بالنصوص الاعتقادية.

وفي المقابل، عرف أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري بتشدده في مواجهة الغلو والحد من انتشاره، كما عرف بتشدده في الأخذ بالنصوص وفق معايير صارمة لم تقتصر على تقييم الأسانيد، وإنما اشتملت أيضًا على تقييم الروايات وفقًا لمضامينها العقدية.

مع وفاة الشيخ الصدوق (عام 381 للهجرة)، كانت بغداد تتهيأ لاستقبال ميراث الكوفة، ولتكون مركز الثقل للمدرسة الكلامية الشيعية سيما في نزعتها العقلية، وقد حدث ذلك نتيجة توفر الظروف المناسبة في بغداد، وظهور آل نوبخت بنزعتهم العقلية، وانتقال بعض المعتزلة إلى التشيع، واكب كل ذلك ترجمة الآثار الفلسفية إلى اللغة العربية، ودعم السلطة البويهية للنشاط العقلي في بغداد.

في هذه الظروف نشط الشيخ المفيد (ره) في بغداد حدود العام 360 للهجرة في تأسيس كلام الإمامية بما يتوافق مع متطلبات عصره واحتياجاته. وتابعه في ذلك تلميذه السيد المرتضى علم الهدى، ثم الشيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة، واستمرت هذه الجهود حتى منتصف القرن الخامس للهجرة. وقد غلب على هذا المسار الجديد اعتماد النزعة العقلية، مع التمسك بالنصوص الدينية كشواهد على المسائل الكلامية. فاقترب بذلك الكلام الإمامي من الكلام المعتزلي في الأسلوب والمنهج الاستدلالي، إلا أن جهود متكلمي الإمامية انصبت بالدرجة الأولى على الدفاع عن مسألة الإمامة والتي تشكل جوهر التشيع. ومع دخول السلاجقة إلى بغداد، اضطر كبار العلماء إلى الخروج منها أمثال أبي صلاح الحلبي والكراجكي والشيخ الطوسي، الذي غادرها عام 450 للهجرة.

في هذه المرحلة من تاريخ الكلام، ظهرت بوادر التوجس في العلاقة بين الكلام والفلسفة بشكل أوضح من ذي قبل؛ نظرًا لاشتغالهما على أرضية مشتركة، فقد كان كل من الفلسفة والكلام يتطرقان بنظراتهما إلى تقديم رؤية كلية ترتبط بنشأة الإنسان ومسار حياته ومصيره، مع احتفاظ كل منهما بأدواته التي تتشكل منها هوية العلم الخاصة. وتعزى هذه الاختلافات بينهما بحسب بعض المعاصرين إلى عدة جهات، تتوزع على طبيعة المنهج، واللغة، والمصدر المعرفي، والموضوع، وطبيعة البحث. فمن جهة المنهج؛ ظهر علم الكلام كعلم دفاعي بغرض الحفاظ على الحقيقة المنجزة دينيًّا والمتمثلة بأصول الدين، بينما اعتمدت الفلسفة على البرهان بغرض الكشف عن الحقيقة انطلاقًا من البديهيات العقلية. ومن جهة اللغة؛ يستحضر الكلام مصطلحاته من داخل النصوص الإسلامية بينما تستورد الفلسفة مصطلحاتها من خارج الثقافة الإسلامية. ومن جهة المصدر؛ يعتمد الكلام على النقل بالدرجة الأولى بينما اعتماد الفلسفة هو على العقل لا غير. ومن جهة الموضوع؛ تعنى الفلسفة بجميع العلوم الواقعية من منطق ورياضيات وطبيعيات وإلهيات، بينما يهتم الكلام إلى جانب العقليات بنوع من العلم الاعتباري المرتبط بالسمعيات. ومن جهة طبيعة البحث؛ يثبت علم الكلام النبوة الخاصة والإمامة الخاصة مستفيدًا من النصوص والأحداث التاريخية الخاصة. أما الفلسفة فتبحث في النبوة العامة من جانب عقلي كلي.

بصرف النظر عن المناقشة في مدى صحة هذه الاختلافات وعدم صحتها، فإن هذه الفوارق في الجملة شكّلت انحيازًا وتمايزًا واضحًا ما بين علم الكلام والفلسفة والتي كانت قد فرضت وجودها منذ ما بعد عصر الترجمة. وقد أدّى هذا الاختلاف إلى صراع طويل بين أتباع هذين العلمين ظل الكلام خلاله محتفظًا باستقلاليته وتمايزه، لا أقل إلى حدود القرن السابع الهجري، حيث ظهر تأثير المنطق والفلسفة على الكلام بنحو واضح وصريح.

وقد بدأت مؤثرات هذا التحول بالظهور خلال القرنين الرابع والخامس الهجريين، فقد طرحت مسألة تمايز العلوم من خلال الموضوعات، وتم تحديد موضوع علم الكلام تبعًا لذلك بخصوص المسائل والآراء الاعتقادية. واستقرت غاية الكلام في استنباط هذه المعتقدات من مصادرها الأساسية، وتبيينها ضمن نظام كلامي جامع فضلًا عن الدفاع عنها. كما تحدد المنهج الكلامي بالاستدلالات العقلية إلى جانب الأدلة النقلية. وبذلك تحول الكلام من وظيفة واحدة تتعلق بمسائل غير منضبطة في حد معين، إلى وظائف متعددة تتعلق بمسائل محددة ومحدودة، أي إن وظيفة الكلام انتقلت من الدفاع عن كل ما يتعلق بالمسائل الدينية إلى دراسة خصوص العقائد الدينية من جوانب متعددة كالاستنباط والإثبات والتبيين والدفاع.

وقد ترسخ هذا المنحى بفعل جهود بعض متكلمي الأشاعرة كالغزالي في القرن الخامس الهجري، والفخر الرازي في القرن السادس، بحيث صار لزامًا على الطالب آنذاك أن يدرس المنطق ومصطلحات الفلسفة كمدخل إلى الكلام. هذا على الرغم من تحفظ الكلام الصارم إزاء بعض مقولات الفلسفة من قبيل قدم العالم، وعلم الله بالجزئيات، والمعاد الجسماني. وبذلك اقتصر التأثير على المفاهيم والمناهج الفلسفية، وظل الكلام متمايزًا في مضمونه.

وقد ناقش الغزالي في موضوعات المنطق والطبيعيات والإلهيات مستبعدًا إياها عن مجال الفلسفة. ولاحظ أن النظام الفلسفي الوافد يرزح تحت عبء تناقضاته الداخلية، كما أن بعض الأفكار الفلسفية – من قبيل المعاد الجسماني، وعلم الله بالجزئيات، وقدم العالم – لا تنسجم مع التعاليم الدينية. وفي النتيجة، لا بدّ من استقاء علم الوجود الصحيح من القرآن والسنة، نظرًا لقصور العقل الإنساني عن الوصول بمفرده إلى تلك الحقائق.

من جانب آخر، انتقد الغزالي علم الكلام القائم على الجدل، والذي يرتكز في أساسه على مجرد الدفاع؛ إذ يفترض بعلم الكلام أن ينهض بمهمة إنتاج علم وجود على أساس تعاليم الوحي؛ هذه التعاليم هي التي تزودنا بمعرفة الوجود، والعالم، والطبيعة، والإنسان، ومعرفة الفضائل والرذائل على مستوى السلوك الداخلي، إلى جانب ضوابط السلوك الخارجي. وفي النتيجة، يعتبر الغزالي أن موضوع الكلام هو أعم الأمور، وهذا الموضوع الذي هو الوجود لا يتأسس على العقل المحض، بل على القرآن الكريم. وبذلك فقد مهّد ليكون المتكلم هو الفيلسوف على الحقيقة بحسب قانون الإسلام.

وفي الواقع، فإن الغزالي إذ يدعو إلى إحلال علم الكلام محل الفلسفة من خلال تفكيك الحقيقة الدينية عن مجال الحقيقة الفلسفية، والتقيد بالموجود بما هو موجود على قانون الإسلام، يعود ويتلبس بأدبيات الفلسفة، متجاهلًا العراقيل التي تضعها هذه المهمة في طريقه؛ وإلا فكيف يمكن إدراج مسائل من قبيل النبوة الخاصة، والمعجزات، والعصمة، والثواب والعقاب، والنص، في الأحكام العامة للوجود!.

وقد اقترن هذا النشاط الأشعري في القرنين الخامس والسادس للهجرة، مع ما قدّمه متأخرو المعتزلة، وفي مقدمتهم أبي الحسين البصري (436 هـ) من إسهام كبير في تشكيل الكلام المعتزلي وفق النزعة الفلسفية وعلى صعيد الشكل والمحتوى معًا. فأحدثوا بذلك تحولات في النظام الكلامي مستفيدين من المفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي طغت على المباحث الكلامية في لطيف الكلام وجليله، وانعكست هذه الجهود، تاليًا، على النشاط الكلامي الشيعي في مدينتي الري والحلة.

في تلك المرحلة كانت الري على موعد لاستقبال ورثة الكلام العقلي ممن تتلمذوا على السيد المرتضى والشيخ الطوسي وتلاميذهم. وقد عمل علماء الري على توسعة مباحث علم الكلام على صعيد المصطلح والمنهج الاستدلالي، مستفيدين من أتباع أبي الحسين البصري. كما تواجد بين علماء الري من كانت لهم عناية خاصة بجمع الروايات الاعتقادية وشرحها وتبيينها على طريقة المحدثين، حيث تركزت جهودهم على تدوين الشروحات الكلامية وعلى بيان محورية الإمامة وفضائل أهل البيت (ع). وعلى الرغم من انتقادهم للنزعة العقلية إلا أنه يظهر بوضوح تأثرهم بها فيما دونوه من مؤلفات.

ومع نهاية القرن السادس للهجرة كانت مدينة الحلّة تمثل مركز الصدارة في الكلام الشيعي بنزعته العقلية. وقد سار علماء الحلّة آنذاك على طريقة متكلمي بغداد العقلية، مع ميل إلى أفكار متأخري المعتزلة.

وفي مرحلة لاحقة، تسربت الأدبيات الفلسفية إلى الكلام الشيعي بتأثير من الخواجة نصير الدين الطوسي وابن ميثم البحراني. وعلى ضوء هذا التأثير أقام العلامة الحلي المنهج الكلامي على أساس المنطق الأرسطي، كما استبدل الاصطلاحات التي بينت في لطيف الكلام باصطلاحات فلسفية، وقد أسس بذلك لنظام جديد عمل على تبيين الآراء الكلامية والدفاع عنها من خلال الاستفادة من المنهج الفلسفي. وما لبث أن ساد المنطق الأرسطي بوصفه منهجًا في علم الكلام، وباتت المفاهيم والاستدلالات الفلسفية مداخل ضرورية لفهم المطالب الكلامية، ومع ذلك ظل علم الكلام في الحلّة محتفظًا باستقلاليته التامة على صعيد المضمون والمحتوى، لإلى أواخر القرن التاسع للهجرة.

يمكن القول: إن المرحلة ما بين القرن التاسع الهجري والقرن الثاني عشر الهجري، هي مرحلة تكامل علم الكلام مع الفلسفة حتى على مستوى المباني. فقد كانت جهود الفخر الرازي والنصير الطوسي منصبة على المزاوجة بين الكلام والفلسفة والتوفيق بينهما. ويمثّل كتاب تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي والشروحات عليه والتأليفات التي دونت على ضفافه خير تعبير عن هذه المرحلة.

ويمكن أن نرصد بدايات الكلام الفلسفي في القرن العاشر للهجرة، مع محاولة ابن أبي جمهور الإحسائي التلفيق ما بين الفلسفة والكلام، وانحيازه إلى جانب الفلسفة في كثير من موارد الاختلاف بين المتكلمين والفلاسفة.

كما شهدت مدرسة شيراز في ذلك الوقت، والتي كانت مركزًا مهمًّا للفلسفة والعلوم العقلية، جهودًا عديدة من قبل السيد صدر الدين الدشتكي وابنه غياث الدين منصور الدشتكي، والمحقق الخفري، في سبيل التقريب بين الأفكار الفلسفية والأفكار الكلامية.

ولاحقًا، تشكّلت في إصفهان مدرسة علمية كبيرة استوعبت في أروقتها جميع التيارات الأساسية على صعيد الأفكار الكلامية. فقد حضر فيها تيار الحديث والنزعة الإخبارية وعلى رأس هؤلاء الشيخ محمد تقي المجلسي، والشيخ محمد باقر المجلسي، والفيض الكاشاني، والشيخ الحر العاملي. وظهر بنتيجة ذلك جوامع حديثية كبيرة ككتاب بحار الأنوار، والشروح والحواشي على أصول الكافي وتوحيد الصدوق. كما كان للكلام العقلي حضورًا في إصفهان. إلا أن الحضور الفلسفي وتنوع مساراته مع الميرداماد، والقاضي سعيد القمي، والملا صدرا، أوائل القرن العاشر للهجرة، جعل المسافة ما بين الفلسفة والكلام تنكمش إلى درجة كبيرة، بحيث لم يعد الكلام ملحوظًا في مقابل الفلسفة.

وفي مسار مواز، وجد التيار السلفي طريقه إلى الرواج في الوسط السني، والذي أعاد إحياءه ابن تيمية وبلغ ذروته على يدي السيوطي، وكان من نتائج انتشار هذا التيار إسقاط حساب العقل من أي اشتغال كلامي. كما ساهم ظهور محمد أمين أسترآبادي زعيم الإخبارية في القرن الحادي عشر الهجري في القضاء على العقل على مستوى علم الكلام الشيعي. واستمر هذا المنحى خلال قرنين من سيطرة النزعة الإخبارية.

يأتي هذا التحقيب التاريخي لعلم الكلام في سياق التمهيد لإعادة دراسة العلاقة بين الكلام والفلسفة، والتي انتهت بعلم الكلام إلى الجمود ومن ثم التلاشي. وتأتي أهمية استعادة علم الكلام من كون مشكلات إنسان العصر لا تتعلق بالمعاد الجسماني وحدوث العالم ونحوهما من أفكار وعقائد، وإنما تدور حول مفاهيم الدولة والاجتماع والفكر والحقوق والحريات والمواطنة والنهضة والتحرر والإصلاح.. وهذا النوع من المشكلات يختلف في الصميم عن مشكلات الماضي، وبنظر البعض يمكن أن يشكّل البحث فيها بداية لتحول كلامي جديد من شأنه أن يطرح المسائل المتعلقة بواقع الإنسان المعاصر ومشكلاته، وذلك من خلال إقصاء المنطق الأرسطي والنزعة التجريدية للفلسفة من علم الكلام، وملاحظة التحولات التي وقعت في الغرب على صعيد الفكر والسياسة والعلم.

على ضوء ذلك، انطلقت بعض الدعوات إلى ضرورة استعادة علم الكلام بالشكل، الذي يجاري الاحتياجات المعاصرة في الواقع الإسلامي. ويتلخص هذا السعي في إعادة قراءة الأفكار العقائدية بالاستفادة من المناهج الجديدة، وعبر تحديث هيكلية علم الكلام بما يتناسب مع متطلبات العصر، وذلك على صعيد الموضوعات والمسائل والأساليب والأهداف.

تقوم الدعوة إلى استعادة علم الكلام في جوهرها على أرضية استعداء الفلسفة. وهي – شاءت أم أبت – حركة عكسية للجهد، الذي قام به الغزالي والرازي ومتأخرو المعتزلة، ومن ثم مدرسة إصفهان. فقد أراد الغزالي أن يرقى بالكلام إلى ما يضاهي الفلسفة، فألبس علم الكلام لبوس الفلسفة.

وفي الواقع، لم يكن الكلام من طبيعة خاصة به في بدايات انطلاقه، وإنما تشكلت مسائله من تداعيات اجتماعية وسياسية انبعثت إلى الواجهة مصحوبة بقراءات وتفسيرات دينية، وتأثر الكلام في ذلك وعلى الدوام بالوسط الثقافي، الذي نشأ فيه، سواء أكان ذلك الوسط مشبعًا بالقراءة اللغوية النصية أو القراءة العقلية أو القراءة الفلسفية. وإذا تحتّم وجود وسط ثقافي ما لأي قراءة كلامية، فإن عبارة استبدال الفلسفة بالكلام هي عبارة مضللة إلى حد كبير، ذلك أن ما يزمع دعاة التحديث على القيام به إن هو في الصميم إلا استبدال فلسفة بأخرى، أي استبدال فلسفة لم تعد تشكل استجابة للواقع بفلسفة أخرى هي من طبيعة الفلسفات المضافة. إلا أنه لا ينبغي التغافل عن أن الفلسفة في مستوى أعلى هي الركن الفاعل في كل هذا المسار. ذلك أن الفلسفة ليست علمًا من العلوم، وليست شيئًا يمكن أن يوضع على الطاولة أو يرفع عنها غب الطلب، وإنما هي قدر الإنسان المفكّر وطريقه وسبيله إلى الأشياء، وهكذا الأمر في المنطق، والذي لا يصح – بلغة المنطق نفسه – جعله مطلوبًا، كيف وكاسب المطلوب لا يكون بذاته مطلوبًا. وفي الواقع إننا نستبدل أفكار فلسفية بأخرى فلسفية بحسب مناسبات يقتضيها الوقت، إلا أننا نتغافل عن أن جوهر الفلسفة في وحدته كجوهر الدين في عدم قابليته للتبديل، طالما أنهما تعبيران متلازمان عن الإنسان وهو بصدد استجلاء حقيقة ذاته ومبادئ وغايات وجوده. وقد آن لنا أن نستلهم الدرس الفلسفي عن خطيئة الغزالي بحيث لا نستعيدها في تكرار رتيب من خلال محاكاة وضعية مماثلة؛ وأن نتنبّه إلى أن الحلول إنما تنبثق من واقع الحياة الفعلية – كما هو المفروض في أصالة الكلام – وأن نكف عن استحضار مقولات وتجارب مجاورة كبذرة يراد استنباتها في غير محل، وندور بذلك في حلقة مفرغة يخيل إلينا فيها أننا نتفلسف في الفضاء الديني، وفي الحقيقة نحن نزاول مهمتنا التاريخية في الترجمة والاقتباس والمحاكاة الأبدية، ليس لأننا لا نريد أن نتفلسف؛ إذ التفلسف قدر الإنسان، شاء ذلك أم لا، وإنما لأننا ارتضينا هذا الحظ من التفلسف والاشتغال لا غير.



المقالات المرتبطة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | أركون والدين والتراث والحداثة

بعد أن رأينا في الجزء الأول من البحث المنهج ومميزاته ومصادره عند محمد أركون، ننتقل الآن للحديث عن التطبيقات العملية

في البدء كانت الأخلاق

ذلك حقًّا، أصدق ما جادت به قريحة أمير الشعراء، أحمد شوقي. ولعله أبلغ تعبير وأسنى وصف في عصرنا الموسوم بفساد الضمير وتراجع القيم، بدءًا بدنيا الأفراد واجتيازًا للاجتماع السياسي ولحوقًا بمشاهد العلاقات الدولية. سوف تظل – إذن – قولة شوقي أبلغ ما نطق به شاعر عربي في العصر الحديث

حوار الدهشة والرهبة بين لحظتي انبثاق

الوقوف على الحوار الإسلامي-المسيحي، يقتضي الرجوع إلى اللحظة الأولى لانبثاق الدعوة الإسلاميّة، فهي جاءت في محيط جاهليّ، ولكنّه لم يخلُ

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<