تاريخ الفلسفة (1)
بداية الفلسفة
يعتبر أفلاطون أن الآلهة لا يتفلسفون لأنهم حاصلون على العلم، أما الإنسان فوحده الذي يتفلسف، يقول في إحدى محاوراته: ينقل إلينا بصرنا “منظر الكواكب والشمس وقبة السماء، وهو منظر يدهشنا ويدعونا إلى تأمل الكون، ومن هذا الاندهاش نشأت الفلسفة، وهي أعظم خير وهبته الآلهة للإنسان الفاني”. ويقول كذلك: “إن من خصائص الفيلسوف هذا الشعور؛ وهو أنه يدهش، وليس للفلسفة من منبع غير هذا. ومن جعل إيريس ابنة لتاوماس فهو عليم حقًّا بالأنساب”[1].
أما أبيكتيت Epictatus الرواقي فيقول: “تنبع الفلسفة من شعورنا بضعفنا وعجزنا”، وهو يرى أن الفلسفة هي التي تبصرنا بطريق خلاصنا من الخوف والألم والضعف والعجز وتكفل لنا السعادة.
أما أبيقور فيقول: “عندما تكون صبيًّا لا تتردد في التفلسف، وعندما تكون كهلًا فلا تزهو في التفلسف.. فمن يقل بأن الوقت مبكر للتفلسف أو متأخر فإنه يشبه من يقول بأنه مبكر أو متأخر لكي يكون سعيدًا”[2].
في الفهرست يروي ابن النديم (ت سنة 378 هـ): “وقال لي أبو الخير بن الخمار بحضرة أبي القاسم عيسى بن علي، وقد سألته عن أول من تكلم في الفلسفة فقال: “زعم فرفوريوس الصوري في كتابه التاريخ، وهو سرياني أن أول الفلاسفة السبعة ثالس Thalès [3] بن مالس الأمليسي، (…) وقال آخرون: إن أول من تكلم في الفلسفة بوثاغوراس Pythagoras [4] من أهل ساميتا، وقال فلوطرخس: إن بوثاغوراس أول من سمى الفلسفة بهذا الاسم، وله رسائل تعرف بالذهبيات، وإنما سميت بهذا الاسم لأن جالينوس كان يكتبها بالذهب إعظامًا لها وإجلالًا(…)، ثم تكلم بعد ذلك على الفلسفة سقراط[5] Socrate من أهل مدينة أثينة، مدينة العلماء والحكماء”[6].
بالتأكيد، تمتد الفلسفة وتوغل في الزمن أبعد مما تحدث ابن النديم، فهي ملازمة لولادة الإنسان ذاته، الإنسان الذي يمارس وظيفته بوصفه كائنًا ناطقًا يهمه أن يتعقل وجوده، فالإنسان إذا كان بالتعريف “حيوان اجتماعي”، كما قال أرسطو، فإنه أيضًا حيوان صاحب مذاهب، والتفكير الفلسفي حق إنساني لا علاقة له “بمسائل الجنس والدين واللون”[7].
إميل برهييه Bréhier في مقدمة موسوعته حول تاريخ الفلسفة يؤكد أنه إلى جانب الذين جعلوا مع أرسطو من طاليس في القرن السادس قبل الميلاد أول فيلسوف، كان هناك مؤرخون أرجعوا جذور الفلسفة إلى ما قبل العصر الهليني، إلى البرابرة[8]، “des Barbares”. فديوجين اللايرتي Diogène Laërce في مقدمة كتابه “حياة وآراء الفلاسفة المشهورين”[9]. يحدثنا عن العصور القديمة الرائعة عند الفرس وعند المصريين، لذا، فهناك نظريتان تتضاربان، هل الفلسفة اختراع يوناني أم ورث تلقوه من الشعوب الأخرى (البرابرة)؟ ومع الاكتشافات التي أظهرها دارسو منطقة الشرق يميل برهييه إلى الاتجاه الثاني[10]؛ أي أثر الحضارات ما قبل الهلينية كحاضرة بلاد ما بين النهرين، والحضارة المصرية الفرعونية، حيث كانت مدينة أيونيا Ionie وهي مهد الفلسفة اليونانية على احتكاك مباشر بهذه الحضارات، فمن المستحيل، كما يستنتج برهييه، عدم الإحساس بالقرابة الفكرية بين مقولة طاليس الذي اعتبر “الماء العنصر الأولي لجميع ما يوجد”، ومقدمة اللوح الأول من أسطورة التكوين البابلية التي كتبت قبل ذلك بقرون في بلاد ما بين النهرين، والتي تبدأ:
عندما في الأعالي لم يكن هناك سماء
وفي الأسفل لم يكن هناك أرض
لم يكن (من الآلهة) سوى أبسو أبوهم
وممو وتعامة[11] التي حملت بهم جميعًا.
يخرجون أمواههم معًا.
الذي يعني أنه في البدء لم يكن موجودًا سوى المياه التي صدر عنها كل شيء وكل حياة[12].
مثل هذه النصوص كافية لإثبات أن طاليس لم يكن مجترع هذه الكوسوجونيا[13] Cosmogonie. حتى الأبحاث الأنثروبولوجية بحسب برهييه، تؤيد هذا التشابه بين الفكر اليوناني وهذه العقلية البدائية من حيث المقولات التي تدور حول القدر، العدالة، الروح، الله، والتي لم يشتغلوا لإنتاجها، بل تلقوها وهي تمثل تصورات هذه الشعوب، لذلك يؤكد برهييه مرة أخرى، أن الفلاسفة اليونانيين لم يكن لهم ليخترعوا، بل عملوا على الانتقاء والتصرف في تلك التصورات بما يناسبهم[14].
كذلك أقام كثير من الفلاسفة اليونانيين في مصر واستفادوا من حكمة الكهان المصريين مثل طاليس، سولون، فيثاغورس، دمقريطس، وفي محاورات أفلاطون، نجد إشارات عديدة إلى مصر والنيل[15]، فكانت خبرات الأجيال المتعاقبة توضع في تصرف الزائرين اليونانيين، وطبقًا لتقدير المصريين فقد مر على بداية الخلق أربعون ألف سنة، وقد علمتهم تجربتهم أن الإنسان غير منقاد وبالتفكير قادر على تفسير وتصحيح العالم[16].
أما دكتور أبو ريان فيعتبر الفلسفة “بمعناها الخاص نتاج يوناني أصيل” [17].
في بدايتها لم تكن الفلسفة عند اليونان الأولين محدّدة تمامًا، بل تشير إلى كل جهد يقوم به العقل في سبيل تزويد صاحبه بالمعارف الجديدة. وترد كلمة الفلسفة لأول مرة عند هيرودوث الذي روى عن كريسوس أنه قال لصولون: “لقد سمعت أنك جبت كثيرًا من البلدان متفلسفًا، بغية ملاحظتها واكتشاف معالمها”، ثم لم تلبث هذه الكلمة أن أصبحت تعني عند اليونان حب الحقيقة في شتى صورها[18]. وتبعًا للروايات يعد فيثاغورس أول من وضع معنى محددًا لكلمة الفلسفة، فقد نسب إليه أنه قال: “إن صفة الحكمة لا تصدق على أي مخلوق بشري، وإنما الحكمة لله وحده”، وهكذا قال فيثاغورس عن نفسه أنه محب للحكمة[19].
ومن ثم تعددت مفاهيمها وموضوعاتها.
[1] محاورة طيطاوس لأفلاطون، Théétète 155d. وثاوماس هذا اسم علم مشتق من فعل “دهش” باليونانية، وابنته إيريس مرسلة من الآلهة بالمعرفة، فمن جعل الفلسفة ابنة للاندهاش فهو حقًّا على علم بأصلها ومنبعها أي نسبها. مذكور عند د. محمد ثابت الفندي، مع الفيلسوف، بيروت، دار النهضة العربية، 1974، الصفحة 49.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 66.
[3] حوالي 624- 547 قبل الميلاد، وهو مؤسس المدرسة الملطية المادية التلقائية، وقد بحث عن مبدأ أول وحيد وسط تنوع الأشياء (العنصر) واعتبره الجوهر المتجسد الذي تدركه الحواس، واعتبر الماء العنصر الأولي لجميع ما يوجد. الموسوعة الفلسفية، بإشراف روزنتال، ترجمة: سمير كرم، بيروت، دار الطليعة، الطبعة 4، 1981، الصفحة 284.
[4] حوالي 580- 500 قبل الميلاد. أسس مدرسة عرفت باسمه لم تكن فلسفية ورياضية فحسب، بل كانت أيضًا أخوة دينية وتنظيمًا سياسيًّا للأرستقراطية مالكة العبيد، المرجع نفسه، الصفحة 327.
[5] عنه أن نسيج العالم والطبيعة الفيزيائية للأشياء لا يمكن معرفتهما، ونحن لا نستطيع أن نعرف سوى أنفسنا. المرجع نفسه، الصفحة 245.
[6] الفهرست، بيروت، طبعة دار المعرفة، 1978، الصفحتان 242و 243.
[7] دكتور زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، القاهرة، دار القلم، 1962، الصفحة 27.
[8] هذا اللفظ كان يطلق على كل الشعوب غير اليونانية.
[9] من القرن الثالث، وكتابه – الذي يقع في عشرة أجزاء – هو المجموعة الملخصة الموجودة الوحيدة للحقبة القديمة في تاريخ الفلسفة، الموسوعة، مصدر سابق، الصفحة 215.
[10] Emile Bréhier, Histoire de la philosophie, L’Antiquité et moyen âge, p.u.F. Paris, 2em édition, 1983, p2-3.
[11] تعامة هي المياه الأولى في الأساطير البابلية، وفي الأسطورة المصرية كان رع أول إله يخرج من المياه الأولى، وهو الذي فيما بعد بعثته الآلهة، وفي الأسطورة الإغريقية نجد “أوقيانوس” هو المياه الأولى: والإله البدئي الذي نشأ عنه الكون. انظر، فراس السواح، مغامرة العقل الأولى، دمشق، دار المنارة، الطبعة 9، 1990، الصفحتان 35و 36.
[12] المرجع نفسه، الصفحة 33.
[13] من لفظتين يونانيتين cosmos بمعنى عالم، gonia بمعنى خلق العالم، والكوسموجونيا يبحث في أصل العالم فيرده إما إلى مبدأ واحد، أو عدة مبادئ. دكتور مراد وهبي، المعجم الفلسفي، مصر، دار الثقافة الجديدة، الطبعة 3، 1979، الصفحة 347.
[14] Bréhier, op.cit. p5.
[15] In, L’Egypte, la philosophie avant le Grecs, Eudes philosophique, éd, P.u.F, Paries, septembre 1987, no 2-3. P113. [113- 125].
[16] Ibid, p125.
واستطرادًا، نسجل موقف دكتور أبو ريان المعارض لفكرة أخذ اليونان مصادرهم من الشرق، ويعتبر “أن الحضارة اليونانية التي أنتجت الفلسفة كانت إحياءً لحضارة يونانية أقدم منها” الذي لم يمنع الاحتكاك وحصول “بعض التأثيرات المتبادلة بين هذه الحضارات العريقة”. دكتور محمد علي أبو ريان، مذكرات في الفلسفة اليونانية، بيروت، مركز الإعلام الجامعي، 1979، الصفحة 1.
[17] المرجع السابق، الصفحة 7.
[18] مذكور عند زكريا إبراهيم، مشكلة الفلسفة، مرجع مذكور، الصفحة 28.
[19] المرجع نفسه، الصفحة 29.
المقالات المرتبطة
الفلسفة السياسية لولاية الفقيه 5 –
إنّ الفقهاء لا يتميزون عن الناس في خضوعهم لسياسات الحكومة المنتخبة وينحصر دورهم في استنباط الأحكام، وفي القضاء الصلحي بين الناس، والدعوة إلى الخير…
هيرمنيوطيقا القرآن عند شبستري – قـراءة نـقـديـة –
يستفز العنوان المعطى لهذه المقالة أكثر من تساؤل ينجر إلى طبيعة الهيرمنيوطيقا المتحدث عنها، وإمكانية تطبيق هكذا نظريات على الكتاب
في تجارب المصلحين
حينما نتحدث عن تجربة دينية أو فكرية أو سياسية، ونعمل على تظهير العناصر الإيجابية ونقاط القوة فيها، هذا لا يعني