في العام 61 للهجرة، حصلت واقعة كربلاء فكانت شعلة ثورة عابرة للزمان والمكان، شعلة أضاءت درب الثوار المناهضين للاستكبار والناصرين للمستضعفين.
فباتت عاشوراء – كربلاء الرافد الأول للرّوح المعنويّة العالية والمتوقّدة في نفوس الشباب المقاوم الإسلاميّ حتى اليوم، فقال عنها الإمام الخميني (قده): “كلّ يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء”. وهنا تُطرح الإشكالية التّالية: ما مدى تحوّل حادثة تاريخيّة كواقعة كربلاء إلى نمط حياة؟ ما هي المواصفات التي تجعل من حادثة تاريخيّة نموذجًا لنمط حياة؟
إنّ لأي حادثة تاريخيّة عناصر تجتمع لتجعلها حادثة آنية بظرفها وظروفها فتنتهي بانتهاء الحدث، أو حادثة خالدة في كلّ زمان ومكان.
وعاشوراء – كربلاء هي من النوع الثّاني فهي أكبر من أن تكون مناسبة وتمضي، بل هي مدرسة ونهج، فيها تواجه الحقّ مع الباطل في زمن سمي عاشوراء وفي أرض عرفت بكربلاء. فقد كانت عناصرها المكونة للحدث:
- الجبهة الأولى: الإمام الحسين(ع) بما يمثله من مصداق للحقّ.
- الجبهة الثّانية: يزيد بما يُمثله من مصداق للباطل والضلال.
- المكان: كربلاء.
- الزّمان: الانطلاق من موسم الحج إلى العاشر من محرم، بما له من رمزية زمانية.
- المعيار هو: النّصر الاستراتيجي وليس الآني “انتصار الدّم على السّيف”.
فأضحت راية خفّاقة على طريق الحقّ ونصرته حتّى تسلّم لقائد العدل الإلهيّ وناشره الإمام المهدي بن الحسن(عج)، فباتت مدرسة يُستقى منها دروس الإباء والنُصرة للحقّ والبذل بالمال والنّفس.
فبات لعاشوراء طرفان هي إحداهما بما تُمثله من خطاب تواصلي بينها وبين الطّرف الآخر وهو الإنسان، بحيث أصبحت مدرسة للوعي والمعرفة المؤثرة في الإنسان، المحفّزة له للإحساس بالمسؤولية وبضرورة النّهوض ضدّ الظلم، فهي إرث ثقافيّ بامتياز. إرث قاد الجمهورية الإسلامية إلى انتصار الثورة والانتصار في الحرب المفروضة والصمود والثبات بحصار دام وما زال لعقود، فكما قال الإمام الخميني(قده): “إنّ كلّ ما لدينا من كربلاء”. ومن هنا صدّرت الجمهورية الإسلامية الثورة التي استوردتها من كربلاء، فوصلت إلى المقاومة الإسلامية في لبنان التي انتصرت ودحرت العدو عام 2000 م، ولاحقًا 2006، وما زالت تقف كسد منيع بوجه عدو غاشم وكلّه بفضل مدرسة عاشوراء – كربلاء مدرسة الإمام الحسين(ع)، وانتقل نهج مدرسة العزة والكرامة ليشكل محورًا مقاومًا في وجه الاستكبار والشيطان الأكبر.
لعاشوراء – كربلاء بعدان هما الزماني والمكاني للواقعة، فعندما نقول عاشوراء نشير بذلك إلى البعد الزماني الذي يصلح في أي وقت توفرت عناصره، وكربلاء للبعد المكاني الذي بات معلمًا واضحًا للاتّباع وتكرار النّموذج، ليكون ساحة للامتثال إلى الأمر الإلهي بنصرة الحقّ والمستضعفين، وحفظ الرسالة المتمثّلة بالدين المحمّدي الأصيل مع عدم إغفال أنّ هذا الاتّباع يحتاج إلى صبر وثبات، وتحمّل وإنفاق بالمال والأنفس، وبصيرة رأت هدفها وغايتها في الوصول إلى الله عن طريق نصرة الحقّ.
حادثة تاريخيّة أرست منهجًا في الحياة، فأضحت حدثًا تاريخيًّا عابرًا للزّمان والمكان متخطية الحزن والموت لتهب الحياة بإحيائها على قاعدة “أحيا الله من أحيا أمرنا”، وكذا من خلال العِبر والدروس المستقاة منها المستمرة والمستدامة من خلال شعاراتها: “هيهات منّا الذّلة”، “لم أخرج أشرًا ولا بطرًا وإنّما طلبًا للإصلاح في أمّة جدّي”. هي شعارات توافقت مع القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (سورة هود، الآية 113)، أي عدم الركون للظالم. وهذا ما نجده في كلام الرسول الأكرم (ص): “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”[1]، بحيث يمكننا الاستفادة منه بأن لا نُطيع الظّالم في معصية الله. كما أنّ القرآن بيّن أنّ التضحية هي الخلود ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ (سورة آل عمران، الآية 169). فكانت شعارات هذه الحادثة خالدة، هدّارة جارية من جيل إلى جيل لتسلم الرّاية لصاحبها (عج).
وحتّى لا يكون الكلام نظري سنستعرض بعض من عاشوراء -كربلاء النموذج بيومنا هذا:
| التّطبيق | عاشوراء_كربلاء | المعاصر |
| مقاومة سياسيّة | رفض البيعة ليزيد الظالم الفاسق | مقاومة العدو الإسرائيلي والأمريكي |
| صمود اقتصادي | الحصار في كربلاء | مقاطعة منتجات العدو |
| تربية أسريّة | موقف السيدة زينب(ع) | بناء جيل واع يرفض الذّل |
| إعلام | خطب الإمام السجاد(ع) | فضح العدو على مواقع التّواصل |
| رمز- نموذج | المواجهة | الثورة الإسلامية في إيران |
| شعار محرك | من لحق بنا بلغ الفتح | المقاومة الإسلامية في لبنان |
وبذلك أصبحت عاشوراء _ كربلاء نهجًا نحياه بالفعل والقول، فنحارب الفساد في العمل والمجتمع والدّولة، وننشىءُ أسرًا تربي جيلًا ممهدًا للمهدي (عج)، جيلًا واعيًا، شجاعًا ومضحيًا ليبني مجتمعًا مقاومًا يهبُّ لنصرة المظلومين والمستضعفين في أي بقعة من بقاع الأرض بغض النظر عن دينه وطائفته.
أضحت عاشوراء منهج حياة متجدد لمواجهة الظلم فقال الإمام الخامنئي(حفظه المولى): “لو كان الحسين بيننا اليوم لقاتل نفس هؤلاء الطغاة”، وذلك من خلال:
| الجانب الإنساني | نمط الحياة العادية | نمط الحياة العاشورائية | الدليل |
| الحرية | الخضوع | العبودية لله | هيهات منّا الذلة |
| العدالة | الصمت والركون للظالم | التصدي للظلم | كونوا قوامين بالقسط |
| الكرم | البخل | العطاء | سقاية جيش العدو |
| رفض الرشوة والفساد | العمل للكسب لتحقيق المصلحة الشخصية | العمل للآخرة | موقف الحر كيف خيّر نفسه بين الجنّة والنار، وموقف عمر بن سعد واختياره لملك الري |
| إتقان العمل | الغش والكسب السريع غير المشروع | العمل الصالح المرتبط بالآخرة | قصة القطبة الرابعة المخفية |
| الأسرة | تخاذل في الحرب | الشجاعة والإقدام | بين ما قام به أهل الكوفة، وبين ثبات أصحاب الحسين(ع) |
| تعليم | توظيفه ضدّ الدين | الثبات على المبادىء | كيفية تحويل واستنهاض خطب السجاد (ع) للناس وتوعيتهم حول ما جرى |
| الفن والإعلام | تضليل وتشويه الحقائق | نشر الوعي | خطب السيدة زينب (ع) |
| اجتماعيًّا | يعمل على تفككه وفساده | توحد ومؤازرة | محور المقاومة |
قال الإمام الخامنئي(حفظه المولى): “عاشوراء ليست حدثًا تاريخيًّا، بل هي نظرية حياة”. فتصبح الحرية خيار الإنسان الدائم، العدالة مبدأ غير قابل للمساومة، والعطاء والبذل طبيعة إنسانية دائمة، والكلمة تُضحي سلاحًا في وجه العدو والباطل.
هنا تكون عاشوراء _ كربلاء جعلت من الإنسان الذي يعيش ويحيي عاشوراء كلّ يوم وفي كلّ أرض نمط حياة الأحرار الذين يعيشون ذلّ العبوديّة وعز الربوبية التي ترسم خارطة طريق الإنسانية التي كان فيها الإنسان مشروع خليفة الله على الأرض.
فنهوض الحسين (ع) بثورته الخالدة كانت مولّدة للقدرة والتجديد والتأصيل والتصويب؛ لأنها ثورة حملت مفاهيمًا وقيمًا حية ومستدامة. فالمجتمع العامل على إحياء هذه الشعيرة يولد طاقة إصلاحية مقاومة خالدة لا تفنى مع الأيام، لأنها انطلقت من حتمية تاريخية تبين أن للإرادة الإنسانية دورًا أساسيًّا في صناعة التاريخ وأحداثة وتحريك عجلته ومساراته مع إعطاء العامل الغيبي والقيمي حيّزًا مهمًّا مقابل العامل المادي.
في الختام، لتكون عاشوراء – كربلاء نمط حياة عز وكرامة يجب أن نتعرف عليها في سياقها الديني والثقافي والإيماني وكل أبعادها، فنرتقي بها من مستوى المعرفة إلى مستوى السلوك، فتصبح نمطًا للأحرار.
[1] الحر العاملي، وسائل الشيعة (آل البيت)، الجزء 16، الصفحة 154.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
