يبدو أن البشرية قد دخلت، وإن بنسب متفاوتة، في طور جديد، أو عصر جديد هو، كما يحلو للبعض تسميته، عصر الإقطاع المالي الذي ترافق مع التطور الذي أصاب قطاع الاتصالات عبر الأقمار الصناعية (السماء المفتوحة)، والتقدم العلمي، وخاصة في مجال هندسة الجينات والاستنساخ والذكاء الاصطناعي، (وآخر الابتكارات روبوت مزود برحم اصطناعي قادر على إتمام عملية الحمل والولادة نيابة عن المرأة بتغذية عبر أنبوب يحاكي الحبل السري، سيطرح في الأسواق بحلول سنة 2026، وبسعر لا يتجاوز الـ 14000 دولار)، وكلها أمور تشعر الإنسان المعاصر بالقلق والخوف. وقد يكون من المسلّمات، أن لكل عصر مناخه الفكري وقيمه وقواعده القانونية والأخلاقية التي تدعمه وتسهل انبساطه وتعميمه. والأخلاق أشد فروع الفلسفة التصاقًا بالحياة عمومًا، والمدنية خصوصًا.
ونتناول موضوع الأخلاق كفرع من فروع الفلسفة، هذا مع الإشارة إلى أن كلمة الأخلاق بصيغة الجمع لم ترد مطلقًا في القرآن الكريم، وإنما وردت كلمة “خُلُق” في موضعين:
الموضع الأول: في وصف خُلُق النبي المصطفى في سورة القلم، الآية4: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾.
الموضع الثاني: وردت كلمة خُلُق بمعنى عادة، أو طريقة عيش في سورة الشعراء، الآية 137: ﴿إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ (قالها قوم عاد الذين كذبوا نبيهم هودًا).
المعروف أن البحث في الأخلاق راوح بين النظر والتطبيق. تبحث الأخلاق النظرية (ويحلو للبعض تسميتها حديثًا الميتا أخلاق) في الأسس والمفاهيم والمنطلقات التي تبنى عليها الأخلاق، وتؤثر في السلوكيات، ويدور الكلام فيها على الخير والشر، أو الحسن والقبيح، والنافع والضار، وطبيعتها، وتبريرات الأحكام الأخلاقية ومشروعيتها، وغايتها تحصيل أكبر قدر من السعادة والاستقرار النفسي والاجتماعي. أما الأخلاق التطبيقية أو العملية (أخلاق المهن والتخصصات المحددة: كالطب والعلوم والقضاء وسواها)، فتعنى بالمواقف والقضايا العملية الحياتية والكشف عن مشكلاتها واجتراح الحلول المناسبة لها. ونحاول في التالي توثيق الاتجاهات الفلسفية الحديثة والمعاصرة، ورسم معالم استجدت في أيامنا الحاضرة، والإشكالات الأخلاقية التي ترتبت عنها، ودفعت لطرح السؤال حول ما إذا كانت القيم الأخلاقية ثابتة أم نسبية.
راوحت المذاهب الأخلاقية بين عقلانية مثالية (يمثلها سقراط (ت 399 ق.م)، وأفلاطون (ت347 ق.م) قديمًا، وكانط (ت 1804) حديثًا)، وعقلانية واقعية (يمثلها أرسطو (ت322 ق.م))، وحسية مادية (تمثلها الأبقورية التي تقول باللذات الحسية والعقلية، قديمًا، والنفعية حديثًا).
تابع أفلاطون مذهب أستاذه سقراط في اعتبار الفضيلة معرفة، وأن الشر منبعه الجهل، وأن المعرفة تنبع من داخل الإنسان الروحي، الشريف المصدر. والحلقة الجامعة لفلسفة أفلاطون، كما هو معروف، هي نظرية “المثل”، وفي قمة المثل، مثال الخير والجمال “الثابت” المطلق، المُدرك بالعقل، ويتمثل السلوك الأخلاقي السوي في الحياة، بمقدار محاكاته، أو مشاركته، لمثال الخير والجمال، وأن الارتقاء لهذه المرتبة يكون بالتأمل العقلي الصرف، وتهذيب النفس وتنقيتها، وإبعادها عن العلائق المادية.
وفي مقابل مثالية أفلاطون انبرى أريستيبوس القوريني (Aristippus of Cyrene مؤسس المذهب القورينائي الأخلاقي، ت 356 ق.م)، وهو تلميذ سقراط، أيضًا، للقول بأن اللذة الحسية هي الخير الأسمى، المتوخى في اللحظة الحاضرة، وأنها أهم من اللذة العقلية، وما الفضيلة إلا أداة لبلوغ اللذة الحسية كأعلى غاية يتوخاها الإنسان، وتكون هذه اللذات نسبية شخصية بامتياز. هذا مع دعوته الإنسان إلى عدم الانجراف للشهوات.
والمرجع في علم الأخلاق، المبني على عقلانية واقعية، عند القدماء، كان كتاب الأخلاق النيقوماخية لأرسطو[1]. فالأخلاق عنده علم عملي ينظر في أفعال الإنسان لجهة مردودها المادي على الشخص، وهو متصل بشكل ما مع العلمين العمليين الآخرين: تدبير الأسرة، والاجتماع أو السياسة، لكون الإنسان مدني بالطبع، أو كائن سياسي.
أُخذ بتصنيف أرسطو وجدولته للفضائل بحسب نظريته في قوى النفس: الشهوانية (النباتية)، والغضبية (الحيوانية)، والعاقلة (الإنسانية)، وأضاف إليها العدالة وهي رأس الفضائل لارتداداتها الاجتماعية والسياسية. وقال بنظرية الوسط (الكرم وسط بين التبذير والبخل، والشجاعة وسط بين الجبن والتهور)، إلا أنه أشار بوضوح إلى أن هذا الوسط ليس حدًّا رياضيًّا حسابيًّا فهو مرتبط بحالة الشخص وقدراته البدنية والعقلية، وأشار أيضًا إلى أن قيامة الأخلاق لا تكون إلا بدعم سلطة دينية أو سلطة سياسية (هذه أشار إليها أبيقوروس أيضًا). فهو لا ينفي ولو بشكل مضمر نسبية الحد الوسط عن الفضائل وعدم إطلاقيته التي قد تشعر بالثبوت. هذا وقد اعتبر أرسطو كما أفلاطون أن المدينة فعل طبيعي يتحقق عقليًّا من خلال عقد اجتماعي ناظم لحياة مواطنيها الاجتماعية، وتأكيدًا لجوهرهم الإنساني، ومسلكهم، للاتفاق على القواعد التي تحقق لهم، كمواطنين، حياة سعيدة مفعمة بالإنسانية.
ولا ننسى أيضًا التيار الفلسفي المادي، الحسي، السابق لأفلاطون وأرسطو القائل بالتغير والصيرورة (لا تنزل في مياه النهر مرتين) بزعامة هيرقليطس (ت 475 ق.م)، في مقابل التيار المثالي، العقلي، القائل بالثبوت (العقل) بزعامة بارمنيدس (ت 470 ق.م).
ويُسجَل هنا أن المفكرين والفلاسفة في المشرق العربي والغرب اللاتيني أخذوا بالأخلاق الموروثة عن الإغريق على مدى القرون الوسطى، وتضمنتها كتبهم في الأخلاق كما في “تهذيب الأخلاق” لابن مسكويه[2] (ت 1030 م)، ويحيى بن عدي[3] (ت 1023 م)، واعتُبر كلام المتقدمين فيها مقبولًا ولا يتعارض مع العقائد الدينية، وعبارة الإمام الغزالي (ت 1111م) واضحة في ذلك، في تفريع الفلسفة إلى ستة أقسام: (المنطق والرياضيات والطبيعيات والأخلاقيات والسياسات والإلهيات)، ومواطن تكفير الفلاسفة حصرها في الإلهيات فقط، وفي جزء من الطبيعيات (مسألة السببية)، ويقول في الأخلاق: “وأما الخلقيات فجميع كلامهم (الفلاسفة) فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها، وذكر أجناسها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية وهم المتألهون والمثابرون على ذكر الله تعالى بالإعراض عن ملاذ الدنيا … وإنكارها عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق، والعاقل يقتدي بقول أمير المؤمنين علي (ع)، حيث قال: “لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله”[4]. “فالعاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس القول، فإن كان حقًّا قبله سواء كان قائله مبطلًا أم محقًّا..”[5]. وأخذ برأي الغزالي لاحقًا فخر الدين الرازي (ت1210م)، ونصير الدين الطوسي (ت1274م)، والحلّي (ت1325م)، وتوما الأكويني (ت1274م)، وغيرهم من أعلام الفكر الديني الإسلامي والمسيحي.
وكان للمعتزلة، أصحاب ومؤسسي الاتجاه العقلي في الفكر الديني الإسلامي، معالجة مميزة في تناولهم لمسألة الخير والشر، والحسن والقبيح، واعتبار كل واحد منها حقيقته بذاته، وثابتة لا تبدل فيها ولا تغير، وهي نظرية، على أهميتها، تقيد الإنسان، وإن بطريقة غير مباشرة، في أعماله، وتقيد، أيضًا، الله الفاعل المختار في رعايته الأصلح لعباده. إلّا أن الارتباك في النظرية يقع في حظ العباد من الخير والشر وفي فهم حقيقتيهما، وذلك عند شرحهم لحقيقة إدراك العالم لقولهم: إن الأجسام اللطيفة المنبعثة من المتكلم لما كانت هي التي تموج الهواء، على حد قول النظام (ت836 م)، فيكون من البديهي أن الأجزاء التي تدخل على أذن أحد المستمعين هي خلاف الأجزاء التي تدخل أذن الآخر، بالرغم من وجود تشابه بين كل هذه الأجزاء. لذلك يقول البغدادي[6] (أبو منصور ت1037م) في كتاب “الفرق بين الفرق” (ص122): “زعم النظام أنه ليس في الأرض اثنان سمعا صوتًا واحدًا مع أنهما سمعا جنسًا واحدًا من الصوت، كما يأكلان جنسًا واحدًا من الطعام، ويكون مأكول أحدهما غير مأكول الآخر، وإنما ألجأه إلى هذا القول دعواه أن الصوت لا يسمع إلا بهجومه على الروح من جهة السمع، ولا يجوز أن يهجم من قطعة واحدة على سمعين متباينين، وشبه ذلك بالماء المصبوب على قوم، يصيب كل واحد منهم غير ما يصيب الآخر”.
وقد “أجمع شيوخ المعتزلة[7]، بشتى مشاربهم، على أن القيمة ذاتية في الفعل، وأن دور العقل محوريٌّ في اكتشافها والاستدلال عليها، وأن اختيار الإنسان لفعل من الأفعال لا يجعله قبيحًا أو حسنًا، لأن المرء قد يُحسِن الاختيار وقد يسيئه، كما أجمعوا على أن العدل الإلهي يترتب عليه نفاذ الوعد والوعيد. ثم على أساس الأصول الخمسة بنوا نظرتهم إلى التكاليف الشرعية والقيم الأخلاقية.
فنظرية الجاحظ (أبو عثمان ت 869 م) مميزة في الأخلاق وتناولها في مؤلفاته المشهورة (البخلاء، والحيوان، والرسائل، وبشكل خاص في الرسائل[8]، وتناول فيها مسائل في أخلاق المهن). فهو يردها إلى الطبيعة وعدَّها العنصر الأساس في تشكّل الأخلاق، كما أنها تؤثر بهوائها ومائها وتربتها على الأجسام والعادات والحواس. (أخذ ابن خلدون (ت 1406م) بهذه النظرية فيما بعد في كلامه على أثر التربة والمناخ على عوائد وطباع البشر). ثم إن النفس البشرية تقصد بسلوكها إلى الراحة والسكينة والطيّبات الملذّة، وفي ذلك قوله: إن النفس البشرية مطبوعةٌ “على حُبّ الراحة والدعة والازدياد والعلوّ والعزّ والغلبة والاستطراف والتنوّق (التأنق)، وجميع ما تستلذّ الحواس من المناظر الحسنة، والروائح العبقة، والطعوم الطيبة، والأصوات المؤنقة، والملامس اللذيذة، ومما كراهيته في طباعهم أضداد ما وصفتُ لك وخلافه”.
هذه النصوص، السابق ذكرها، تُظهر ميل الجاحظ إلى تأسيس مذهبه الأخلاقي على الطبيعة واللذة والمنفعة، وليس فيها إشارات واضحة إلى دور التربية والتأديب في تكوين المبادئ والفضائل الأخلاقية الفردية والسياسية – الاجتماعية. إلا أن ما ذهب إليه في توصيف الحال حفّزه إلى الفحص، النظري والعملي، الدقيق في حقيقة الأخلاق والفضائل وكيفية اكتسابها لتصير- كما يقول – طبيعةً ثانيةً للإنسان، على اعتبار أن الغرائز تشكّل الطبيعة الأولى. وينفي الجاحظ أن يكون الإنسان عبدًا بالمطلق لغرائزه، أو أن يكون حرًّا بالمطلق من تأثيرها الحيوي عليه. وهنا يأتي دور العناية الإلهية لمساعدة العقل الإنساني بسبب محدوديته، وهدايته إلى سواء السبيل، وهدايته إلى مسالك الخير في الدارين: الدنيا والآخرة. ومما يقوله: وضع الله في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرضا، وطبيعة البخل والسخاء، والجزع والصبر، والرياء والإخلاص، والكبر والتواضع، والسخط والقناعة، فجعلها عروقًا، ولن تفي قوة غريزة العقل بجميع قوى طبائعه وشهواته حتى يقيّم ما اعوجَّ منها ويسكّن ما تحرّك، دون النظر الطويل الذي يشدّها، والبحث الشديد الذي يشحذها، والتجارب التي تحنّكها، والفوائد التي تزيد منها. ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الرؤية إلا لبعد الغاية وشدّة الحاجة. ولو أن الناس تُركوا وقدر قِوى غرائزهم ولم يُهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم، والتفكير في معاشهم وعواقب أمورهم، وأُلجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون أن يُسمعهم الله تعالى خواطر الأولين، وأدب السلف المتقدمين، وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير، ولما ميّزوا من الأمور إلا القليل.
وأما الفارابي (ت 950 م) فهو من القائلين بنسبية الأخلاق في تسميته للمدينة الفاضلة والمدن المضادة لها. ورأيه صريح في أن المدينة تعرف بأمرين: برئيسها، وباعتقادات أهلها. وأما الاعتقادات الحسنة فيسنها النبي، الموحى إليه، أو الإمام، ويرشد إليها الحكماء الرؤساء.
يجعل الفارابي الفضائل في صنفين هما: الفضائل الخَلْقيّة، والفضائل النُطقية (المكتسبة بالعقل والفكر).
والنطقية (أو الفكرية) هي فضائل الجزء النطقي (العقلي) في الإنسان، مثل الحكمة والعقل والكَيْس، والذكاء وجودة الفهم. أما الخَلْقية (أي الفضائل الخَلْقية الأصليّة) فهي فضائل الجزء النزوعي في الإنسان مثل العفّة والشجاعة والسخاء والعدالة.
والرذائل تنقسم هذه القسمة، وفي كلّ واحدةٍ من الرذائل أضداد الفضائل التي تخصّ الخلقية والنطقية[9].
ويؤكد الفارابي عدم انفكاك ومفارقة الفضيلة الخَلْقيّة للفضيلة الفكرية[10]. ومن شأن الفضيلة الفكرية، وهي سابقةٌ للفضائل الخَلْقية، أن بها يتمّ وتُستنبط الفضائل الخُلُقية؛ (بمعنى أن المخلوق فينا يوضَّح بواسطة العقل والفكر). ويعلّل ذلك بتأكيد حاجة الفضيلة الخَلْقيّة لفضيلةٍ خارجةٍ عنها، وهي الفضيلة الفكرية الإنسانية التي وجودها بالطبع في حين أن الفضائل الخُلُقية كائنةٌ بالإرادة الإنسانية[11].
وتوسّع في شرح أخلاق المدن المضادة للمدينة الفاضلة المثالية، مدينة الأخيار الصالحين، التي رسم خصائصها. فالجاهلة، والفاسقة، والمبدّلة، والضالّة، وهي مجتمعات قائمة في المعمورة ويوصف ما فيها من قهر، وقوة، وتنازع البقاء،.. وتوصيفه لها لا يقل قيمة عن تلك التي أفاض نيتشه (ت 1900)، وداروين (ت 1882) في الكلام عنها، ويقارن فيما بين هذه المجتمعات والاجتماع الحيواني. ومن أقواله فيها في كتاب “آراء أهل المدينة الفاضلة”[12]: “فإنا نرى كثيرًا من الحيوان يثب على كثير من باقيها، فيلتمس إفسادها وإبطالها من غير أن ينتفع بشيء من ذلك نفعًا يظهر..”، و”العدل، فيها، إذن التغالب، والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها”، واستعباد الغالب للمغلوب عندهم عدل.. فهذا كله هو العدل الطبيعي وهو عندهم فضيلة. ونتوقف عند تعريفه للمدينة المبدّلة وهي “التي كانت آراؤها وأفعالها في القديم آراء المدينة الفاضلة وأفعالها، غير أنها غيّرت خطتها فاستحالت آراؤها وأفعالها إلى غير تلك الآراء والأفعال”. ونتبيّن من كلامه أنه تأثر بواقع الحياة في عصره الذي انعكس فهم القيم الأخلاقية والاجتماعية، وإن كان ذلك من باب النقد لها لمخالفتها لتصوره للمدينة الفاضلة. فإشارات صريحة حول اختلاف القيم الأخلاقية باختلاف المدن (المجتمعات)، وقد تتبدل في المدينة الواحدة.
إن الفارابي الذي آثر العزلة والزهد أفاض في ترسيخ فلسفة أخلاقية سياسية اجتماعية تتفوق في قيمتها على الموروث من المتقدمين، كأفلاطون وأرسطو، لكونه طوّع هذا الموروث وقدّمه على نحو معاصر لزمانه ومنسجم مع التعاليم الدينية الإسلامية. وعندما حصر الفارابي مهمة الفيلسوف في رعاية النظام والانسجام بين الأفراد، وفي الإرشاد إلى شرائع الأولين (من الأنبياء)، واستنباط الأحكام فيما لم يرد فيه شرع، إنما يكون قد وضع الفيلسوف في عداد الراسخين في العلم الذين لا بدّ من وجودهم لتستقيم أفعال العباد، وتحليتها بالفضائل المنجية، ليبلغ الاجتماع البشري أفضل كمالاته المتمثلة بالسعادة في الحقيقة.
هذه بعض الآراء في الأخلاق التي عرفت في القرون الوسطى. ونعرض لبعض الآراء والتصورات التي عرفت في الفكر الغربي الحديث.
فسبينوزا (ت1677 له كتاب “علم الأخلاق”[13] Ethica, ordine geometrico demonstrata)، من أنصار الاتجاه العقلي، لا ينفي النسبية في الأخلاق. ويصف فرويد (السيكولوجي المشهور) كتاب سبينوزا في “الأخلاق”؛ (الكتاب مقسم إلى خمس مقالات، يطبق فيه المنهج الهندسي، الأولى في الله، والثانية في النفس، والثالثة في الانفعالات، والرابعة في عبودية الإنسان، والخامسة في قوة العقل أو في حرية الإنسان). بأنه “أكمل دراسة جاء بها فيلسوف أخلاقي في أي عصر من العصور”.
ينطلق سبينوزا، في كلامه عن الأخلاق، من غاية الإنسان القصوى وهي السعادة. فيعرّف السعادة، أولًا، بأنها وجود اللذة وانتفاء الألم مع الإقرار بأنهما نسبيان بحسب الأشخاص. واللذة “انتقال الإنسان من حالة كمال أدنى إلى حالة كمال أعلى”، والألم “انتقال الإنسان من حالة كمال أعظم إلى حالة كمال أدنى”. واعتباره اللذة “انتقال” يرجع إلى اعتقاده بأن اللذة ليست الكمال ذاته، والذي يقوله عن اللذة يقوله أيضًا عن العواطف والفضائل. فالعواطف هي في الحقيقة تحرك وانتقال نحو الكمال أو النزول منه. ويشرح رأيه في العواطف، يقول: “أنا أفهم من العاطفة أوضاع الجسد التي تزيد فيه أو تنقص منه قوة العمل، والتي تعاون أو تعطل هذه القوة، وأفهم منها في نفس الوقت الأوقات والتصورات التي تصحب تلك الأوضاع.. فالعاطفة أو الشعور لا يكون خيرًا أو شرًّا في نفسه، ولكن بمقدار ما ينقص من قوتنا أو يزيد، وإني – سبينوزا – لا أقصد معنًى واحدًا من لفظَتَيْ القوة والفضيلة؛ إذ الفضيلة عندي إنما هي قوة العمل. فكلما استطاع الإنسان أن يحتفظ ببقائه، وأن يبحث عما ينفعه كان قسطه من الفضيلة أعظم”.
ويرى سبينوزا أن العاطفة إذا كانت مبنية على أسس عقلية فكرية، وليس على المشاعر، أنتجت الفضائل. ولذلك يترتب على الفلسفة وضع القوانين الضابطة للرغبات ليسلك السلوك الصحيح بمقتضى العقل. وبالعقل يستطيع الإنسان أن يحرر نفسه من القيود الناتجة عن العواطف الجامحة، وعن الغرائز فيبلغ الكمال والحكمة، ويجنّب نفسه شرور الشهوات التي تقيد حريته، ويتمكن بالتالي من العمل طبقًا للقوانين الكلية السرمدية.
والذي يقال على الأفراد يقال أيضًا على الجماعات. فالأنفع للجماعة أن يعيشوا على نحو متفق مع قوانين العقل. وللإنسان الحق في أن يعيش بسلام وأمن، وهذا لا يمكن تحقيقه، إذا كان كل فرد يعمل ما يروقه، الأمر الذي حتم ضرورة الاتحاد والتعاون والتقيد بالشرائط التي ارتضوها في تعاقدهم وتعاهدهم والانصياع لحكم العقل، وطاعة أحكام السلطة العليا التي اختاروها. إلا أن الطاعة مشروطة. فلا تصح الطاعة إلا للقانون النافع، والطاعة لا تنفي ضرورة نقد السلطة أو الثورة عليها.
والديمقراطية التي دعا إليها يوضحها في قوله: كلما اتسعت مشاركة الشعب في الحكم ـ من طريق تقدير الأوامر والنواهي ـ قوي الاتحاد والتحاب. ويرى أن نجاة الشعب وسعادته هي القاعدة الكبرى التي تبنى عليها القوانين المدنية والدينية. وقيام الدولة بدّل الأوضاع التي كانت سابقة عليها لسيادة الفوضى فيها.
ويؤكد سبينوزا بأن وجود الدولة ضرورة لازمة لحماية الدين والأخلاق معًا، فالأخلاق تضمحل عند غياب السلطة الشرعية المعترف بها من قبل المجتمع. والدولة ضرورية أيضًا لصيانة الأفراد الذين تخلوا عن مصالحهم الخاصة، وعن شيء من قوتهم التي لهم بالطبيعة، لصالح الخير العام وفق القوانين الوضعية التي تحدد تصرفاتهم وتمكنهم من بلوغ الكمالات التي يسعون إلى تحقيقها، وبشكل خاص عندما تكفل حريتهم في تقييم أحكام السلطة والاعتراض على كل الأفكار المخالفة للمصالح العامة.
في مقابل الاتجاه العقلي في القارة الأوروبية برز الاتجاه التجريبي في بريطانيا. ومن أبرز أعلامه جون لوك (1632 – 1704)، وباركلي (1685 – 1873)، وديفيد هيوم (1761 -1776)، وجون ستيوارت مل (1806 – 1873).
وتعرّف التجريبية نفسها بأنها فلسفة العلم لكونها تسعى في جميع تعميماتها إلى أن تكون منفتحة على العلم واختباراته. والمبادىء العامة للتجريبية تتعارض مع مبادىء الفلسفة العقلية. ونشأ المذهب التجريبي كرد فعل على المذهب العقلي المثالي الذي أقامه ديكارت وليبنتز وسبينوزا.
وتختلف نظرة هوبز (ينتمي إلى المذهب التجريبي ت 1679 له كتاب اللفياثان[14]Leviathan؛كائن أسطوري وحشي وهو رمز للدولة المطلقة)، ويرى فيه أن الأخلاق جزء لا يتجزأ من فلسفة السياسة، وهذا ما انعكس في نظرة سبينوزا للدولة، إذ يصورها “كتنين جبار” لكونها تبتلع في جوفها كل أفرادها، وتسحق إرادتهم وتلغي تطلعاتهم الشخصية بما في ذلك التفكير بمعارضة الدولة والثورة على الحاكم المطلق.
فالدين والأخلاق، عنده، من صنع الدولة، والأنانية سمة طبيعية في الأفراد. فالخير عند الفرد هو ما يريده ويرغبه، والشر هو ما يضرّه. وكون الدولة هي التي تحدّد دينها وأخلاقها، فلها الحق وحدها للإشراف عليهما، لأن القوة هي الحق، والقوة محصورة في شخص الملك. وفي ذلك نفي مطلق لمنازع الديمقراطية والثورة على الملكية إذا حادت عن جادة الصواب.
إلا أن آراء لوك (ت 1741 له كتاب مقالة عن الفهم الإنساني ويعرض فيه نظريته الأخلاقية وقوانينها)[15]، السياسية (وهو أيضًا تجريبي) تختلف عما هي عند هوبس الذي يصور الإنسان كقوة بطش وتوحش، ويجعل القانون في خدمة الأقوى. وبذلك يكون لوك قد طرح قضية الديمقراطية على بساط البحث في عالم الملكية والاستعباد. فلوك يدعو إلى حرية الاختيار، وحرية العمل، والتراضي في العقد الاجتماعي.
وفي السياق عينه، من غير الممكن تجاهل موقف هيوم من الدين والأخلاق؛ إذ إن نظريته في التعاقب (العلة والمعلول)، وموقفه المشكك بالهوية الشخصية، سوف يحدث تغييرًا أساسيًّا في مجالي الدين والأخلاق. فمجرد إثبات عدم القُدرة على معرفة الارتباطات الضرورية (بين العلة والمعلول) يؤدي إلى انهيار الأوامر والقيم الأخلاقية؛ إذ إن المبادىء والقيم الأخلاقية تحتاج إلى حجج عقلية تبررها. وهنا يصبح أساس الأخلاق مماثلًا في ضعفه للعلّية ذاتها ـ من وجهة نظر هيوم ـ ويصبح بمقدور أي فرد أن يتخذ الرأي الذي يريد دون حاجة إلى تبريره.
فالمبدأ النفسي الذي يسعى هيوم إلى تطبيقه على أوصاف السلوك الإنساني، وكل ما يقبله الإنسان أو يرفضه، هو مذهب اللذة. فلا شيء يؤثر على الفعل الإرادي غير اللذة والألم. وقد يكون التأثير مباشرًا كإسقاط طبق ساخن من يدي بسبب الألم الذي يحدثه، أو غير مباشر كأن يمنعني خوفي من الألم أن ألمس طبقًا أتوقع أن يكون ساخنًا. وأما العقل فهو ـ بحد ذاته ـ لا يستطيع أن يؤثر على السلوك، وتأثيره غير مباشر، أي باكتشافه للوسائل التي تشيع فينا عاطفة ما، أو باكتشاف وجود شيء ما يثير مثل هذه العاطفة. ثم إن العقل لا يستطيع أن يحسم في المسائل الأخلاقية ما دامت الأحكام الأخلاقية مختلفة عن أمور الواقع وعن علاقات الأفكار معًا.
وقد كان من أبرز سمات التجريبية موقفها المتسامح اتجاه أولئك الذين يتبعون اتجاهات فكرية وأخلاقية ودينية مخالفة.
وبين العقلانية (القارة الأوروبية)، والتجريبية (الإنكليزية)، يؤكد كانط (ألماني 1724 -1804) في فلسفته النقدية، بأن القوانين الأخلاقية راسخة فينا قبل التجربة، وأن الأوامر الأخلاقية، التي لا بدّ منها لقيام الدين، عامّة مطلقة مستمدة من فطرة الإنسان؛ وذلك لأن كل محاولة يقوم بها العلم أو الدين للوصول إلى الحقيقة النهائية هي محاولة فاشلة؛ لأن العقل غير قادر على تجاوز الظواهر الحسّية، وعالم الأشياء في أنفسها تبقى مجهولة.
وهو لذلك يدعو إلى ترك العقل وتشييد الإيمان على ما هو فوق العقل، على الأخلاق، بشرط أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة ومستقلة بذاتها (غير مستمدة من التجربة)، أي من ذات النفس مباشرة.
وكما بّين- كانط – أن مبادىء الرياضيات فطرية في النفس تقضي الحكم بصحتها، كذلك كان سبيله إلى بيان كون العقل يمكنه بطبيعته أن يقود الإرادة ويهديها إلى السلوك القويم من غير الرجوع إلى أي شيء خارجي محسوس؛ أي أن قانون الأخلاق ناشيء قبل التجربة.
ويقدّم كانط أمثلة تؤكد البواعث الفطرية للأخلاق، منها: أنني لو وقعت في كارثة ولا سبيل لي للنجاة منها إلا بالكذب، قد أكذب للنجاة، لكنني “بينما أريد لنفسي الكذب، فإنني لا أحب بحال من الأحوال أن يكون الكذب قانونًا عامًّا، لأنه بمثل هذا القانون ستنتفي الوعود”[16]. ولذلك لا يجوز لي أن أكذب ولو كان الكذب في صالحي. ومعنى ذلك أن القانون الأخلاقي ـ هنا ـ لا يقيس خيرية العمل بما ينتج عنه، أو بما فيه من حكمة، وإنما الخير ما يكون موافقًا لما يأمر به الواجب، من دون الالتفات إلى التجربة والمصلحة الشخصية.
فإرادة الخير – العام – تأتي موافقة لقانون أخلاقي في فطرة النفس. “وليست الأخلاق هي ما يعلمنا كيف نجعل أنفسنا سعداء، ولكن هي ما يجعلنا جديرين بالسعادة”. ولكي تكون الأعمال مؤدية إلى الكمال وسعادة الآخرين يجب “أن تعمل بحيث تتخذ الإنسانية – سواء أكانت ممثلة في شخصك أو في أي شخص آخر – غرضًا، ولا يجوز لك قط أن تعتبر الإنسانية وسيلة فقط..”.
فكانط يستبعد مذهب السعادة الشخصية (كما عند أبيقور)، ويستبعد أيضًا المذاهب التي تبني الأخلاق على فكرة الكمال، لأن فكرة الكمال، غير معينة من حيث غايتها، وغير معينة في ذاتها، لأن غاية الكمال ليست أخلاقية دائمًا، ولا يمكن رد الكمال بالنسبة إلينا إلا في اكتساب كفاية ما لتحقيق غاية ما. فمن الخطأ بالتالي رد القانون الأخلاقي لموضوع أو لسلطان موجود أعلى، والصواب رده إلى الإرادة الصالحة، التي يُجمع الناس على كونها الشرط الضروري والكافي للخلقية؛ وذلك لأن الإرادة الصالحة خيّرة بذاتها لا بعواقبها.
ثم إن الصوت الباطني الداعي إلى تلبية نداء الواجب يستلزم القول بحرية إرادة الإنسان، لأنه من غير الممكن تصور فكرة الواجب دون أن نتصور الإنسان حرًّا فيما يختار من أعمال. ويعرّف الواجب بأنه “ضرورة العمل احترامًا للواجب”. فالاحترام، من حيث طبيعته، عاطفة أصيلة فينا، بينما سائر العواطف ترجع إلى الميل أو الخوف. ولا يتجه الاحترام لغير القانون، وإذا اتجه إلى الأشخاص فلأنهم يبدون بفضيلتهم أمثلة للقانون.
وصوت الواجب، الباطني، الذي فطرنا عليه هو الدليل على حرية الإنسان، وهو الدليل على خلود النفس. فالحياة تعلمنا بأن افتراس الثعبان أنجح في هذه الدنيا من رقة الحمامة، وأن السرقة والغدر والخيانة كثيرًا ما تكون أجدى من الفضل والأمانة الإحسان، ومع ذلك فهناك صوت يدعونا إلى الفضيلة وعمل الخير، بغض النظر عن العواقب.
وفي الفكر الفلسفي الأخلاقي والمعاصر يمكن الوقوف عند المذهب النفعي (وهو امتداد للمذهب التجريبي النسبي بامتياز) الذي ينظر إلى الفعل الإنساني وتقييمه على ضوء نتائجه. وكان لهذا المذهب الحضور الأقوى في القرن المنصرم. ومن أعلام هذا المذهب (المتأثر ضمنيًّا بالمذهب الأبقوري والتجريبي) جيريمي بنثام (Jeremy Bentham إنكليزي ت 1832)، وجون ستيوارت ميل (إنكليزي ت 1873John Stuart Mill)، وهربرت سبنسر (Herbert Spencer إنجليزي ت1903)، وهذا الأخير صاحب العبارة الشهيرة: البقاء للأصلح، من وحي المذهب التطوري (دارون).
عرض بنثام نظريته، التي تقوم على المنفعة، وهي نسبية، في كتابه الشهير “مقدمة لأصول الأخلاق والتشريع”[17]، وينطلق فيه من مسلّمة خضوع الإنسان لسلطتين وهما: اللذة والألم، وأن السلوك الصحيح هو ذلك الذي يحقّق أكبر قدر من المتعة للفرد أو الجماعة، ولذلك تركّز نظريته على النظر في عواقب الأعمال التي يقوم بها الفرد أو الجماعة ونتائجها، والمعايير الممكنة لهذه النتائج حسابية تتعلق: بقوة وشدة المتعة، وطول المدة، واحتمالية حدوثها، والمتع المتوقعة (الخصوبة)، وخلو المتعة من الألم (النقاء)، وعدد الأشخاص الممكن أن تطالهم المتعة (المدى). وعمل على تطبيق نظريته في سن القوانين لتحقيق “أعظم سعادة لأكبر عدد من البشر”.
وطور مل نظرية أستاذه بنثام وحاول تلطيفها لتصبح أكثر قبولًا، وذلك في كتابه “مذهب المنفعة”[18]، فميّز بين نوعين من الملذات: العليا (العقلية الروحية المثالية، والدنيا الجسدية، مع تقديمه بالطبع الأولى على الثانية). وعبارته شهيرة في ذلك: “من الأفضل أن تكون إنسانًا غير راضٍ على أن تكون خنزيرًا راضيًا”. وهو في ذلك ينتقد عبارة بنثام التي تساوي بين المتع إذا كانت متساوية حيث يقول (بنثام): “حركة رياضية تساوي قصيدة شعرية إذا كانت كمية المتعة متساوية”، ويضع مل الجودة مقابل الكمية. هذا بالإضافة إلى تركيزه على توسعة مجال المنفعة لتطال السعادة المتأتية عنها، ويربط بين مبدأ عدم الإيذاء، ومبدأ الحرية واحترامه للحريات الفردية وحمايتها من طغيان الأغلبية التي تلجأ إلى تبرير ظلمها بحجة تحقيق السعادة للجميع. ويقول بأن الحق الحصري لسلطة المجتمع ضد إرادة الفرد هو منع إلحاق الضرر بالآخرين. ويعتبر مبدأ عدم الضرر هو المعيار والمرتكز للتمييز بين الفعل السيء والفعل الصائب الحسن.
وانطلق سبنسر[19] في كلامه عن الأخلاق من الأسس التي تقوم عليها نظرية التطور؛ إذ جعل القواعد الأخلاقية رهينة العملية التطورية المستمرة تحت سقف مبدأ البقاء للأصلح، ويفصلها عن الأوامر الإلهية، والمبادئ العقلية المجردة. والتمييز بين فعل الخير وفعل الشر، هو أن الأول يُدعِم وجود الفرد والمجتمع وبقائهما، وعلى عكس ذلك فعل الشر.
وكان لنظرية سبنسر وقعها في تقوية الليبرالية التي تدعو إلى تقليص تدخل الدولة في شؤون الأفراد، وخصوصًا ما يتعلق بالضعفاء، إلى الحد الأدنى، لأنها في حال مساعدة الضعفاء تكون قد خالفت عملية التطور الطبيعي التي تقضي بالتخلص من الأفراد غير المفيدين الذي يضر بالمجتمع.
ويُسجل لسبنسر خروجه من دوائر المذهب النفعي التقليدي (عند بنتام ومل) التي ركزت نتائج الفعل في لحظته، ومدى إنتاجها للسعادة، وركز سبنسر على قيمة الفعل في سياقه التاريخي التطوري، وبذلك تكون السعادة سببًا للفضيلة وليس نتيجة لها.
وتبدت النسبية في الأخلاق في كتاب شارل لالو (فرنسي ت 1953Charles Lalo). “الفن والأخلاق”[20]، حيث يعتبر الفن غير منفصل عن الحياة، وأنه جزء من التجارب الإنسانية المشتركة المحفوفة بالقيم الأخلاقية والقيم المجتمعية السائدة في عصر ما، ويساهم أيضًا في تقوية الأخلاق وتحصينها أو تدميرها، وله القدرة على الارتقاء بالمجتمع أو انحطاطه. وهو لذلك يتناول في كتابه القيمة المعيارية التي نعطيها للأحداث ومرورها بثلاث مراحل أو حالات: الأولى: ويسميها الحالة السوية، والثانية: الحالة اللاسوية، والثالثة: الحالة المثالية. من ذلك أن وأد البنات كانت تعترف به كل القبائل العربية قبل الإسلام، وكانت حالة سوية، وعندما حرّم الإسلام وأد البنات صارت قيمة لا سوية. وأما الحالة المثالية فهي حول أمر يمكن حدوثه ولم يحدث، أو في طور الحدوث لاحقًا، مثل نزول الإنسان على سطح القمر قبل حصول الحدث، وعندما نزل أرمسترونغ على سطح القمر أصبحت القيمة محققة. والذي يقال عن وأد البنات يقال عن الزنا (كان يسمى بالعهر المقدس عند السومريين)، وزواج الأقارب (في الحضارة الفرعونية)، وأتت الأديان وحرمتهم.
ويعتبر المفكّر آلان دونو من أبرز الذين كشفوا عن سمات العصر الذي تعيشه البشرية الغارقة في نوع من التفاهة أو الرداءة في شتى المجالات، وفصّلها في عدد من كتاباته التي بيّن فيها فرز دول العالم إلى: غنية جديرة بالبقاء والسيادة، وملحق منتج ومستهلك فقير تابع، في أفريقيا والشرق الأوسط، وذلك في كتابه: “كندا السوداء، النهب واﻹفساد واﻹجرام في إفريقيا”، ويتوسع في فضح “شركة توتال” القابضة التي تمددت نشاطاتها في أكثر من 130 دولة، من خلال إمساكها بعمليات إنتاج وتوزيع المنتجات النفطية، وصناعات الغاز والكيماويات، يساعدها في ذلك ضغوطها على السياسة التي تمارسها على السلطات المحلية، والعمولات الخفية غير القانونية، ونهب الناس من خلال التلاعب بالأسعار، وتحطيم المنافسين الصغار، والتهريب الضريبي، يعضدها في جرائمها هذه الشركات متعددة الجنسية الممسكة بزمام تحديد أسعار النفط، بالتعاون مع الأنظمة السياسية العنصرية إجمالًا، والاستيلاء على الأراضي بالقوة العسكرية، بغطاء شمولي (عالمي) منحرف، وهو ما نشهده منذ بدايات القرن الواحد والعشرين في دول أفريقيا والشرقين: الأوسط والأقصى وأمريكا اللاتينية.
وفي كتابه:”كندا والملاذ الضريبي الجديد”، (“الملاذ الضريبي” هو البلد الذي يعتمد سرية المصارف، أو قوانين ضريبية زهيدة، ويجذب أصحاب رؤوس الأموال والشركات الأجنبية لتهريب الأموال، وعدم دفع ضرائب عالية في بلدانها)، يكشف عن علاقة كندا بالممولين للشركات في المستعمرات البريطانية في منطقة البحر الكاريبي.
وفي كتاب “السرقات القانونية” يكشف عن تلاعب اﻷقوياء عن طريق الملاذ الضريبي، وتحميلهم اﻷعباء المالية في الدولة للأفراد (TVA). وكيف يتم تهريب الشركات الكبيرة أموالها إلى الخارج.
وله كتب أخرى ومقالات جمعها في كتاب بعنوان: “اقتصاد الكراهية”، ويعرض فيه للعمليات التجارية غير القانونية المجحفة التي ينفذها السياسيون النافذون والمتمولون من خلال الشركات التجارية العملاقة القابضة. وأتبع هذه المقالات بكتاب “الشمولية الضارة”، يشرح فيه الممارسات السياسية الحديثة الساعية إلى إلزام الرعايا الاجتماعية بالقوانين وليس الأقوياء. وسن ما هو معروف بقانون السوق، وقانون المنافسة، وقانون العرض والطلب العالمي. ويدرس في هذا الكتاب إمساك الشركات متعددة الجنسيات بتلابيب كل القطاعات، وباستقلالها عن الدول التي أنشأتها.
إلا أن أهم وأشهر مؤلفاته كتابه “نظام التفاهة”[21] (بالفرنسية: La Médiocratie). وتناول فيه قضية انتشار “التفاهة”، أو “الرداءة” في جميع مجالات الحياة المعاصرة، من السياسة إلى الاقتصاد والأخلاق، وإلى الفن والثقافة. ويُحلّل بشكل واسع ودقيق كيف يؤدي هذا النظام التافه إلى تدهور القيم والمعايير الأخلاقية في المجتمعات. (للكتاب ترجمة جديدة للزميل د.باسل الزين بعنوان: الأخلاق في عصر التفاهة).
ويختصر دونو حالة القيم الأخلاقية وسماتها الغالبة في عصرنا الراهن من خلال توجيهاته ذات المغزى الأخلاقي والسياسي، فيشير على القارئ بالقول: “فلتكن أفكارك رخوة، وأظهر ذلك، ليسهل تصنيفك”. “لقد تبوأ التافهون مواقع السلطة والإدارة”. فأنت في عصر مختلف عن عصر الثورات والأحداث الجسام كاقتحام سجن الباستيل؛ (شرارة الثورة الفرنسية)، وحريق الرايخستاغ؛ (مبنى البرلمان الألماني الذي سمح للحزب النازي بإحكام قبضته على السلطة)[22].
وقدّم نفسك كشخص لا معنى له. ولا تكن فخورًا أو روحانيًّا كي ﻻ تظهر بمظهر المغرور. وخفّف من شغفك. وﻻ تقدّم أفكارًا جيدة؛ لأن آلة إتلاف الورق ملأى بها سلفًا. فإن كنت كذلك ضمنت لشخصك صفة التفاهة التي تخولك الدخول إلى نظام التفاهة القائم الطاغي والمتحكم بمفاصل إدارة الوطن والعالم. هذه نصيحة دونو لمن أراد حفظ رأسه وتسيير أموره وأعماله، وذلك باﻻتكاء على كتب المحاسبة التي أضحت أكثر أهمية وفائدة من الكتب الأدبية والفلسفية المعقدة.
فمجتمعاتنا أصبحت تقدّر “التفاهة”، أو “الرداءة” على حساب الكفاءة والتميز، وأن التافهين يتصدرون المناصب العالية في المؤسسات والشركات. ويتم تهميش المفكرين والمثقفين، واستبدالهم بـ”الخبراء” الذين يتقنون مجالًا ضيّقًا ولا يتمتعون برؤية شاملة أو قيم أخلاقية. وهمهم السعي وراء الأرباح السريعة والنجاح السطحي، حتى لو كان ذلك على حساب القيم الأخلاقية. فالنجاح يُقاس بالكم (عدد المتابعين، الأرباح، إلخ)، وليس بالكيف (الجودة، الأمانة، العدالة).
وطالت السطحية الفنون، والثقافة، والتعليم، وأصبحت الفضائل الأخلاقية تُقاس بناءً على متطلبات السوق والربح، وليس بناءً على قيمها الجوهرية. وهذه الحالة تذكرنا بقول الإمام علي: “إذا أردت أن تعرف حقيقة إنسان أعطه مالًا أو سلطة، إنما المال وسيلة، فمن جعل المال غاية سجن نفسه في أثرها وضحّى بقيمه في سبيل ما هو فان ومضمحل”. ويصدُق في التافهين القول: “إنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف”، والذين يتقنون فنون النجاة واقتناص الفرص، ويحظون بفرص أفضل في النجاح، ويظهرون أنفسهم على أنهم أذكى من الجميع، ويتمتعون بابتسامة متواطئة على الدوام، وهمهم الأول المحافظة على موقع هام على رقعة الشطرنج الاجتماعي.
ونجد التافهين في كل الدوائر الحكومية والمؤسسات والجمعيات المدنية والأهلية. فمأمور الضرائب مثلًا يلاحق نادلات المقاهي عوضًا عن ملاحقة أصحاب المطاعم، والسوبر ماركت، والمصانع، وشركات الاستيراد والتصدير، والبنوك وغيرها، مسايرة لأصحاب النفوذ. والكل غارق في حنايا لعبة الخداع، لدرجة أن منتقد هذه الممارسات يخضع لسلطانها، ولو بأشكال ومبررات متواطئة مختلفة.
والتافه يضعه ﻻبرويير (كاتب فرنسي ت 1696)-كما يقول دونو – في خانة طبقة الأقلية في تصنيفه لطبائع الناس في المجتمع، ويتمثله كمخلوق منحط يلفق الأخبار، ويروج للدسائس في أوساط ذوي السلطة، ويصفه من خلال شخصية “سلسي”: “.. لم يكن عالمًا ولكنه كان ذا علاقة بالعلماء، كان قليل الجدارة، ولكنه كان يعرف أشخاصًا ذوي جدارة كبيرة، لم يكن حاذقًا، ولكنه كان ذا لسان يجعله مفهومًا، وقدمين تحملانه من مكان إلى آخر”. وأمثال هذه الشخصية كبُر عديدهم وصاروا جماعة قابضة على السلطة وقمم المؤسسات[23].
وبالعود إلى واقعنا المؤلم، أعتقد وأنا في شرفة متواضعة أُطل منها على محيط فوضوي منظم، أرى فيه ضمور مصطلح الأخلاق وخروجه من التداول ليحل محله مصطلح الرأي العام، والذي هو بدوره صناعة متقنة، وسلعة رائجة وكسبية. وألمس وأشاهد في زاوية قريبة دمار غزة، ووجوه الغزاويين وأجسادهم المتفحمة من القصف الوحشي الإسرائيلي، ومن الجوع، وطوق الحصار البحري، والجوي، والرملي، وكل ذلك ما كان لولا التحضيرات له فيما سمي بثورات الربيع العربي الذي خلخل البيئة الجغرافية، والسياسية، والاقتصادية، المحيطة. وربما ما يحصل في غزة ولبنان وسوريا، وما سبق حصوله في الدول المحيطة مقدمة لما هو أعظم، ما لم يتم تداركه بتشييد قيم أخلاقية مناسبة تحصن مجتمعاتنا.
وإذا شئنا أن يعود لمصطلح الأخلاق حضوره، في فضائنا الاجتماعي والسياسي، ﻻ بدّ من بثه روح المقاومة، والعمل على صوغ قيم أخلاقية مقاومة، وتمتين فضائلها في النفوس، ليكون لإنساننا موقعه على وجه الكرة.
[1] يعتبر أرسطو في هذا الكتاب أن السعادة القصوى للإنسان هي السعادة وطريقها تهذيب النفس بالفضائل، ويتحدث فيه عن نوعي الفضائل: الفضائل الأخلاقية التي تكتسب بالتعود والتكرار كالكرم والشجاعة، والفضائل الفكرية التي تكتسب بالتعلم والخبرة كالحكمة.
[2] ابن مسكويه (أحمد بن محمد)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، له عدة طبعات، انظر طبعة المطبعة الحسينية، القاهرة، ت 1911.
[3] يحيى بن عدي (أبو زكريا)، تهذيب الأخلاق، له عدة طبعات، انظر طبعة المطبعة المصرية الأهلية، القاهرة، ت 1900.
[4] محمد الريشهري، ميزان الحكمة، الجزء1، الصفحة 658.
[5] الغزالي (أبو حامد محمد)، المنقذ من الضلال، له عدة طبعات، انظر طبعة د. سميح دغيم، دار الفكر اللبناني، بيروت، ت 1999.
[6] البغدادي (أبو منصور عبد القاهر)، الفرق بين الفرق، طبعة محمد علي صبيح وأولاده، ت 2005.
[7] انظر: رسائل الجاحظ، المعاش والمعاد، الجزء1، الصفحة 103.
[8] الجاحظ (أبو عثمان)، رسائل الجاحظ، طبعة مؤسسة هنداوي، جمع حسن السندوبي، القاهرة، ت 2022.
[9] الفارابي، فصول منتزعة، دار السفير، الصفحة 30.
[10] الفارابي، تحصيل السعادة، تحقيق جعفر آل ياسين، دار الأندلس للطباعة والنشر، بيروت، ت 1981، الصفحة 27.
[11] المصدر نفسه، الصفحة 28.
[12] الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، قدم له د. علي بو ملحم، بيروت، دار ومكتبة الهلال.
[13] باروخ سبينوزا، علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربي، الطبعة1، ت 2009.
[14] توماس هوبز، اللفياثان، ترجمة ديانا حرب وبشرى صعب، أبو ظبي، دار كلمة.
[15] جون لوك، مقالة عن الإنساني، ترجمة فراس الحمد الحمداني، بغداد، كلية القانون، الجامعة المستنصيرية، ت 2019.
[16] عدد مهم من نصوص كانط، فيها تأكيد على أن الكذب هو خطأ أخلاقي، كما في مؤلفاته: “دروس الأخلاق”، “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، “نظرية الفضيلة”. فالكذب، عنده، هو انتهاك لواجب المرء ضد نفسه وصدقه معها.
[17] جيريمي بنثام، مقدمة إلى مبادىء الأخلاق والتشريع، ترجمة كريم الصياد، مصر، مشروع جامعة القاهرة للترجمة، 2013.
[18] جون ستيوارت ميل، مذهب المنفعة، المترجم/المحقق: ياسر شعبان، كنوز للنشر والتوزيع، ت2019.
[19]كتاب سبنسر الأبرز حول الأخلاق هو “بيانات الأخلاق” (The Data of Ethics)، والذي ضمنه أفكاره الأخلاقية المرتكزة على التطور البيولوجي والاجتماعي.
[20] شارل لالو، الفن والأخلاق، ترجمة عادل العوا، دمشق، الشركة العربية، ت1965.
[21] آلان دونو، نظام التفاهة، ترجمة مشاعل عبد العزيز الهاجري، بيروت، دار سؤال للنشر، الطبعة1، 2020. للكتاب ترجمة جديدة للزميل د. باسل الزين بعنوان: الأخلاق في عصر التفاهة.
[22] نظام التفاهة، مصدر سابق، الصفحة 69.
[23] آلان دونو، نظام التفاهة، مصدر سابق، الصفحة 74.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
