هل ندمت يومًا؟ هل جربت في مرحلة من حياتك أو قرار من قراراتك الندم؟

صدقني يا عزيزي، إنك إن لم تشعر بفقدان معنى الحياة، أو إمكان خسارتها بسبب أمر ما، أو فعل ما، أو قرار اتخذته ثم أخذ بك إلى اختلال حياتك ونفسك فأنت لم تشعر بالندم.

وهنا حديثنا لا يدور حول كلمة “ليتني ما فعلت” التي نكررها يوميًّا مئة مرة، أقل أو أكثر، فهذه عبارة ورثناها عند المواقف السخيفة التي لا تستدرج ألمًا وتحوّلًا عميقين فيك.

مثل هذه الكلمات هي تعبيرٌ ملطّف عن عبارة سأعود لمثل ما فعلت في فرصة أخرى.

ليس هذا هو الندم.

ما لم تحفر فيك التجربة عميقًا فتنهش في جسدك لتخسر عافيتك، أو من عافيتك، لن تتعرف إلى الندم. ما لم يدفعك طمعك إلى خسارة ما ادخرت من مال وجاه ورفاهية عملت طويلًا على جمعها بلعبة أسميتها الحظ المقامر بأشكاله المتنوعة، فأنت لم تعرف معنى الندم.

ستتعرف إلى الندم، بشرط واحد، حينما يبلغ بك قرارٌ أو خطوة ما لتصطدم بخطر مؤلم يضع كل مسار حياتك على مفترق العاصفة.

هنا ستنكفئ على ذاتك، وتشعر بنحو من الانفصال بينك وبين ما حولك ومن حولك كمحموم أذهله مرضه عن كل ما عداه، فيتسرب إليه اضطرام الحمّى ليل نهار، في صحو مذهول، أو نوم مبعثر ليجول في ذهنه ألف وهم، وألف بعثرة من الفوضى الفارغة المضنية.

ومن دون أن تلمس مؤشر ذلك في وهن جسدك وفتور رحمتك، ورغبتك في الخلاص من الفراغ والملل الذي لا تعرف له منشأ ولا مخرجًا، أنت إذًا لم تتعرف إلى الندم.

يمكن لهذا الندم الذي يسبق الحسرة أن يضارعها فيتحدا ليضعاك أمام المجهول المقلق، ويسلباك إرادة أن تفكر، وإرادة أن تثق، وإرادة أن تحكم في شيء، أو تقرر شيئًا. حينما تشعر أنك المبتلى من بين العالمين، وتغبط الناس على تعافيهم مما أنت فيه، اعلم أنك على عتبة الندم الفعلي.

وقبل أن تسأل من أين يتولّد الندم؟ فإن في استعراض بعض صنوفه وأشكاله مدخلًا لمسعى فهمه على أن تبقى فاصلًا بين فهم أمر كالندم، وبين عيشه.

وسأكتفي بنموذجين:

النموذج الأول: السقوط في الفخ.

عندما يتخذ المرء في لحظة من لحظات حياته قرارًا بأمر حسّاس ليس فيه مخالفة لأي وازع أخلاقي، أو حكم شرعي، أو تعدٍّ على أحد. إنه أمر خاص به، يمكنه أن يأخذه، ويمكنه أن لا يأخذه، لكن أخذ القرار بلا شك ستتبعه نتائج قد تكون سلبية ومؤثرة، إلا أنها محتملة وليست أكيدة. نجاحها قد يؤثر إيجابًا على حاله، إلا أنها أمور على الوجه المعتاد تسير بشكل سليم نسبيًّا رغم عقباتها، وهو يسعى ليغيّر الحال إلى أحسن رغم المجازفة. ولتقريب الصورة أكثر، هناك رجل أنعم الله عليه بالصحة والمال والمكانة الاجتماعية بين أهله ومحيطه وقع بانتكاسة صحية لا علاقة له بها، إنها انتكاسة مرضية. تعالج وتداوى إلا أنها تركت فيه بعض الآثار. وتكيفت حياته معها لفترة ليأتي من يشير عليه بمحاولة إجراء عملية جراحية في الأعصاب شديدة الخطورة، نجاحها ممكن لكن عقباتها صعبة جدًّا. ومن المعلوم أن الآراء والنصائح عادة لا تتفق على صيغة واحدة، وبرغم كل مخاوفه، وبرغم أن ليس في العمر كثير، وهو رجل سبعيني أخذ قرار العملية مجازفًا. النتيجة كانت: ذهنه وعقله حاضرًا، يرى بعينيه ويسمع، لكن وهو الذي كان يكفل كل أهله صار طريح فراش المرض، لا قدرة له على التعبير والكلام ولا الحركة، بل لا قدرة له على الطعام والشراب بنفسه.

هل تتصور اللحظة التي استفاق بها على نفسه كيف تحول بعد أن كان صاحب حول، فإذا به بلا أي قدرة.

النموذج الثاني: الدائرة الفارغة.

وهي تعبير عن نحوين من الناس:

النحو الأول: الذين يقدمون بجهلهم على ما يسبب لعقلهم ونفوسهم وأهلهم ومجتمعهم أضرارًا بسبب المعاقرة، أو التظلم، أو غير ذلك من أمور، ورغم التفاتهم لفظاعة ما يفعلون يعودون إلى ما كانوا دون تردد إذا ما لاح لهم أمرٌ من هذه الأمور التي ألفوها.

أما النحو الثاني: فهو الذي يُدمن على أمر ما سواءً يدمن على الحرام، أو التظلّم، أو غير ذلك، بحيث إنه يصبح مسلوب الإرادة أمامه. يعرف أن فعله يقتله، يذلّه، لكنه لا يمتلك قدرة الخروج منه، كالذي يعاقر الخمر بإدمان، أو الأفيون، ويتحول إلى ذليل ساقط، ويستمر ولا يستطيع الوقوف من سقطة الفراغ رغم بكائه وندمه وحقده على ذاته. هل تتصورون لحظة أو زمن عودته لذاته الواعية أي ندم ينهش بروحه، بحيث سقطت عنده كل قيم الأمل والرجاء؟

حديثنا هنا مع الحالتين نتأمل فيه حصرًا بالندم.

إنه أمر لازم للوضع والحالة المستجدة.

إنه لبوس من الوهن وفقدان القدرة على التحكم.

إنه الحظ الذي يضعك على مفصل المصير ومفصلة الحاضر وغياب الآتي.

لماذا؟

لأن سياق الحياة الطبيعي بفعل قراره توقف عن الحركة في الحالة الأولى، ولأن نموذج الحياة أُنتج بفعل الحالة الثانية. نعم إنه انتحار رمزي غير طبيعي لكنه لا إرادي، وقد ينتج عنه انتحار انتقام من الذات المهانة، أو هروب دائم من كل الناس بمن فيهم السجان المعاقب على ما أقدم من قرار، وبفعل بعض الأحيان على نفس فيه أو كلمة لم يصل إلى حد القرار.

خلاصة هذا التمهيد الذي وصلنا إليه هو أن الندم لحظة استفاقة حصلت نتيجة موقف، وأنه مؤثر في نفس البدن أو ناتج عن إصابة بالبدن وهو المسمّى بالأنفس، أو أنه يتصل بما شكّل في حياة إنسان ما وضعًا مُرضيًا من القدرة المالية أو الاجتماعية، ثم بفعل قرار ما سقط نسيج حياته الطبيعي ليخسر ما جمع، أو لينفضح أمره الاجتماعي بسبب أخلاقيات معينة، فيقف ليواجه المصير.

إذًا، الندم مُنتج للألم العميق، ولقلق من مصير معقد وصعب.

هل من عاقل يحتمل ذلك؟ وهل من وضع للندم يختلف فيه الناس؟

الناس هنا إما أن الحياة في قيمها تقتصر عندهم على الدنيا، فهؤلاء انتهى ما بنوا عليه من ماضي، والحاضر الندم، أما المستقبل فلا سبيل بالنسبة لهم إلا الحظ الذي إما يرمّم ما هم عليه، أو يُقفل، وبما أنهم لا ثقة لهم فعليًّا بما بعد الدنيا، فبعضهم يصبح أسير اليأس، والآخر يفتك فيه وسواس الانتحار. وبالمناسبة فارق بين رغبة الانتحار ورغبة الموت، لأن الثانية مصدرها ندامة جهل القرار، أما الثانية فطلبٌ للوصول إلى خواتيم الحياة.

وبما أن الأفق النهائي لهؤلاء هي الدنيا، وبما أن الدنيا تتمثل لمثلهم في الآخرة كأنها جسم صنعوه بالنوايا والآراء والأفعال يوم القيامة، وفي مصيرهم الأخروي الأخير، وصارت هذه الدنيا كل همهم، بل أمّهم هنا شكل التجسّم يشير إليه الباري ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ[1]. إنها النار التي أوقدها بنفسه من قرن نفسه بأمه اقتران حرام وسفاحة حرام؛ والسبب هو هذا الاختلال الوجودي والأخلاقي والشرعي عند هذا الصنف من الناس، فكيف يمكن للمرء أن يحب أمه حب شهوة ولذة وهوى؟!! كيف يمكن له أن يعقد عليها بما لا يتحمله ذوق أو ضمير بشر؟

إنه لون من أخطر أنواع وأبشع وأقبح صنوف الحريات.

يعاقرها إذا عاقر، ويتلهى بها إذا تلهى، ويقتات عليها ويكتنزها ليتسلط عليها ويتظلم. إنه وجه أهل الدنيا التي قال فيها النبي: “حب الدنيا رأس كل خطيئة”.

وهنا، حتى لو لم تكن الجريمة والخطأ في حق أحد كما يظن البعض، وبالتالي ما كان لأحد أن يجعلك تندم بدفع الثمن، فإن ذاتك بما هي كائن في دنيا الزمن والأعمال كفيلة أن تجعلك فريسة نار الندم القاتل ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً[2].

كخلاصة أولية، إن الندم يأتي بعد خطوة يقوم بها المرء يعقبها نحو من التنبّه على مندرجات الخطأ الذي أقدم عليه صاحبه، فيتحرك فيه شعور عميق يضعه أمام محكمة العقاب، أو الخوف من العقاب ومنه سوء النتيجة، وأصعبه سوء العاقبة والمصير. وهذا ما يشتت قدرته على التفكير، فيصبح بحالة من الذهول سرعان ما تتجه نحو أمر واحد هو الفعل ونتائجه، لتبدأ معاناة كيف الخروج مما أنا فيه؛ إذ لا الزمن يعود إلى الوراء، ولا أيام القادم من الأيام مضمونةٌ أو يؤتمن لها، لتصبح صعقة اللحظة هي سر تحريك كل مشاعر القلق المشحونة بالمخاوف وافتراضات يسميها البعض تهمات، وأسميها فوضى وعي الذات المذهول. وللعلم فقط، إذا كانت الفلسفة دهشة تولد فكرة، فإن الندم صدمة مواجهة الذات والواقع تولد إرهاصات ولادة جديدة. لذا لا يمكنك أن تتجاوزها دون انعكاسات على الجسد، ودون وهن في قدرة التركيز، ودون انشداد طمِّ ذاتك، والمخرج ليس توفر فكرة فقط، بل إجراء من النوع المتميز.

وهنا علينا أن نستحضر السؤال الأهم كيف نستهدي لمواكبة الندم بشكل يولّد الخيارات المنُجية؟

أعود فأؤكد أن الأمر عند من لا يعتقد بحياة بعد الموت سيصبح مقفلًا؛ إذ لا رجاء، وقد يصمد فقط إذا ما كان قد ربّى نفسه على التحمّل الأقسى للظروف فقط، أما من كان إيمانه بالآخرة فإنه لم يقفل الأمر على وجود مستقبل قابل لإعادة إنتاج الأمل من خلال الرجاء.

وهذا ما يجعلنا نعيد قراءة الندم في النص الإسلامي وبما يرتبط بالمصير.

لكن الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى طبيعة علاقتنا بالدين وبالله. فمن يعتقد أن الله بديل عنا فيما نعمل، مشتبه، أو إيمانه اتكاليٌّ يبرر كل خطأ صادر منه لينسبه إلى الله، ويذهب نحو التسويف، ليقول: إن الله يغفر كل شيء. وهذا مستوى من العلاقة مع أفق ألم الندم يبعثر العلاج كما يبعثر الحقيقة. فالله رقيب على كل شيء، وهو معكم أينما كنتم، وهو السميع البصير وبكل شيء خبير؛ إذ هو أقرب إليكم من حبل الوريد. أما القرار والفعل فنحن أصحابه نمارسه بما أوتينا من حرية خيار بين الصواب والخطأ، والذنب والخطيئة رغم أن الله حاضر رقيب لا نراعي قداسة وتجليات ذاك الحضور، فنقع فيما نقع عليه. ولا أقول ذلك من باب ما ذكره القرآن حول قيومية الله ورقابته، بل من ذواتنا التي لا تنفك مفتوحة على لب الارتباط بالله حتى إذا ما أهملنا ذاك الارتباط الإلهي عند الذات جعلنا الله مسوِّغًا لأفعالنا، أما مع ذاك الارتباط العميق فإن الحالة الإيمانية المفتوحة على الأمل تغيِّر واقع الندم نحو حال التوبة وقبلها نحو روح الرجاء، فنقدس ما نؤمن به على مستوى اليقظة والالتزام؛ لأن الإيمان حالة وإن كانت ترتبط بالعقيدة والشريعة، لكنه جانب روحي يُحدث تحوُّلًا في مضمون العقائد، فيندفع نحو ما يعتقد ليكون عنوانًا لهويته، وعنوانًا لموقفه من كل شيء. إن الإيمان هو ارتباط والتزام عميقين بأي قضية نحملها، أو فكرة نتبناها. فكما أن صاحب الالتزام بقضايا الإنسان أو التحرر هو صاحب قضية مؤمن بها لأنه مقتنع بها وباذل فيها، فإن الإيمان بالله واليوم الآخر ليس مجرد إقرار بهما، بل قناعة تمثل رؤيته لقضية رسالية إلهية إنسانية منطلقها الذات المرتبطة بإلهها تستهدي به في حياتها، وتفتح لها الآخرة باب الرجاء والأمل بإنجاز القضية التي يتبناها. أما الباذل والفاعل والمجاهد والمصيب فهو المرء نفسه الذي هنا يصدق عليه الإيمان بالمعنى الديني، فليس الإيمان بالتحلّي وأن تنسب نفسك إليه بشكل سطحي؛ هذا إيمان توارثي ذرائعي نبرر فيه أخطاء قراراتنا بصلاة نؤديها، أو بقول أستغفر الله. أما إيمان ذات الإنسان فهو إيمان التزام قضية حقة تقرّ في القلب ليكون مسؤولًا، ويصدقه عليها العمل بمسؤولية، ليس كالندم محفّزًا عليه.

ويحضرني هنا ما ورد أن رجلًا قال أمام أمير المؤمينين علي (ع) أستغفر الله، فأجابه عليه السلام: “ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين وهو واقع على ستة معاني:

أولها: الندم على ما مضى.

والثاني: العزم على ترك العود إليه.

والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.

والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها.

والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس: أن تذيق الجسد ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

فعند ذلك تقول: أستغفر الله”[3].

المحور في النص أن يتحمل المرء مسؤولية نفسه عن فعله ونتائجه، وهنا يتقدم إلى الله بكلمة أستغفر الله. فالكلمة في لغة الدين هي غيرها في كلام السحر الذي يفترض فيه الساحر أنها تحدث انقلابًا فوق الطبيعة. اللغة الدينية تتماشى مع المسار العادي للأمور، لتصل إلى ما يمكن اعتباره تحصيل النعمة والبركة الإلهية. فما لم يسر آخذ القرار وفاعل العمل بنفسه ومن نفسه وذاته نحو تحمل جهد العمل على تحصيل المغفرة مثلًا.. فالأمور لا يمكن أن تحقق نتائجها لأنها بالأصل والأساس مرهونة بالمسار العادي للحياة.

الندم أمل الذات التي تصحو بفعل ما يتركه على النفس والجسد، العزم إرادة تتحفز ببذل كل جهد لتحقيق المراد، أداء حق المخلوقين والإقرار بالتظلّم الذي مارسه بحقهم، وهو أداء المتضع لصاحب كل حق اغتصب حقه، البحث عن كل سبيل ضيّعه الإنسان، وكان من الممكن أن يسلكه كسبيل هداية من الله وإليه فيؤديه كاملًا. نعم يؤديه على وجهه الأفضل، وأن يعمد وبجدية لولادة بدنية جديدة يذيب فيها لحم الجسد الذي نما على الحرام، ويعود لينشيء من جديد لحمًا على ما أحلّه الله، وهذه إشارة لتأثر الجسد اللازم في أي صحوة ندم وما يتبعها.

وأخيرًا، أن يلتحق بركب أهل العبادة من الذين وصفهم الرسول (ص) بأصحاب القلوب المنكسرة، لينفض عنه كل لذة حرام بألم ووجع حقيقي برجاء الطاعة. مثل هذا المرء المسؤول عن صيغة إيمانه يليق به أن يقول: أستغر الله.

إذًا، كل تعبير إيماني يتوجه به المرء إلى ربه كالشهادتين (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، أو الاعتماد على الله (لا حول ولا قوة إلى بالله)، أو تأدية صلاة أو دعاء وغير ذلك، ينبغي أن ينطلق من موقع أن الإنسان مسؤول عن تأدية المعنى حقه، وبدون ذلك تصبح كل فريضة أو شعيرة أو دعاء وذكر مجرد أمور شكلية نفترض أنها ترقى إلى ربها لمجرد أننا نمارسها ولو بالقول، لكن حقيقة الأمر أن انطلاقًا مسؤولًا جهاديًّا للنفس بكل صنوف وعيها على الألم والندم والقلق والرجاء، هو شرط تحقق هذا السمو في طلب الكمال من تجنب الخطأ، أو التزام الصدق والصواب من الذات، من حقيقة وعيها وعواطفها، من ألمها، من حسرتها، من خوفها ورجائها الموجع بعمق تتحقق الذات بولادات جديدة نحو أفق جديد للحياة، وهذا ما يربطها بمصدر الحياة والنجاة.

القرآن الكريم واستعراضه لصور من الندامة.

لن نتوقف هنا عند كل مورد أورده القرآن الكريم في حق أهل الندامة؛ فموضوعنا لا يرتبط إلا بإبراز الجانب العميق لفعل الندامة في حياة الإنسان، وأنه ليس أمرًا شكليًّا يتحقق كيفما اتفق.

من ذلك قوله سبحانه حول صاحب الجنائن الذي أنفق عليها صاحبها ما ملك، واعتبر أنها لن تبيد أبدًا، ليرجع فيراها وقد احترقت وذوت: ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا[4]، وتقليب الكفين تعبير عن شدة الندم والحزن الذي قلب حياته بعد خسارة كل ما فعل، معتبرًا نفسه هو صاحب شأنية الاستمرار وضمان المستقبل للأشياء، وهنا صحا بعد الندم: ﴿وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً[5].

إذًا، الندم هنا منشؤه التقدير الخاطئ الذي استجلب الخسارة، وبالتالي حينما حصل الندم انفتح القلب على الله معترفًا مقرًّا راجيًا؛ إذ ليس كالندم الواعي سببًا للانفتاح على الله سبحانه.

بعد هذا، سأستعرض موارد ذكر فيها القرآن الكريم كلمة الندامة؛ وهي موارد تنقلنا إلى لحظة مواجهة الحقيقة الأخيرة في الآخرة، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[6].

﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ[7].

وأحيانًا تتبدل مفردة الندامة بقول (يا ليتني)، ومنه قوله سبحانه: ﴿يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً[8]. ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً[9].

﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ[10].

إنه المستوى الأعلى من الندامة، وذلك لأكثر من سبب، فالخطأ هنا ليس مجرد سوء في تقدير الموقف الأنسب من بين المواقف المتاحة، بل هو فيه تعدٍّ مستقبح بذاته على الغير، وإنكار لحقائق ترتبط بأصل وجود الحياة والمصير. فيها تكذيب وتظلّم وكفر بأنعم مصدر الوجود والحياة، وإنكار ورفض لأصل الآخرة ودلالاتها، بل ومستلزماتها. لذا، عندما واجهوا النار أو الموت أو الحساب، أو القيامة، أسرّوا الندامة.

واقعة لم تحصل بعد، لكنها ترتبط ارتباطًا لازمًا بواقع ما نحن فيه، فالإنكار أو الغفلة هي هنا، التظلّم وتحدي الإرادة والحضور الإلهي هم هنا، والتخويف الحاصل لإبراز نتائج الأعمال المتوقعة بفعل ما نحمل من آراء وسلوكات وممارسات لنتجنبها، ولتكون الندامة المفصحة على الرجاء هنا هي بديل الندامة المفصحة على الحسرة القاتلة هناك.

من هنا، فمتابعة الآيات والأخذ بمشهد العذاب منفصلًا عن الندامة وأسبابها العميقة الموصلة لملاقاة العذاب هو بتر للعبرة وللحقيقة.

والدين يخاطب الناس هاديًا منذرًا مبشرًا في دنياهم، وآياته ليست إسقاطات جامدة، ففي كل مشهد إشارات إلى ديناميات وآليات اشتغال النفس والوعي تستوجب تحريك كل وجدان المرء ومنه لوعيه، وبعد ذلك لإرادة الإيمان المفتوح على رجاءات الرحمة والفضل الإلهيين، وكأمرين منفصلين عن الذات، بل فضل ورحمة هما بناء كل ذات أيقظها النوم وفعل الألم على ملاقاة الحقيقة، وبطبيعة الحال، هنا آيات تناولت الندامة في مشهد الحياة الدنيا بشكل مباشر، ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿إِنْ جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ[11]. التحذير من الندم بشأن مصادر المعلومات التي يمكن البناء عليها قد تنسف أسرًا ومجتمعات، بل قد توقع حربًا تليها هزيمة، لذا الحذر منهما شديد ويستوجب ندمًا شديدًا في الدارين الدنيا والآخرة.

من ذلك سأتوقف عند قوله سبحانه بلسان بعض النادمين: ﴿لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً﴾؛ هذه العلاقة التي تحولت إلى سبب للضلالة وفقدان المصير، إذ غيرت الرؤية للحياة ونمط العيش والمسلك الشخصي، بل غالبًا هي تنقل صاحبها من مناخات بيئة وخيارات إلى بيئة وخيارات أخرى. إلا أن الذي أود الإشارة إليه أن غالب من تفاعل مع مفادات الآيات القرآنية حرص على تفسيرها، وبأفضل الأحوال سعى للكشف عن تأثيراتها الاجتماعية، وهذا جيد بلا شك ومفيد، لكن المفاعيل التي تحركها الآيات هي أيضًا وبدرجة هامة مفاعيل نفسية ومفاعيل وعي للذات والوجود. لذا، كلما تعمقنا أكثر في هذا الجانب، كلما حصلنا على حوار تغييري مع الذات، والإيمان الفاعل إنما يتوقف على ذلك، ولهذا الجانب تفيدنا التأويلات العرفانية ورؤى أهل الحكمة والتجربة. وأضيف الاستفادة من محاصيل الدراسات الإنسانية من فلسفة ونفس وخبرة تجارب إيمانية. ولا أدعو هنا لتكون مصدر معلومات وبنية وجهة رؤية، بل كآفاق للتأمل والتدبر يوكل للذات الواعية مهمة الاستغراق في قراءة تدبرية في مفاعيلها وفي حقائقها.

الندم شرط التوبة: “إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإني وعزتك لك من النادمين”. (مناجاة التائبين).

هل الندم عينًا هو التوبة؟ هل هو طريق ملزم إليها؟ لسنا هنا بصدد معالجة مفاهيمية، لكن ما أعود لأؤكد عليه أنه من دون ألم الندم لا يقظة، ووحدها يقظة من يؤمن بالله واليوم الآخر هي المفتوحة على الرجاء.

[1]  سورة القارعة، الآيتان 8و 9.

[2]  سورة الإسراء، الآية 14.

[3]  ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، الجزء 20، الصفحة  56.

[4]  سورة الكهف، الآية 42.

[5] سورة الكهف، الآية 42.

[6]  سورة الأنعام، الآية 27.

[7] سورة يونس، الآية 54.

[8]  سورة الفرقان، الآية 28.

[9]  سورة الفرقان، الآية 27.

[10] سورة الأنبياء، الآية 97.

[11]  سورة الحجرات، الآية 6.


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

تعليقان

  1. رباب شعيب أغسطس 1, 2025 at 9:05 ص - Reply

    رائع كالعادة

  2. السيد علي الغربي أغسطس 15, 2025 at 2:43 ص - Reply

    ماشاء الله نسال الله لكم كل التوفيق والنجاح الديم في الدنيا ىالاخرة*

اترك تعليقًا

قد يعجبك أيضاً


اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.