رحلة البشرية من التعدد إلى التوحيد
مقدمة
بدأت بوادر النهضة الإسلامية في العصر العباسي، وبدأ تدوين الحديث النبوي، وخرجت للنور كتب السير والتواريخ والملاحم، وحدثت نقاشات بين مفكرين مسلمين وغير مسلمين، خاصة في البلاد المفتوحة، كما حدثت سجالات ببن المذاهب الإسلامية، هذا وقد تم ترجمة كتب الفلاسفة اليونانيين إلى اللغة العربية في عصر الخليفة المأمون العباسي، وقام فلاسفة مسلمون بالرد عليها ومناقشتها؛ كما كانت توجد عدة عوامل ساهمت في تصاعد مثل هذه النقاشات العقائدية، مثل اعتناق أعداد كبيرة للإسلام من أبناء الشعوب غير العربية والتي تمتلك تراثًا عريقًا من الحكمة مثل الفرس والمصريين والهنود، وكان من الطبيعي أن تحاول طرح القضايا المتداولة في تراثها القديم للنقاش؛ أهمها إمكانية رؤية الله من عدمه.
وفي محاولة منّا لمعرفة الرؤية الإسلامية بخصوصها، وهو موضوع البحث عن نشأة العقيدة الإلهية منذ اتخذ الإنسان ربًّا إلى أن عرف الله الأحد واهتدى إلى نزاهة التوحيد[1]، أو منذ تحول البشر من فكرة تعدد الآلهة، إلى منارات التوحيد.
هذه الدراسة تقع في ثلاثة مباحث وخاتمة، كما يلي…
مبحث تمهيدي.
- الرؤية والنظر في اللغة.
ينقل ابن منظور في لسان العرب عن ابن سيده: “الرؤية النظر بالعين والقلب”، ويضيف: “الرؤية بالعين تتعدى إلى مفعول واحد، وبمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين”[2]. والنظر هو: “حس العين نظره ينظره نظرًا ومنظره ونظر إليه… وتقول نظرت إلى كذا وكذا من نظر العين ونظر القلب، ويقول القائل للمؤمل يرجوه، إنما ننظر إلى الله ثم إليك، أي إنما أتوقع فضل الله ثم فضلك، ويضيف ابن منظور: “النظر تأمل الشيء بالعين، وكذلك النظر بالتحريك وقد نظرت… والنظارة القوم ينظرون إلى الشيء وقوله عز وجل: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾”[3] بأنه إلى الشيء المرئي.
والنظر أيضًا كما يرى أبو الحسين بن زكريا، في كتابه “معجم مقاييس اللغة”[4]، بأنه قد يعني الانتظار كذلك: “ويقال نظرت فلانًا وانتظرته”، بمعنى واحد، فإذا قلت انتظرت فلم يجاوزك فعلك، فمعناه وقفت وتمهلت ومنه قوله تعالى: ﴿انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ﴾[5]، قرئ انظُرُونا، وانْظرونا بقطع الألف، فمن قرأ انظُرُونا بضم الألف، فمعناه انتظرونا، ومن قرأ انْظِرونا فمعناه أخرونا. وقال الزجّاج: قيل معنى انْظِرونا انتظرونا أيضًا، وينقل ابن منظور عن الفراء: “تقول العرب انظرني أي انتظرني قليلًا، ويقول المتكلم بعجلة؛ (أي بسرعة)، انظرني أبتلع ريقي؛ أي أمهلني، وقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[6]؛ الأولى بالضاد، والثانية بالظاء، قال أبو إسحق: يقول نضرت بنعيم الجنة، والنظر إلى ربها، وقال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾[7]، قال أبو منصور: ومن قال إن معنى قوله: إلى ربها ناظرة يعني منتظرة فقد أخطأ، لأن العرب لا تقول نظرت إلى الشيء بمعنى انتظرته، إنما تقول نظرت فلانًا أي انتظرته… وإذا قلت نظرت إليه لم يكن إلا بالعين، وإذا قلت نظرت في الأمر احتمل أن يكون تفكّرًا فيه وتدبرًا بالقلب، والحاصل في معنى كلمتي الرؤية والنظر، أن كلتاهما يمكن أن تحملا معنى الرؤية والنظر بالعين أو الرؤية والنظر بالقلب.
- الخلفية التاريخية لظهور القضايا العقائدية.
كانت بداية طرح قضية رؤية الله عقب استقرار المسلمين في المناطق المفتوحة كما ذكرنا، ويبدو أن هذا الطرح كان ضعيفًا جدًّا، في البداية، ولكنه بدأ في التنامي، ثم تم الترويج لمثل هذا المعتقد إلى درجة أنه خلال القرن الثاني الهجري كان رؤية الله خاصة في الآخرة معتقدًا مسلمًا به بين المحدثين عمومًا، ما عدا الشيعة والمعتزلة الذين تبنوا التنزيه، ورفض إمكانية رؤية الله سواء في الدنيا أو في الآخرة[8].
المبحث الأول: رؤية الإله عند القدماء.
الفلاسفة والأديان السابقة على الإسلام.
– الفلاسفة اليونانيون.
تنوعت تصورات الفلاسفة اليونانيين حول الإله، وكان من الطبيعي أن تكون هذه التصورات مشوشة لحد ما، نتيجة وثنية المجتمعات التي نشأوا فيها، ومع رفضهم لهذا النوع الساذج من العبادة فقد تباينت آراؤهم ما بين رفض وجود الإله أو القبول بوجوده ووحدانيته مع عدم وضوح الرؤية اتجاهه واتجاه علاقته بالبشر[9].
ويؤثر عن الفيلسوف سقراط أنه أثبت صانعًا مدبرًا فوق الآلهة الأخرى، وأن هذه الآلهة مجرد أدوات يستعين بها في صنع هذا الوجود، وهي لا تختلف كثيرًا عن التصور الوثني التقليدي[10].
أما تلميذه أفلاطون، فتصور أن الله روح عاقل، محرك، جميل، خير، عادل، كامل، وهو بسيط لا تنوع فيه، ثابت لا يتغير، صادق لا يكذب، ولا يتشكل أشكالًا، وهو في حاضر مستمر[11].
ويفسر الدكتور عبد الرحمن بدوي هذا التغير في موقف أفلاطون في محاورة طيماوس[12] بوجود بعض التأثير للدين الشعبي في أفكار أفلاطون بهذه المحاورة، ولهذا اضطر إلى أن يتحدث عن الله كما تصوره (تخيله) الدين[13].
أما أرسطو فقد اعتبر أن الله جوهر أزلي، وهو عقل ليس جسمًا، وليس له مكان، وهو حي ليس بميت، أوحد ليس بمنقسم، محرّك لا يتغير ولا يتحرك، وإنما هو محرك لغيره، ويورد أرسطو بأن العلة الأولى إنما يحرك كما يحرك المعشوق. وأول ما يتحرك عنها ويقرب منها ويعشقها ويحرص على التشبه بها هو السماء الأولى وفلك الكواكب الثابتة، إذ كان قريبًا منها، قد استفاد نظامها الذي إياه يعشق على غاية ما يمكن: بمنزلة ما يستفيده القائد من مرتبة الملك[14].
– الأديان السابقة على الإسلام.
كان للأديان السابقة على الإسلام، وعلى الأخص اليهودية والمسيحية، رؤيتها الخاصة لهذه القضية.
في هذه الدراسة يقتصر البحث حول اليهودية والمسيحية.
– اليهودية.
تبدو نصوص التوراة مؤيدة لقدرة الإنسان على رؤية الله في الدنيا، ومن الواضح أن مثل هذا التصور قد ساد في اليهودية لفترة حتى عهد الفيلسوف اليهودي الإسكندري فيلون، والذي كان لمحاولته التوفيق بين نصوص التوراة والفلسفة تأثيرها على رجال الدين اليهود. ومن النصوص التي تشير إلى إمكانية رؤية الله في الدنيا:
“وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ”[15].
“بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي”[16].
“لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ. كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ”[17].
لكن في ذات الوقت هناك نصوص أخرى تنفي الرؤية مثل:
“لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ”[18].
والنص: “هُوَذَا عِنْدِي مَكَانٌ، فَتَقِفُ عَلَى الصَّخْرَةِ. وَيَكُونُ مَتَى اجْتَازَ مَجْدِي، أَنِّي أَضَعُكَ فِي نُقْرَةٍ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَأَسْتُرُكَ بِيَدِي حَتَّى أَجْتَازَ. ثُمَّ أَرْفَعُ يَدِي فَتَنْظُرُ وَرَائِي، وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى”[19].
كما أنه يوجد كذلك في التوراة نصوص تشير إلى حقيقة ما حدث لموسى (ع)، مثل النص: “اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَمًا إِلَى فَمٍ[20] وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لاَ تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلَّمَا عَلَى عَبْدِي مُوسَى؟”[21].
والواقع أنه مهما كان المقصود من النص سواء كان رؤية وجه الله، أم عدم القدرة على رؤيته، فإن هذه النصوص لا تنفي وجود حالة من الحضور الإلهي في مواجهة موسى (ع) بزمان ومكان محددين، وهو ما يمكن اعتباره نوعًا من التجسيد، لكن النص “وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ” الوارد في سفر العدد[22].
– المسيحية.
المعنى الحرفي للتجسد هو أن “يأخذ جسدًا”[23]. وعندما نقول: إن يسوع المسيح هو الله “المتجسد”؛ نعني أن ابن الله أخذ صورة جسدية[24]، ولا يوجد مسيحي يقول: إن رؤيته المسيح تعني رؤيته للذات الإلهية بجوهرها وتفرّدها، ولكن عندما حدث هذا في رحم مريم، أم المسيح الأرضية، لم يتوقف عن كونه إلهًا. ورغم أن يسوع صار إنسانًا كاملاً[25]، إلا أنه احتفظ بمكانته الإلهية[26]، فكيف استطاع يسوع أن يكون إنسانًا وإلهًا في نفس الوقت، هو أحد الأسرار العظيمة في المسيحية، وهو مع ذلك امتحان للإيمان[27]. الرب يسوع له طبيعتان متميزتان، إلهية وبشرية. “صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ”[28]. يبدو رفض الحالة التجسيدية وفكرة رؤية الإله في المسيحية أكثر وضوحًا، حيث ينفي المسيحيون إمكانية الرؤية بشكل كامل، يقول حلمي القمص يعقوب في كتابه (مدارس النقد والتشكيك والرد عليها): “لا أحد يستطيع أن يعاين الجوهر الإلهي، فالله في جوهر لاهوته لا يمكن لأي كائن أن يتطلع إليه، ولذلك قيل عن الشاروبيم والسرافيم القريبين من العرش الإلهي أنهم يغطون وجوههم بجناحين، وأرجلهم باثنين ويطيرون باثنين. وإن كان يستحيل على الإنسان أن يحملق في الشمس وقت الظهيرة بالعين المجردة، فكيف يستطيع أن يتطلع إلى خالق الشمسَ؟! وما رآه موسى وهارون وابناه ناداب وأبيهو والسبعون شيخًا ما هو إلا النذر اليسير جدًّا من المجد الإلهي… لكنهم لم يستطيعوا أن يرفعوا وجوههم نحو الله، لقد اختبر هؤلاء الوجود في الحضرة الإلهية، لكنهم لم يعاينوا اللاهوت. لقد رأوا الله بعين العقل وليس رؤية العين”[29].
المبحث الثاني: رؤية الله عند الفرق الإسلامية.
اختلف المتكلمون في تحديد معنى الرؤية، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنها: قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، لا يشترط فيها اتصال الأشعة، ولا مقابلة المرئي، ولا غير ذلك، فإنَّ الرؤية نوع من الإدراك يخلقه الله تعالى متى شاء ولأي شيء شاء”[30]. لقد أجمعوا على أن رؤية الله تعالى ممَّا يدخل في الممكنات، وأن العقل لا يحيل رؤية العباد لربه، وهي من المسائل التي لا يُعدّ الخلاف فيها مستوجبًا للكفر والردة، وإن كانت مخالفة أهل السنة والجماعة تستوجب الفسق والجنوح عن الحق[31].
والنافون للرؤية قالوا: إن الرؤية هي انطباع صورة المرئي في الحدقة، ومن شرط ذلك انحصار المرئي في جهة معينة من المكان حتى يمكن اتجاه الحدقة إليه، ومن المعلوم أن الله ليس جسمًا ولا تحده جهة من الجهات، وبذلك يكون مرادهم من الرؤية هو المعنى الحاصل بين المخلوقات الذي يلزم منه اشتراط وجود الجهة والمقابلة وغير ذلك من الأمور التي تستدعي التشبيه الذي ينزّه عنه الله عز وجل، والمراد بالرؤية، هي التي ندّعي جوازها: الحالة التي يجدها الإنسان[32].
ولذا، نعرض قضية رؤية الله عند المتكلمين والفلاسفة بشيء من التفصيل. ويهمنا في هذه الدراسة تناول آراء الفرق التي ما زال لها وجود حتى الآن.
– أهل السنة والجماعة.
يشمل مفهوم أهل السنة والجماعة في قضية رؤية الله السلفيين والأشاعرة والماتريديين[33]، وما تتبناه المدارس السنيّة في العالم، مثل الأزهر الشريف، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في المغرب.
في كتابه الفرق بين الفرق، يعدّد عبد القاهر البغدادي: أن العقائد التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة: “وأجمع أهل السنة على أن الله تعالى يكون مرئيًّا للمؤمنين في الآخرة. وقالوا بجواز رؤيته في كل حال ولكل حي من طريق العقل. ووجوب رؤيته للمؤمنين خاصة في الآخرة من طريق الخبر”[34].
وفي التعليق على العقيدة الطحاوية، ينقل ابن أبي العز الحنفي قول أحمد الطحاوي: “والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق بها كتاب ربنا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[35]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله (ص)، فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله (ص). ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه”[36].
النصوص السابقة تشير إلى اتفاق أهل السنة عمومًا على وجوب رؤية الله في الآخرة للمؤمنين، لكن ابن أبي العز في احتجاجه على المعتزلة ورافضي الرؤية يضيف، “أنه تعالى قال: ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي﴾[37]، ولم يقل: إني لا أُرى ولا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي، والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر، فظنه رجل أنه طعام، فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: أنه لا يؤكل، أما إذا كان طعامًا، صح أن يقال: إنك لن تأكله، وهذا يدل على أن الله سبحانه مرئي، ولكن موسى (ع) لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى”[38]. ويضيف: “وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها، ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة، أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل ﴿خَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[39]، بأنه لا يراك حي إلا مات[40]، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته، إلا من أيده الله كما أيّد نبينا، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ﴾[41]. قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكًا لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولًا منا”[42].
إذن، فالمشكلة هي في قدرة الإنسان على الرؤية، وهي القدرة التي سيتم إكمالها في الدار الآخرة، لكن هل الرؤية خاصة بالمؤمنين في الجنة؟ يرد ابن أبي العز: “وقوله: (والرؤية حق لأهل الجنة). تخصيص أهل الجنة بالذكر يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في (الصحيحين) عن رسول الله (ص). ويدل عليه قوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا﴾[43]، واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون. الثاني: يراه أهل الموقف؛ مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك. الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار.
– رؤية الله عند أهل التصوف.
يوجد فرق بين التصوف الطرقي، والتصوف الفلسفي.
التصوف الطرقي: يوجد شيوخ طرق صوفية، لهم مريدون عبر الأزمان، مثل أحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، وأبو الحسن الشاذلي في مصر، وعبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي في العراق، وأبي يزيد البسطامي، وغيرهم كثيرون في بلاد العالم الإسلامي، وهم من يقولون برؤية المؤمن لله في الآخرة أو في المنام، أو برؤية النبي (ص)، وتهدف الرؤية الصوفية بدءًا من التسمية إلى تحقق رؤية الله سبحانه، أما بطريق إحساس مباشر عن الحب الإلهي قلبًا ووجدانًا، أو بطريق غير مباشر عبر حب النـبي (ص)، واتخاذ معراجه نهجًا يعتمد لتحقيقها، ومن تأمل النصوص الصوفية، تبينت أن الرؤية الصوفية تتحدد من خلال: رؤية الصوفي للصوفي، ورؤية الصـوفي للنبي (ص) في منامه –لأن الشيطان لا يتمثل لصورته – لما يتمتع به (ص) من مكانة لديه كأسوة حسنة[44]، ولدى الله سبحانه وحبه، هو حب الله سبحانه، وهو ما يراه الإمام أحمد بن تيمية كفرًا[45].
فناء في الذات.
من أفكار بعض شيوخ التصوف، من يطلق عليهم خصومهم أنهم غلاة، يقول الصوفي الشهير أبو يزيد البسطامي: طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك، كما يقول: “بطشي أشد من بطش الله بي”، وذلك لما سمع قارئًا يقرأ ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾. وقال لبعض مريديه: “لأن تراني مرة خير لك من أن ترى ربك ألف مرة”. ويقول الشبلي: “ما في الجبة إلا الله”[46]، يقصد أنه فني في ذات الله، وقال الحسين بن المنصور الحلّاج شعرًا:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنًا[47]
أي أن رؤيتهم لله ممكنة بالفناء في الذات وذلك للقلة القليلة من المتصوفة، أما العوام المؤمنون فيرون الله في الآخرة، وليس في الدنيا، وهي آراء يراها العلماء والفقهاء شطحات لا يؤخذ بها على التصوف كفلسفة إسلامية.
التصوف الفلسفي: وهو فلسفة زهد وشوق ورضا ويقين، وللتصوف الفلسفي علماؤه الكبار، وأكثرهم أشعرية العقيدة، ويُصنفون بأنهم من أهل السنة والجماعة، ومن علمائهم أبو حامد الغزالي والجنيد والشعراني، وهؤلاء من أهل السنة والجماعة ومعهم عمر بن الفارض، ومحي الدين بن عربي، وأبو الحسن الشاذلي، وجميعهم أيضًا من أهل السنة والجماعة، وقد أجمعوا على أنه تعالى لا يرى في الدنيا بالأبصار ولا بالقلوب إلا من جهة الإيقان؛ أي الإيقان بوجوده تعالى؛ لأنه غاية الكرامة وأفضل النعم، ولا يجوز ذلك إلا في أفضل مكان، ولو أعطوا في الدنيا أفضل النعم لم يكن بين الدنيا الفانية والجنة الباقية فرق. ولما منع الله كليمه موسى، ذلك في الدنيا كان من دونه أحرى[48].
واتفق معظم علماء التصوف على أنه: “لم” نعلم أحدًا من مشايخ هذه الطريق، ولم نر في كتبهم، ولا في مصنفاتهم، ولا في رسائلهم، ولا في الحكايات الصحيحة عنهم، ولا سمعنا ممن أدركنا، منهم، زعم أن الله يرى في الدنيا، أو رآه أحد من الخلق، إلا طائفة غلاة لم يعرفوا بأعيانهم، بل زعم بعض الناس أن قومًا من الصوفية ادعوها لأنفسهم، وقد اتفق الشيوخ كلهم على تضليل من قال برؤية الله في الدنيا، وتكذيب من ادعاه، وصنفوا في ذلك كتبًا، منهم أبو سعيد الخراز، والجنيد، في تكذيب من ادعاه الرؤية، وقالوا: من ادعى ذلك لم يعرف الله تعالى وهذه كتبهم تشهد على ذلك.
– الشيعة.
سوف تقتصر الدراسة على رأي الشيعة الإمامية الاثني عشرية كونها الطائفة الأكبر بين الشيعة، بالإضافة إلى أن رأي طوائف الشيعة تتفق مع بعضها البعض حول رؤية الله.
يقول الشيخ المفيد في كتابه “أوائل المقالات”: “وأقول إنه لا يصح رؤية الباري سبحانه بالأبصار، وبذلك شهد العقل ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمد (ص)، وعليه جمهور أهل الإمامة وعامة متكلميهم إلا من شذّ منهم لشبهة عرضت له في تأويل الأخبار”[49].
ويؤكد الشيخ محمد رضا المظفر على رفض الشيعة لرؤية الله، قال: “ومن قال بالتشبيه في خلقه بأنه صورة له وجه ويد وعين، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، (أو نحو ذلك)، فإنه بمنزلة الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزّه عن النقص”[50].
ويقول الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد: “ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات، فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما يزول به الشكوك، ويعلم حقيقة قدرة الله عز وجل، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾[51]؛ فمعنى ما روي في الحديث أنه عز وجل يرى؛ أي يعلم علمًا يقينًا، كقوله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾[52]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾[53]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ﴾[54]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾[55]، وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين، وأما قول الله عز وجل: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾[56]؛ فمعناه لما ظهر عز وجل للجبل بآية من آيات الآخرة التي يكون بها الجبال سرابًا والتي ينسف بها الجبال نسفًا تدكدك الجبل فصار ترابًا؛ لأنه لم يطق حمل تلك الآية، وقد قيل: إنه بدا له من نور العرش”[57]. ويستدل الشيعة على نفي رؤية الله في الدنيا والآخرة بعدد من المرويات عن أهل بيت النبي (ص)، فمن خطبة الأشباح (جمع شبح) للإمام علي بن أبي طالب: “الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده، والرادع أناسي الأبصار عن أن تناله أو تدركه”[58]، وفي رد الإمام علي بن أبي طالب على سؤال أحد الرجال: “هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ قال: أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد منها غير مباين”[59].
– الإباضية.
يبدو من الواضح عند قراءة رؤية الإباضية العقائدية مدى تأثرهم بالمعتزلة، بالرغم من وجود بعض الخلافات بين الطرفين، ففي تعليقه على الآية القرآنية الكريمة: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[60]، يقول الشيخ محمد بن يوسف أطفيش: “وهذا الحصر المتبادر يفيد أنه ليس المعنى: تنظر أبصارهم إلى ذاته تعالى، لأن مدعي الرؤية لا يقول ينظر إلى ذاته فقط دائمًا، وإن قيل: التقديم ليس للحصر، بقي أن النظر إلى الذات، ولو أقل من لحظة موجب للتحيز تعالى الله عنه”[61].
ويضيف الشيخ أطفيش في كتابه تيسير التفسير: “وكل حذف أو تأويل ولو كان خلاف الأصل مقدّم على عدمه، إذا كان عدمه يؤدي إلى التشبيه أو نحوه. والتقدير والتأويل هما المناسبان لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾[62] المتفق عليه، ولكونه لا يتحيز ولا يتجه ولا يتجسم، كما هو المتفق عليه، ولكون المتنزه عن الحوادث لا تدركه الحوادث كما هو المتفق عليه، ولتنزهه عن الحلول كما هو المتفق عليه، ولتنزهه عن الزمان كما هو المتفق عليه، وذلك كله بالذات، وما بالذات لا يتخلف باختلاف الأزمنة، ولتنزهه عن اللون والطول والقصر والغلظة والرقة. ورؤيته تنقض هذه الأصول كلها وتثبت غيبته عن المواضيع الأخرى والتجزؤ، ولزمهم أن الله محسوس لخلقه”[63]. وفي تعليقه على القائلين برؤية الله، يقول العالم الإباضي زكريا بن خليفة المحرمي: “انسياقًا من أهل الحديث نحو عقيدة التشبيه والتجسيم والعلو الهرمسية، واعتقدوا أن الله تعالى يمكن رؤيته ومشاهدته، كما هو الحال مع المشاهدات والمرئيات المحيطة بهم، واعتمادًا منهم على قياس الغائب بالشاهد لفقوا الروايات وأوّلوا النصوص المتشابهة من الكتاب العزيز لترسيخ هذه العقيدة المصادمة للنصوص القطعية من الكتاب العزيز”[64].
ويقول العالم الإباضي الجزائري تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطي: “ومن زعم أن الله يرى في الدنيا، أو في الآخرة أو تمكن رؤيته، أو رآه أحد من خلقه، أو يرى في الآخرة مثل كذا أو كذا فمثله بشيء من خلقه، أو حد له مكانًا دون مكان، أو وصفه بنهاية أو أطراف فهو مشرك، والشاك فيه مثله، ومن نفى عنه الشرك فهو كافر، والشاك فيه مثله”[65].
المبحث الثالث: رؤية الله عند المتكلمين والفلاسفة المسلمين.
- رؤية الله عند المتكلمين.
يمثل المتكلمون عددًا من الفرق الإسلامية، التي اعتمدت على هذا العلم، إلا أن الأكثر شهرة هو ارتباط علم الكلام بالمعتزلة، وبالتالي فإن هذا الفصل سوف يهتم باستعراض رأيهم بهذه القضية على وجه الخصوص، خاصة أن كثيرين من مفكرين وكتّاب يهجون (يشتمون ويسبون) حتى اليوم نهج المعتزلة، ولكن تحت أسماء عصرية.
– المعتزلة.
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي: “قد بينّا أنه إنما لم نره في هذه الأوقات لا لمانع وعارض، بل لأنه في ذاته لا يرى، كما أنا لم نر الطعم عند رؤيتنا للسواد، لا لمانع لكن لأنه في ذاته لا يرى، وإذا صح بهذه الدلالة، وسائر الأدلة التي استقصيناها، أنه يستحيل أن يرى في ذاته، فيجب أن يدل ذلك على أنه لا يصح أن يرى بالأبصار، ولا يدرك بها، لأنه لا يصح أن يرى بالبصر ما يستحيل أن يرى في نفسه، كما لا يصح أن نعلم بالقلب ما يستحيل أن يكون معلومًا في نفسه”[66].
لقد انطلق المعتزلة في رفضهم لإمكانية رؤية الله من نوع المرئيات عندهم، حيث اعتقدوا أنه لا مرئي إلا اللون وهو عندهم جسم كما أشار النظّام، ولما كان الله ليس جسمًا، فإنه لا يمكن رؤيته. أما أبو علي الجبائي فإن المرئيات عنده ثلاثة: الجواهر، والألوان، والأكوان، والله ليس أحد هذه المرئيات، وبالتالي لا يمكن أن يرى[67]، وهو ما يؤكده القاضي عبد الجبار بأنه لا أحد يدعي القدرة على رؤية الله سبحانه إلا من يعتقده جسمًا مصورًا بصورة مخصوصة، أو يعتقد فيه أنه يحل في الأجسام[68]، وبالتالي فإن الرؤية عند المعتزلة مرتبطة بشروط الرؤية الحسية، فالله يستحيل أن يرى في ذاته، ولا يصح أن يرى بالأبصار، لأن البصر لا يصح أن يرى به إلا ما كان مقابلًا له أو في حكم المقابل له[69].
ويفسر علماء المعتزلة الآيات المتعلقة بمسألة رؤية الله بأسلوب مختلف عن التفسيرات السنية، يقول أبو علي الجبائي في تفسير الآية: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾[70]، يرى أن موسى (ع) استعمل كلمة الرؤية بمعنى العلم. فكأنه قال: اجعلني عالمًا بك علمًا ضروريًّا. ولا يجوز بالنسبة للجبائي أن يسأل موسى الرؤية بمعناها الحقيقي، لأنه سيعد جهلًا منه لا يصح. فهو يدرك امتناع رؤية الذات الإلهية، ولا يمكن أن يسأل ما يدرك إمتناعه[71]. أما الآية: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾[72]، فيرى أبو علي الجبائي أن معنى (نَاظِرَةٌ) في الآية هو منتظرة الثواب من ربها، وليست ناظرة بأبصارها، وهو ذات التفسير الذي تبناه القاضي عبد الجبار في الأصول الخمسة[73].
- 2. رؤية الله عند الفلاسفة المسلمين.
بالرغم من التأثر الواضح للفلاسفة المسلمين بالفلسفة اليونانية، فإنهم في هذه القضية قد تأثروا كثيرًا بالشيعة والمعتزلة في سعيهم لتنزيه الله من أي تشبيه أو تجسيم[74].
يقول الفيلسوف يعقوب بن إسحق الكندي (185 – 253 ه): “فقد تبين أن الواحد الحق ليس هو شيء من المعقولات، ولا هو عنصر، ولا جنس، ولا نوع، ولا شخص، ولا فصل، ولا خاصة، ولا عرض ولا علم، ولا حركة، ولا نفس، ولا عقل، ولا كل، ولا جزء، ولا جميع، ولا بعض، ولا واحد بالإضافة إلى غيره، بل واحد مرسل، ولا يقبل التكثير، ولا هو المركب ولا الكثير، ولا واحد مما ذكرنا أنه موجود فيه أنواع جميع أنواع الواحد التي ذكرنا، ولا يلحقه ما يلحق أساميها… الواحد الحق هو الواحد بالذات الذي لا يتأثر بتة بجهة من الجهات، ولا ينقسم بنوع من الأنواع لا من جهة ذاته، ولا من جهة غيره، ولا هو زمان ولا مكان ولا حامل ولا محمول، ولا كل ولا جزء ولا جوهر ولا عرض ولا ينقسم بنوع من أنواع القسمة بتة”[75]. وينفي الكندي أن يكون لله صورة مؤتلفة من جنس وأنواع، ولا هو كمية ولا له كمية، كما أنه ليس متزمّنًا، ولا متمكّنًا، ولا متحرّكًا لأن هذه من خصائص الأجسام المادية المتعينة المتشخصة[76].
أما الفيلسوف أبو نصر محمد بن طرخان الفارابي (260 – 339 ه)، فبالرغم من أن رؤيته الفلسفية حملت بعض الاختلافات نظرًا لتأثره القوي بفلسفة أرسطو، إلا أن موقفه في هذه القضية كفيلسوف مسلم لا يختلف عن موقف الكندي.
في طرحه لتصوره حول الصفات الإلهية، يقول الفارابي عن واجب الوجود (الله): “لا ماهية له مثل الجسم – إذا قلت أنه موجود فحد الموجود شيء، وحد الجسم شيء – سوى أنه واجب الوجود، وهذا وجوده. ويلزم من هذا أنه لا جنس له، ولا فصل له، ولا حد، ولا برهان عليه، بل هو برهان على جميع الأشياء. ووجوده بذاته أبدي أزلي، لا يمازجه العدم، وليس وجوده بالقوة. ويلزم من هذا أنه لا يمكن أن لا يكون، ولا حاجة به إلى شيء يمد بقاءه. ولا يتغير من حال إلى حال”، ويضيف الفارابي في استعراضه لرؤيته حول الصفات: “وهو واحد بمعنى أن الحقيقة التي له ليست لشيء غيره. وواحد بمعنى أنه لا يقبل التجزؤ، كما تكون الأشياء التي لها عظم وكمية. وإذن ليس يقال عليه: كم، ولا متى، ولا أين. وليس بجسم. وهو واحد بمعنى أن ذاته ليست من أشياء غيره كان منها وجوده، ولا حصلت ذاته من معان، مثل المادة والجنس والفصل. ولا ضد له”، أن الله لا يمكن أن يُعرَّف، فالتعريف يحتاج لأن يكون دالًّا على الجنس القريب والفصل النوعي، وبما أنه تعالى ليس جنس أو فصل نوعي، فإنه لا يمكن أن يعرف، وبالتالي فإن رؤيته تعالى سواء في الآخرة أو الدنيا مستحيلة بالنسبة للفارابي.
أما أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (370 – 427 ه)، فيرى أن واجب الوجود (الله) هو: “واجب الوجود من جميع جهاته. ولأنه لا ينقسم بوجه من الوجوه، فلا جزء له ولا جنس له. وإذ لا جنس له، فلا فصل له. ولأن ماهيته آنيته – أعني الوجود، فلا ماهية يعرض لها الوجود. فلا جنس له إذ لا مقول عليه وعلى غيره في جواب ما هو شيء. وإذ لا جنس له ولا فصل، فلا حد له. وإذ لا موضوع له، فلا ضد له. وإذ لا نوع له، فلا ند له. وإذ هو واجب الوجود من جميع جهاته، فلا تغير له. وهو عالم، لا لأنه مجتمع الماهيات بل لأنه مبدؤها، وعنه يفيض وجودها[77].
كما ذكر ابن سينا أن الفارابي أشار إلى أنه إذا كان الله تعالى لا جنس ولا فصل، فهو لا يمكن أن يُعرَّف، ويضيف ابن سينا: “وهو معقول وجود الذات، فإنه مبدأ. وليس أنه معقول وجود الذات غير أن ذاته مجردة عن المواد ولواحقها التي لأجلها يكون الموجود حسيًّا، لا عقليًّا وإن كان واجب الوجود مجرد عن المادة ولواحقها، أي ليس حسيًّا، فهو لا يمكن رؤيته مع ارتباط الرؤية بالأجسام، ويرى ابن رشد عدم إمكانية رؤية الله، وإن كان يرى دلائل وجود الله اليقينية، ودليل الاختراع الذي يقومُ على أنَّ كل شيء من السماوات والحيوان والنَّبات مُخترع، وذلك بدليل المُشاهدة في هذين، وبدليل حركات السماوات التي تؤذن بأنَّها مُسَخَّرة لنا، وكل ما كان كذلك فهو مُخترَع حتمًا، وكل مُخترَع له مخترِع ضرورة، فيصح من هذين الأصلين أن للعالم مخترِعًا له[78].
وقد ساق ابن رشد بعد هذا وذاك، في إحكامٍ، آيات كثيرة من القرآن يُؤيد بها هذين الدليلين وما اشتملا عليه من مُقَدِّمات، ثم قال: “فقد بان من هذه الأَدِلَّة أنَّ الدِّلالة على وجود الصانع مُنْحَصِرة في هذين الجنسين، دلالة العناية ودلالة الاختراع، وتبين أنَّ هاتين الطريقتين هما بأعينهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني أنَّ الجمهور يقتصر من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرَك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحِسِّ، وأمَّا العلماء فيزيدون على ما يُدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان”[79].
الخاتمة
في النهاية تظل قضية رؤية الله تخص المسلمين كما تخص غيرهم، هذا وقد وصلت البشرية للتوحيد السماوي، بعد أن ظلت قرونًا تتردّى في مهاوي تعدد الآلهة… ولله في خلقه شؤون.
[1]عباس محمود العقاد الله.. كتاب في نشأة العقيدة الإلهية، القاهرة، دار المعارف، الطبعة 9، 1998، الصفحة7.
[2]جمال الدين محمد بن منظور الأنصاري المصري، لسان العرب، المملكة العربية السعودية – الرياض، إصدار وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، 2010، مجلد 19، الصفحة 218.
[3]سورة البقرة، الآية 50، وابن منظور، لسان العرب، مصدر سابق، 19/123.
[4]أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، القاهرة، دار الفكر، 1979، 2/ 472.
[5]سورة الحديد، الآية 13، ولسان العرب، مصدر سابق، 19/139.
[6]سورة القيامة، الآيتان 22- 23.
[7]سورة المطففين، الآية 24.
[8]جعفر السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، تحرير: الشيخ حسن محمد مكي العاملي، قم- إيران، طبعة مؤسسة الإمام الصادق، الطبعة 7، 1430 هـ، الصفحة 27.
[9]سعود بن عبد العزيز خلف، قول الفلاسفة اليونان الوثنيين في توحيد الربوبية، المدينة المنورة، مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 2003 م، السنة 35، عدد 120، الصفحة 206.
[10]علي حافظ بهنسي، سقراط، القاهرة، دار المعارف المصرية، 1998 م، الصفحة 187.
[11]سعود بن عبد العزيز خلف، قول الفلاسفة اليونان الوثنيين في توحيد الربوبية، مصدر سابق، الصفحة 210.
[12]عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، بيروت، طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة1، 1984م، الجزء1، الصفحة579.
[13]المصدر نفسه، الصفحة 208.
[14]المصدر نفسه، الصفحة 104.
[15]سفر الخروج، 33: 11.
[16]سفر أيوب، 42: 5.
[17]سفر المزامير، 63: 29.
[18]سفر خروج، 33: 20.
[19]سفر خروج، 33: 22، 23.
[20]معنى: فمًا لفم وعيانًا أتكلم؛ تعني الحديث المباشر من الفم إلى الفك والرؤية بالعيان.
[21]سفر العدد، 12: 6-8.
[22]إسرائيل ولفنسون، موسى بن ميمون.. حياته ومصنفاته، القاهرة، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، الطبعة1، 2018م، الصفحتان 27 و 61. ومكتبة نور الإلكترونية أيضًا.
[23]علي أبو الخير، النقل المفروض والعقل المرفوض، بيروت، دار المحجة البيضاء، 2022 م، الصفحة 11.
[24]إنجيل يوحنا، 1: 14.
[25]سفر عبرانيين، 2: 17.
[26]إنجيل يوحنا، 1: 1، 14، الشاريبيم والسراقيمة من الكلمات العبرية تعني المملوء بالمعرفة، والكلمتان من أسماء لملائكة أيضًا.
[27]إنجيل يوحنا الأولى، 4: 2-2؛ يوحنا 1: 7.
[28]إنجيل يوحنا، 14: 11.
[29]حلمي القمص يعقوب، مدارس النقد والتشكيك والرد عليها، الإسكندرية – مصر، مطبعة دير الشهيد العظيم مارمينا العجائبي بمريوط، 2017 م، الجزء6، الصفحة 279.
[30]الإمام عبد السلام اللقاني، إتحاف المريد شرح جوهرة التوحيد، بيروت، دار الكتب العلمية، 2022 م، الصفحة 267.
[31]الدكتور شوقي إبراهيم علام، مذاهب العلماء في إمكان رؤية الله تعالى، موقع دار الإفتاء المصرية، https://www.dar-alifta.org/ar، رقم الفتوى: 7342، تاريخ الفتوى 11 مارس 2014 م.
[32]الشيخ محمد الحسيني الظواهري، التحقيق التام في علم الكلام، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1999، الصفحة97.
[33]للمزيد، يستحسن قراءة مراجعة كل من الكتابين:1 – أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تصحيح هلموت ريتر، المكتبة الشاملة نقلًا عن دار فرانز شتايز، بمدينة فيسبادن (ألماني)، الطبعة 3، 1980. 2 – أبو منصور الماتريدي، كتاب التوحيد وإثبات الصفات، تحقيق: د.فتح الله خليف، المكتبة الشاملة، نقلًا عن دار الجامعات المصرية، الإسكندرية، نسخة كمبيوترية. حيث إن الكتابين فيهما معنى التأويل، بخلاف ما يراه السلفيون. ويلاحظ أيضًا كتاب محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، طبعة دار المعارف، 1997، ببعض تصرف. وقد اعتمدنا على عدة مراجع، فيما يخص التاريخ وكتب العقائد، خاصة قضية رؤية الله.
[34]عبد القاهر بن طاهر البغدادي، الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية منهم، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، بيروت، طبعة دار الآفاق الجديدة ودار الجيل، 1987م، الصفحة 324.
[35]سورة القيامة، الآيتان 22، 23.
[36]صدر الدين علي بن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية، تحقيق: أبو عبد الله مصطفى بن العدوي، فارسكور- مصر، طبعة دار ابن رجب، الطبعة1، 2002 م، الصفحة 151.
[37]سورة الأعراف، الآية 143.
[38]صدر الدين علي بن أبي العز الحنفي، شرح العقيدة الطحاوية، مصدر سابق، الصفحة 155.
[39]سورة الأعراف، الآية 143.
[40]من الملاحظ التشابه بين ما يقوله ابن أبي العز مع ما ورد في التوراة: “لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ”. (سفر الخروج، 33: 20)، ولكن هذا لا يعني التأثر المباشر أو غير المباشر مع العهدين القديم والجديد.
[41]سورة الأنعام، الآية 8.
[42]شرح العقيدة الطحاوية، مصدر سابق… وأيضًا أبو الوفا التفتازاني، مدخل إلى التصوف الإسلامي، مكتبة نور الإلكترونية، 2007 م، الصفحة 21 وما بعدها، بتصرف.
[43]سورة الأحزاب، الآية 44.
[44]الشيخ محمد عبد الكريم الكسنزان، موسوعة الكسنزان فيما اصطلح عليه أهل التصوف والعرفان، دار المحبة، 2005، الجزء 9، بتصرف من صفحات المجلد 9، لأن الأفكار منتشرة داخل الموسوعة.
[45]أحمد بن تيمية، الفتاوى الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987م.. وقد تكررت تلك الفتوى داخل كتاب الفتاوى الكبرى سواء ضد المتصوفة والشيعة.. وكتاب الفتاوى الكبرى لابن تيمية من أهم مراجع التيارات السلفية في العالم.
[46]د. عبد الرحمن بدوي، شطحات الصوفية، مكتبة النهضة المصرية، 2002، بتصرف من أقوال أبي يزيد البسطامي، من صفحات الكتاب، والآية 12 من سورة البروج.
[47]الحسين بن منصور الحلاج، ديوان الشعر، دمشق، دار سمرقند للنشر، 2010 م، الصفحة 28.
[48]الشيخ محمد عبد الكريم الكسنزان، موسوعة الكسنزان، مصدر سابق، 9/178.
[49]محمد بن النعمان المفيد، أوائل المقالات، تحقيق: الشيخ إبراهيم الأنصاري الزنجاني، بيروت، طبعة دار المفيد، الطبعة 2، 1993 م، الصفحة57.
[50]محمد رضا المظفر، عقائد الإمامية، القاهرة، مركز يافا للدراسات،2001، الصفحة37.
[51]سورة ق، الآية 22.
[52]سورة الفرقان، الآية 45.
[53]سورة البقرة، الآية 258.
[54]سورة البقرة، الآية 243.
[55]سورة الفيل، الآية 1.
[56]سورة الأعراف، الآية 143.
[57]محمد بن علي بن الحسين الصدوق، التوحيد، تحقيق: السيد هاشم الحسيني الطهراني، قم- إيران، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة 10، 1430 هـ، الصفحتان 116، 117.
[58]جعفر السبحاني، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، مصدر سابق، الجزء2، الصفحة 139.
[59]المصدر نفسه، الجزء2، الصفحة 140.
[60]سورة القيامة، الآيتان 22، 23.
[61]محمد بن يوسف أطفيش، تيسير التفسير، تحقيق: الشيخ إبراهيم بن محمد طلاي، مسقط، طبعة وزارة التراث والثقافة، الطبعة 1، 2004م، الجزء15، الصفحة 427.
[62]سورة الشورى، الآية 11.
[63]محمد بن يوسف أطفيش، تيسير التفسير، مصدر سابق، الجزء15، الصفحة 428.
[64]زكريا بن خليفة المحرمي، البلسم الشافي في تنزيه الباري، مسقط، طبعة مكتبة الضامري للنشر والتوزيع، الطبعة1، 2004 م، الصفحة 125.
[65]تبغورين بن داوود بن عيسى الملشوطي، أصول الدين أو الأصول العشرة عند الإباضية، تحقيق: د. ونيس الطاهر عامر، مسقط- عمان، طبعة مكتبة الجيل الواعد، الطبعة1، 2005، الصفحة 195.
[66]القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، المعني في أبواب التوحيد والعدل، تحقيق: الدكتور محمد مصطفى حلمي وآخرون، طبعة الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1989م، الجزء4، الصفحة 140.
[67]علي فهمي خشيم، الجبائيان أبو علي وأبو هاشم، طرابلس- لبنان، مكتبة الفكر، 1986، الصفحتان 120، 121.
[68]القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، مصدر سابق، الجزء4، الصفحة 99.
[69]علي عبد الفتاح المغربي، الفرق الكلامية الإسلامية.. مدخل ودراسة، القاهرة، طبعة مكتبة وهبة، الطبعة 2، 1995، الصفحة 224.
[70]سورة الأعراف، الآية 143.
[71]علي فهمي خشيم، الجبائيان أبو علي وأبو هاشم، مصدر سابق، الصفحة 121.
[72]سورة القيامة، الآيتان 22، 23.
[73]القاضي عبد الجبار الأسد آبادي، الأصول الخمسة، تحقيق: فيصل بدير عون، الكويت، مطبوعات جامعة الكويت، الطبعة 1، 1998 م، الصفحة 74.
[74]فيصل بدير عون، الفلسفة الإسلامية في المشرق، القاهرة، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، الطبعة1، 2016 م، الجزء1، الصفحات 135، 139.
[75]المصدر نفسه، الصفحتان 134، 135.
[76]فيصل بدير عون، الفلسفة الإسلامية، مصدر سابق، الصفحة 137.
[77]عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، مصدر سابق، 1/49.
[78]فرح أنطون، فلسفة ابن رشد، نشر مكتبة نور،2017، الصفحتان 43 و44. ويراجع أيضًا كتاب ابن رشد فصل المقال وتقرير في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال، وهو منشور في مكتبة نور الإلكترونية، ونحن اعتمدنا نسخة دار المعارف، القاهرة، 2004، الصفحة 178.
[79]ابن رشد، فلسفة ابن رشد، مصدر سابق، الصفحة 46.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
قد يعجبك أيضاً
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
اكتشاف المزيد من معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.
