الحوار السياسي العقلي والدور الرسالي للإمام الرضا(ع)
مقدمة
عندما نتحدث عن السياسة في فكر الإمام الرضا(ع)، لا بدّ أن نفهم جيدًا أن السياسة في فكره جزء لا يتجزأ من فكر الأئمة من آبائه السابقين عليه، بداية من دعوة النبي (ص)، وما جاء به عندما خاض غمار تأسيس دولة رسالية تقوم على أسس التوحيد الخالص ثم العدل الإلهي، وكذلك في فكر الإمام علي بن أبي طالب (ع)، حيث كانت السياسة تقوم على نفس الأسس التي جاء بها الرسول الأكرم محمد (ص)، فلم يؤثر عن الإمام علي(ع) أنه خاض أي غمار حرب من أجل الوصول إلى سدة الحكم، وهو الذي قال لابن عباس وكان يخصف نعله: “يا ابن عباس ما قيمة هذا النعل؟ قال ابن عباس: لا قيمة له يا أمير المؤمنين، قال أمير المؤمنين: والله لهي أحب إليّ من إمرتكم إلا أن أقيم حقًّا وأدفع باطلًا”، أي أن حذاءه الذي كان من ليف أثمن عنده من الإمرة التي لا يقام فيها الحق ولا يدفع فيها الباطل، أي أن الخلافة وسيلة لإقامة الحق والعدل، ولا يكون التكالب عليها من أجل الدنيا، كما أن سيرتي الإمامين الحسن والحسين (ع) كانت نبراسًا للسياسة الحاكمة للإمام الرضا، فضلًا عن آبائه الكرام التاليين على الإمام الحسين، من زين العابدين حتى الكاظم (ع)، سياسة ناضجة لا تفرط في الوسيلة من أجل النصر أبدًا[1].
هي سياسة القرآن الكريم والإنسانية العالمية، والإمام الرضا (ع) سار على نفس النهج الرسالي الرباني، لا تقوم على سفك الدماء ولا طلب المال أو الحكم للغلبة فقط، أو للوجاهة السياسية وحدها، طلب الحكم عنده هو وسيلة وغاية معًا، وسيلة شريفة لهدف نبيل، وقد رأى المسلمون أن الأمويين ثم العباسيين لم يتورعوا عن القتل وإراقة الدماء، فراح آلاف الآلاف من النفوس البريئة من أجل الخلافة الباطشة والأثرة الظالمة.
وفي هذه الدراسة السياسية/الرسالية نكتب عن الظروف التاريخية عندما أقيمت الدولة العباسية، وكيف تعامل الإمام الرضا من منطلق منهج أهل البيت (ع) وحواراتهم الممتدة اتجاه السياسة المفروضة على المسلمين، وذلك من خلال أربعة محاور:
المحور الأول
الثورات ضد الخلافة العباسية
من أهمّ المخاطر التي واجهت الدولةَ العبّاسية وهددت وجودها بشكل أو بآخر: الثورات التي كانت تشتعل هنا وهناك من أرجاء تلك الدولة، وقد تفاقم هذا الوضع في أوائل حكم المأمون العبّاسي حتّى عَدّ المؤرّخون ما يقرب من ثلاثين ثورة للعلويّين وقعت بين أيّام السفّاح وأوائل أيّام المأمون (سنة 200 هـ)؛ أي في فترة لا تتعدى سبعين عامًا، وهذا الرقم لا يشمل الثورات والانتفاضات التي قام بها غير العلويّين، وإنْ كانت تلك الثورات ربّما تصبّ في نفع العلويّين.
لقد أشبه الجوّ السياسيّ للدولة العبّاسية في عصر المأمون إلى درجة كبيرة الجوَّ السياسي الغالب في عصر الأمويّين، وكان الفارق الوحيد بينهما هو أنّ عددًا كبيرًا من الناس كانوا مخدوعين بالإعلام العبّاسي، وكانوا يعتبرون هذه الثورات أمرًا يقوم به الساعون إلى السلطة والمطالبون بها.
العوامل التي مهّدت للثورات[2]
إن استقراءً سريعًا للوضع العام للدولة الأموية بعد توطيد معاوية حكومته وإرسائه دعائم مملكته الظالمة التي دامت ثمانية وأربعين عامًا (سواءً داخل الشام أو في أرجاء البلدان الإسلاميّة) يظهر بجلاء أنّ عامّة الناس، والطالبيين والعلويين على الخصوص، وحتّى العبّاسيين كانوا ساخطين على تلك الحكومة، وأنّ نار الحقد على الأمويين ما فتئت تشتعل في صدورهم، حتّى إذا استعر أوارها في لحظة مناسبة، اشترك جميع هؤلاء الناقمين في إسقاط تلك الدولة.
الدعوة العباسية
يمكن القول إنّ العلويّين هم الذين بدأوا بالدعوة أوّلًا، فقد نظّم أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن الحنفيّة الدعاةَ ورتّبهم، ثمّ انضوى تحت لوائه محمّد بن علي بن عبد الله بن العبّاس، ومعاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب، وغيرهم. ثمّ إنّ محمّد بن علي بن عبد الله بن العبّاس تعرّف على الدعاة، واستطاع بعد موت أبي هاشم أن يُسيطر عليهم ويستقلّ بهم، واختار محمّد بن عليّ العبّاسي خراسانَ ليُرسل إليها دعاته، وأمرهم أن يتحاشوا العلويّين، لكنّه ظلّ يتظاهر ومن معه من العبّاسيين الذين استنّوا بسنّته، أنّه يدعو للعلويّين، ورَفَع شعارات مُبهمة انطلت على غالبيّة الناس، فتبعوه أملًا في إسقاط الأمويّين وإعادة القيادة إلى أصحابها الشرعيّين: أهل البيت (ع) ومن تلك الشعارات شعار الرضا من آل محمّد.
وقام خطيبَ العبّاسيين الأوّل يقول على منبر مسجد الكوفة: “… وإنّما أخَرَجَنا الأنفةُ من ابتزازهِم حقَّنا، والغضبُ لبني عمّنا”[3]، ولقبّوا أبا مسلم الخراساني “أمير آل محمّد”، ثم ادّعوا الخلافة بالإرث عن طريق الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) ومحمّد بن الحنفيّة، ويحتجّون بقرباهم النسبيّة من رسول الله (ص)، وانتمائهم إلى العبّاس عمّ النبيّ (ص).
ثورات الطالبيّين
تصدّى الطالبيّون ـ وعلى الأخصّ من انحدر من نسل الإمام الحسن المجتبى (ع) ـ لحكّام بني العبّاس، ونهضوا لمقارعة ظلمهم، وكان لهم اليد الطولى في إثارة أطراف البلاد الإسلاميّة ضد حكومة بني العبّاس. وكان من جملتهم: محمّد بن عبد الله بن الحسن المثنّى المعروف بـ “النفس الزكيّة” الذي بايعه المنصور العبّاسي مرّتين: إحداهما بالأبواء على طريق مكّة، والأخرى بالمدينة، ثمّ بايعه مرّة ثالثة في المسجد الحرام بمكّة، ثمّ حرص أشدّ الحرص على الظفر به وقتله، وكان محمّد النفس الزكيّة قد ثار في المدينة. أمّا أخوه إبراهيم شهيد باخَمْرى، فقد ثار في البصرة.
ومن الطالبيين الذي ثاروا في وجه العبّاسيين: الحسين بن علي المشهور بـ “صاحب فَخّ” الذي ثار في الحجاز في عصر الهادي العبّاسي، ومنهم: يحيى بن عبد الله المحض المعروف بـ “صاحب الدَّيلم” الذي ثار في طبرستان زمن هارون الرشيد. ومع أنّ هذه الثورات قد قُمعت بوحشيّة، وقُتل القائمون بها شرّ قتلة، إلاّ أنّ ذلك كلّه كان يؤجّج في قلوب الطالبيين السخط على النظام العبّاسي الحاكم.
ثورات العلويّين
أمّا العلويّون فقد انقسموا ـ في التعامل مع نظام الحكم العبّاسي ـ إلى طائفتين:
أولاهما الأئمّة الأطهار والمقرّبون إليهم، وقد ارتأوا ـ لظروف المرحلة التي عاصروها ـ أن ينصرفوا إلى تعريف الناس على حقائق الدين ونشر شعائره وعلومه، ولم يسلكوا مسلك الثورة المسلّحة في وجه العبّاسيين، وحذّروا أتباعهم وأقرباءهم من التصدّي لعمل عسكري لم تنضج ظروفه.
يحدّثنا التاريخ أنّ الإمام الصادق (ع) حذّر عبد الله بن الحسن المحض من التصدّي للخلافة والدعوة إليها، فلم يقبل عبد الله كلامه.
كما أنّ الإمام الصادق (ع) رفض الاستجابة لكتاب أبي مسلم الخراساني لمّا كتب إليه يُبايعه، وقال لحامل الكتاب: ليس لكتابِك جواب، اخرج عنّا، كما أنّ الإمام الصادق رفض طلب أبي سَلَمة الخلّال بالقدوم عليه ليُبايعه، ثمّ أحرق الكتاب وطرد الرسول الذي جاء به.
أمّا الطائفة الثانية من العلويين، فقد أشبهوا الطالبيين من نسل الإمام الحسن المجتبى (ع) في الثورة والعمل العسكري على السلطة القائمة.
وقد تصاعدت ثورات العلويين في عصر المأمون العبّاسي، وتزايد سخطهم على نظام الحكم، فكانوا يترصّدون الفرص للثورة والتمرّد على نظام الحكم، فثار منهم محمّد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم المعروف بـ “ابن طباطبا” في الكوفة، ودعا الناس للالتحاق بالعلويّين، وأوكل قيادة جيشه إلى السري بن منصور المعروف بـ “أبي السرايا” فحقّق بعض الانتصارات، ثمّ توفّي ابن طباطبا فجأة، فخلفه في الثورة محمّد بن محمّد بن زيد بن علي بن الحسين، وأعانه أبو السرايا في ثورته. واستطاع أبو السرايا أن يستقطب إليه أهل العراق، وضَربَ النقود باسمه، ثمّ إنّه أرسل العبّاس بن محمّد بن عيسى بن جعفر إلى البصرة، وأرسل الحسين بن الحسن الأفطس إلى مكّة، كما أرسل إبراهيم بن موسى بن جعفر ـ وهو أخو الإمام الرضا (ع) ـ إلى اليمن، وأرسل أخاه الآخر: زيد بن موسى بن جعفر إلى الأهواز، ومحمد بن سليمان بن داود إلى المدائن، وإسماعيل بن موسى بن جعفر ـ الأخ الآخر للإمام الرضا (ع) ـ إلى فارس.
وقد بذل المأمون جهودًا كبيرة لقمع هذه الثورة، فتمكّن بعد مشقة من قتل أبي السرايا.
وقد أدّت هذه الثورات العنيفة إلى إحداث قناعة كبيرة لدى المأمون في أنّ الحلّ الأمثل لتهدئة ثورات العلويين والسيطرة على تحرّكاتهم هو أن يستقدم الإمام الرضا (ع) من المدينة إلى مرو، فيعهد إليه بولاية العهد في حكومته.
ونلاحظ أنّ هذه الثورات قد أخفقت في النهاية على الرغم من التأييد الذي اكتسبته من قبل فئات واسعة من الناس، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى عدم وجود الخبرة الكافية لدى قادة هذه الثورات، وانعدام التنسيق بينهم، علاوة على الاختلافات القبليّة والعِرقيّة الموجودة حينذاك.
تلك كانت الظروف التي تهيأت أمام الإمام الرضا (ع)، لكي يمارس السياسة بعقلانية المنهج والسلوك، ثورات وراء ثورات، والعباسيون يريدون الحكم فيهم دون أبناء علي، والعلويون لا ينفكون عن الثورة، وبهذا نتحدث في المحور الثاني عن تلك الظروف.
المحور الثاني
الظروف السياسية في عصر المأمون
إن من يُلقي نظرة إلى التاريخ يتضح له أن الظروف التي أحاطت بالمأمون تختلف عن الظروف التي أحاطت بغيره من الخلفاء، فإن المأمون العباسي رغم ذكائه وفطنته، بل رغم كونه أفضل رجل عباسي من حيث العلم والمعرفة والذكاء والكياسة، إلا أن ميول العباسيين إلى أخيه الأمين كانت أكثر من ميولهم إليه بكثير.
وذلك لأن الأمين عباسي الأب والأم، فأمه زبيدة حفيدة المنصور وسيدة البلاط العباسي، وأبوه هارون الرشيد، وكان في حجر الفضل بن يحيى البرمكي وهو أخو الرشيد من الرضاعة، وكان المشرف على مصالحه الفضل بن الربيع – العربي – أما المأمون فإن أمه فارسية، وكان مؤدبه الفضل بن سهل، ولذا وجدنا أن هارون الرشيد يعطي ولاية العهد من بعده لولده الأمين، رغم أن المأمون كان يفوقه فضلًا وسنًّا – وذلك تماشيًا مع الجو العام كما صرّح بنفسه في ذلك، فقد قال: (لولا أم جعفر – يعني زوجته زبيدة – وميل بني هاشم إليه – أي إلى الأمين – لقدمتُ عبد الله عليه…)[4].
بعد أن بايع الرشيد لولده الأمين بولاية العهد أراد أن يضمن للمأمون نصيبه من الخلافة فجعله ولي العهد بعد أخيه، وكتب العهود والمواثيق وأشهد عليها وعلقها في جوف الكعبة[5]، كما ولاه الحرب وولى أخاه السلم، ووهب للمأمون كل ما في العسكر من كراع[6] وسلاح، وكان الرشيد متخوّفًا ممّا تؤول إليه الأمور، ولذا نراه يجيب زبيدة زوجته عندما عاتبته على إعطائه السلاح والكراع للمأمون قائلًا: (إنا نتخوف ابنك على عبد الله، ولا نتخوف عبد الله على ابنك إن بويع..)[7]. وكيف لا يتخوف ولا يتخوف الجميع وهم يرون الأمين يصرح بعد أن أعطى العهود والمواثيق وحلف الأيمان، بأنه كان يضمر الخيانة لأخيه المأمون[8] .
لذا نرى الرشيد يقول:
محمد لا تظلم أخاك فإنه | عليك يعود البغي إن كنت باغيا |
ولا تعجلن الدهر فيه فإنه | إذا مال بالأقوام لم يبق باقيا
|
وبعدما توفي الرشيد وتسلم الخلافة ولده الأمين، بدأ يتحيّن الفرص لعزل المأمون – الذي ولاه الرشيد المناطق من همدان إلى آخر المشرق بما في ذلك خراسان وجهاتها – وبالفعل فقد خلعه وبايع لابنه موسى ولقبه بالناطق بالحق، وهو إذاك طفل رضيع، ثم ندب إلى حربه علي بن عيسى بن ماهان وقال له: أوثق المأمون ولا تقتله حتى تقدم به إليّ، ولما سمع المأمون بذلك خلع أخاه من السلطة وتسمى بإمرة المؤمنين وندب إلى حربه أخاه طاهر بن الحسين.
وبدأ الصراع بين الأخوين واستمر ما يقارب الأربع سنوات، دُمرت فيها البلاد وأهلكت العباد، فقد حوصرت بغداد خمسة عشر شهرًا ورميت بالمجانيق، وكثر الخراب والدمار والهدم حتى درست معالم المدينة وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها.
انتهت الحرب بقتل الأمين شر قتلة، حيث ذبحوه من قفاه وأخذوا رأسه فمضوا به إلى طاهر بن الحسين وتركوا جثته[9]، فنصبه طاهر على برج، وخرج أهل بغداد للنظر وطاهر يقول هذا رأس المخلوع، ثم بعث بالرأس إلى المأمون، فلما وصل إليه الرأس سجد لله شكرًا وأعطى لمن أتاه به ألف ألف درهم[10].
وضعت الحرب أوزارها وصفا الملك للمأمون وخضعت له الرقاب، لكن الأخطار أخذت تهدد دولته الداخلية وحكومته، فلقد استغل العلويون الضعف الحاصل في الدولة، نتيجة تلك الصراعات الداخلية وتوالت الثورات فخرج أبو السرايا في الكوفة، وإبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن، وزيد بن موسى بن جعفر في البصرة، ومحمد بن جعفر بالمدينة، وهكذا أخذت الثورات تتسع وتحظى بالتأييد من مختلف الطبقات، ويخرج مع كل ثائر عشرات الألوف يناصرونه على أولئك الجبابرة، فأخذت الأمور تتفاقم على المأمون إذ إنه للتو خرج من حرب مدمرة ما كان لها غرض إلا تحصيل الملك والخلافة، وهو يرى اليوم كرسي خلافته مهددًا بالزوال فما الحل؟ وعلى من يعتمد؟ أَعَلى العرب الذين قتل أبناءهم وخرب بلادهم؟ أم على العباسيين الذين قتل زعيمهم؟
إذن كيف يواجه المأمون هذا المد العلوي؟ وكيف يضمن لسلطته البقاء؟ وكيف يحافظ على مكانته الاجتماعية من الزوال؟ إنه لا يوجد عند المأمون من ناصر ولا معين سوى الخراسانيين الذين كانوا يتمتعون بميول إلى أهل البيت (ع).
إذن فماذا على المأمون أن يفعل، وقد أدرك خطورة الموقف، وأيقن أن الجري على منهج آبائه القائم على البطش والإرهاب يؤدي إلى زوال خلافته.
الطريق إلى مهادنة العلويين
كان المنفذ الوحيد الذي يضمن بقاء الحاكم العباسي في السلطة هو مهادنة العلويين الذين كانوا شوكة في عيون السلطة الجائرة، فقد أدرك المأمون أن القاعدة الجماهيرية العلوية أخذت بالانتشار والتزايد، وأن زحفها المقدس لا يمكن أن يقف حتى يقتلع الفساد من جذوره وتعاد الراية إلى أهلها الحقيقيين، والمأمون موقن سلفًا بأن أصل حكمهم الجائر ما كان ليقوم لولا التظاهر بالدعوة للرضا من آل محمد، فكيف يستوعب الموقف خصوصًا وأن أنصاره الخراسانيين كانوا من أتباع أهل البيت؟ إنه لا بد من عمل يوفق فيه المأمون بين إرضاء العرب الذين دمّر بلدانهم وقتل الكثير من أبنائهم، وإرضاء الخراسانيين الذين ناصروه وأوصلوه إلى دفة الحكم، وإيقاف الثورات العلوية التي كادت تختطف كرسي الخلافة منه، إنه موقف حرج للغاية، تأمّل المأمون كثيرًا وهو عارف بأن النضوج السياسي والفكري ما كان ليحصل لولا وجود أئمة أهل البيت (ع) فأراد أن يضرب عصافير كثيرة بحجر واحد، فقرر أن يعطي ولاية العهد للإمام الرضا (ع)، لكن المأمون كان على مستوى من الذكاء، عارفًا بأن الأمة وخصوصًا العلويين لا يقبلون بغير تحكيم الراية المحمدية الأصيلة، وأن أغراضه العديدة لا تستوفي لو عرض على الإمام ولاية العهد ابتداءً، فبادر بعرض الخلافة على الإمام – وهو على يقين بأن الإمام سوف لن يقبلها – قائلًا له: (يا ابن رسول الله قد عرفتُ علمك وفضلك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة مني، فقال الرضا (ع): بالعبودية لله عز وجل أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عز وجل، فقال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك)[11].
إنه ذكاء كبير ودقة في العمل منقطعة النظير، فأي خلافة هذه التي يتصرف في شؤونها المأمون وتفتقر إلى توفر أبسط شروطها الموضوعية، فكيف يحقق الإمام العدالة في الأرض وهو محاط بمجموعة من الوزراء والقواد وقد تلطخت أيديهم بالكثير من الدماء من أجل الحكم والخلافة، أفلا يعني قبولها الانتحار؟! أفلا يعني أن الإمام يضع نفسه في قفص لا يمكن الخروج منه فيما بعد؟ فإن قبول خلافة كهذه ليس إلا مجازفة لا يقدم عليها إلا شقي جاهل ليس لديه أدنى اطلاع.
بالإضافة إلى أن الإمام كان عالمًـا بمكر المأمون ودهائه وأنّ تنازله عن الخلافة ليس جديًّا وأن من ورائه مكائد عديدة، وقد جاءته بالأمس رسالة الفضل وهي تدعوه للقدوم إلى خراسان ليكون شريكًا للمأمون في أمره فقد جاء في الرسالة: (فإذا أتاك كتابي جعلتُ فداك – وأمكنك أن لا تضعه من يدك حتى تسير إلى أمير المؤمنين، الذي يراك شريكًا في أمره، وشفيعًا في نسبه وأولى الناس بما تحت يده..)[12].
إن معنى الشركة في الأمر، لا يخلو في واقعه من أمرين، إما أن يكون المأمون خليفة والإمام ولي عهد – وهو الظاهر من العبارة – وهذا يعني أن المأمون كان عازمًا من أول الأمر على إعطاء ولاية العهد دون الخلافة، وإنما تظاهر بإعطاء الخلافة ليراه الناس مرتديًا لباس القديسين وقد قدم الخلافة للإمام على طبق من ذهب، لكن الإمام رفضها فيكون المأمون معذورًا عند سائر الموالين والمحبين لأهل البيت حينئذ، أو يكون الإمام هو الخليفة والمأمون ولي عهده، وهذا يعني أن التنازل عن الخلافة كان مسبوقًا بشرط وهو تولي المأمون لولاية العهد، وحينئذ وحيث إن الإمام يكبر المأمون بـ (22) سنة فإنه سيموت في النتيجة إن لم يكن المأمون قد أعد العدة لقتله، وبالتالي يتسلم المأمون الخلافة ويكون مرتاح البال هادئ الضمير وقد أرضى الجميع وحافظ على سلطانه أيضًا.
على أن الشواهد على زيف المأمون كثيرة جدًّا، فهل يعقل أن المأمون يتنازل عن الخلافة بهذه السهولة؟ فلماذا الحرب إذن؟ لماذا الخراب والدمار؟ لماذا آلاف الضحايا؟ لماذا السجود شكرًا عند وصول رأس أخيه الأمين إليه؟ ولماذا إعطاء ألف ألف درهم لمن جاءه بالرأس؟ أليس من أجل الملك والسلطان؟ ثم لماذا الإصرار على ولاية العهد؟ ولماذا التهديد بالقتل عند رفضها؟ أفهل يتناسب القتل مع فكرة التنازل عن الخلافة؟! ثم صلاة العيد خير شاهد على ما نريد، فلماذا الإرجاع حيث إن المأمون عندما عرف أن مرو تزعزعت بالبكاء والنحيب، وخاف من افتتان الناس بالإمام (ع) أمر بإرجاعه بإشارة من الفضل بن سهل، لماذا الخوف من افتتان الناس بالإمام؟ فليفتتنوا وليكن هو الخليفة أفليس المأمون كان يريد التنازل عنها؟ وغير ذلك الكثير الكثير من الشواهد التي تفضح المأمون وتكشف سوء نواياه، وتبين أنه لم يفكر آنًا ما في التنحي عن الخلافة، وكان جل همه أن يظهر بمظهر المصلح والورع التقي، ويُري الناس بأنه أعاد الخلافة إلى أهلها لكي يتمكن من الحفاظ على مملكته، لكن عقلانية الإمام الذي ألهمه الله علمه وحكمته لم تفته خطط المأمون، ولم يتركه يظهر للناس بلباس القديسين فأجابه قائلًا: (إن كانت هذه الخلافة لك والله جعلها لك، فلا يجوز لك أن تخلع لباسًا ألبسك الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك).
فورم أنف المأمون من جواب الإمام الحاسم، فراح يقول: (لا بد لك من قبول هذا الأمر) فأجابه الإمام (ع) (لستُ أفعل ذلك طائعًا)[13].
وورد أن المفاوضات دامت نحوًا من شهرين[14]، أسفرت عن رفض الإمام القاطع تسلم الخلافة، وقد أثار رفض الإمام هذا دهشة الوزير الفضل بن سهل (ذي الرياستين) الذي يظهر أنه لم يكن يعرف خيوط اللعبة، ولذا نراه قد خرج على الناس قائلًا: (واعجباه وقد رأيت عجبًا… رأيت المأمون أمير المؤمنين يقول لعلي بن موسى: قد رأيت أن أقلدك أمور المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأجعله في رقبتك، ورأيت علي بن موسى الرضا يقول: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بذلك ولا قوة، فما رأيت خلافة قط أضيع منها، أن أمير المؤمنين يتفصى منها ويعرضها على علي بن موسى وعلي بن موسى يرفضها ويأبى)[15].
كانت إذن ولاية العهد خدعة مأمونية لإرباك العلويين، هذا من جهة، ومن جهة أخرى طمس الحقيقة عن المسلمين المتشوقين للإمام الرضا ليكون خليفة أو وليًّا للعهد، وإذا رفض الرضا الخلافة ضمنًا، أو رفض ولاية العهد صراحة، يكون المأمون قد أظهر للناس أنه فعل ما عليه، وأن إمام العلويين هو الذي رفض، ومن ثم أسقط حقوقهم في الخلافة، وكان الإمام الرضا يدرك هذا الأمر بصورة جيدة، ومن هنا نكتب عن كيفية تعامل الإمام الرضا من ذلك الأمر في المحور الثالث.
المحور الثالث
الفكر السياسي والحوار عند الإمام الرضا (ع)
إن تبريرات المأمون التي أدت به إلى التنازل عن الخلافة للإمام الرضا (ع) كانت متناقضة ولا تنسجم مع مجريات الأحداث:
- إن المأمون لما أراد العقد للرضا علي بن موسى (ع) وحدث نفسه بذلك، أحضر الفضل بن سهل وأعلمه بما قد عزم عليه من ذلك، وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك ففعل واجتمعا بحضرته، فجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما في إخراج الأمر من أهله عليه، فقال له المأمون: (إني عاهدتُ الله أنني إن ظفرت بالمخلوع – يعني الأمين – أخرجت الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدًا أفضل من هذا الرجل على وجه الأرض…)[16].
فكيف يصح أن يعقد العهد على إعطاء الخلافة ويكون الوفاء بإعطاء ولاية العهد؟ فبعد أن رفض الإمام تسلّم الخلافة يكون المأمون قد عجز عن الوفاء بعهده، فما الداعي حينئذٍ إلى الإصرار والتهديد على قبول ولاية العهد؟! فالعهد المزعوم – الذي عقده المأمون مع الله – لم يتم الوفاء به على كافة الوجوه.
قد يكون مراد المأمون من تسليم الخلافة إعطاء ولاية العهد، وحينئذٍ إن كان الرجل قد وفى بعهده فماذا يعني تنازله عن الخلافة إذن؟ ألم تكن مسرحية حاول تمريرها على الرأي العام ليكون في نظرهم زاهدًا قديسًا قد أعاد الخلافة إلى أهلها كما تقدّمت الإشارة إليه؟
- إن المأمون أراد من خلال ذلك مكأفاة الإمام علي بن أبي طالب في ولده[17]، ومن الواضح أن بطلان هذا الادعاء لا يحتاج إلى مزيد بيان، فإن الأعداد الكثيرة التي قتلها المأمون من العلويين وأتباعهم خير شاهد على كذب مزاعمه هذه.
ومن بين هؤلاء إخوة الإمام الرضا (ع) زيد بن موسى بن جعفر[18]، الذي سقاه المأمون سمًا، وأحمد بن موسى بن جعفر الذي خرج للطلب بثأر أخيه الرضا (ع) وكان معه ثلاثة آلاف من العلويين فاشتبكوا مع جيوش المأمون في قم وخراسان في معارك أدت إلى استشهاد أحمد بن موسى مع الكثير من أصحابه[19]، وهارون بن موسى الذي كان في القافلة التي تقصد خراسان وكانت تضم 22 علويًّا وعلى رأسها السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر (ع) فأرسل المأمون إلى هذه القافلة جنودًا قتلوا وشردوا كل من فيها، وجرحوا هارون المذكور، ثم هجموا عليه فقتلوه وهكذا غيرهم.
يقول الكاتب علي أكبر تشيد: (إن كثيرًا من العلويين كانوا قد قصدوا خراسان أيام تولي الإمام ولاية العهد من المأمون، لكن أكثرهم لم يصل، وذلك بسبب استشهاد الإمام (ع) وأمر المأمون الحكام، وأمراء البلاد بقتل أو إلقاء القبض على كل علوي…)[20].
هذا بقطع النظر عن جريمته الكبرى وقتله للإمام الرضا (ع) التي تدل عليها الشواهد، منها الرسالة التي وجهها عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (ع) إلى المأمون ردًّا على رسالة المأمون إليه، التي أخبره فيها بأنه يريد أن يوليه العهد، والتي جاءت بعد استشهاد الإمام الرضا (ع) فقد جاء في مقاتل الطالبيين: (وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب إليه بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه ويبايع له…).
فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها: فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن الذي أطعمته إياه فقتلته… والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة… هبني لأثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا، تختل واحدًا فواحدًا منا…إلخ.
ونقل في المقاتل أيضًا نصًّا آخر للرسالة ولعلها رسالة أخرى جاء فيها: وصل كتابك وفهمته تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال علي بحيلة المغتال القاصد لسفك دمي… وعجبتُ من بَذْلِكَ العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ … أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟ فوالله لأن أقذف وأنا حي في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمرًا بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل… أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟…إلخ[21].
فقد أفصحت الرسالتان عن مكائد المأمون وسوء نيته وقيامه بقتل الإمام الرضا (ع) واغتياله للعلويين واحدًا فواحدًا… وهكذا يجد المتتبع أقوال المأمون وتبريراته بعيدة كل البعد عن واقع الأحداث كما أنها متناقضة فيما بينها..
أسباب ولاية العهد وأسباب قبول الإمام لها
كان كما ذكرنا أن للمأمون العباسي مناورات سياسية وأهدافًا عديدة أراد تحقيقها من خلال إعطاء الإمام ولاية العهد، ولذا رأينا أن الإمام قد رفض تلك الولاية رفضًا قاطعًا حتى هُدِّد بالقتل، وحينئذ قبل بذلك مكرهًا وشرط شروطًا عديدة لقبولها، وهذا يعني وكما تقدم أن الإمام لم يدخل في هذا الأمر إلا دخول الخارج منه، وأن الذي حمله على قبول ذلك ما حمل جده أمير المؤمنين على الدخول في الشورى، كما صرح بنفسه (ع) بذلك[22].
ولكي ينجلي الغبار وتتضح الحقيقة ناصعة بيضاء نتعرض بشيء من التفصيل إلى أهم الأسباب والدواعي التي دفعت المأمون إلى إعطاء ولاية العهد للإمام الرضا (ع).
- إن المأمون العباسي عالم بأن مركز الخطر الحقيقي الذي يهدد حكومته هو وجود الإمام (ع)، وهو بصير بأن النضوج الفكري والسياسي ما كان ليتولد في المجتمع لولا وجود أئمة أهل البيت (ع)، فأراد أن يحد من خطر وجود الإمام بوضعه تحت الرقابة، حتى يتمكن من معرفة أخباره والتقليل من اتصال أتباعه به، بل ويحاول التعرف على أهم الأقطاب الموالية التي تتصل بالإمام (ع)، وبالتالي يستطيع القضاء عليها بيسرٍ وسهولة.
وقد حدثنا الريان بن الصلت عن ذلك حيث قال: وكان هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني من أخص الناس عند الرضا (ع) من قبل أن يحمل، وكان عالمًا أديبًا لبيبًا وكانت أمور الرضا (ع) تجري من عنده وعلى يده، وتصير الأموال من النواحي كلها إليه قبل حمل أبي الحسن (ع)، فلما حمل أبو الحسن (ع) اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين والمأمون، فقربه ذو الرئاستين وأدناه، فكان ينقل أخبار الرضا (ع) إلى ذي الرئاستين والمأمون، فحظي بذلك عندهما، وكان لا يخفي عليهما من أخباره شيئًا، فولاه المأمون حجابة الرضا، وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا (ع) فكان من يقصده من مواليه لا يصل إليه، وكان لا يتكلم الرضا (ع) في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون وذي الرياستين.[23].
كما أن المأمون العباسي قد أشار بنفسه لهذه الحقيقة في معرض جوابه على حميد بن مهران وجمع من العباسيين عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه من البيعة للإمام الرضا (ع)، فقد قال: (…وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده ويأتي علينا منه ما لا نطيقه…)[24].
ومنها أيضًا إرسال بعض الجواري إلى الإمام بعنوان هدية[25] فإن المأمون كان يدس الوصائف هدايا ليطلعنه على أخبار من شاء… وأن للمأمون على كل واحد صاحب خبر[26]، فينتج من جمع الأحداث بعضها لبعض، أن إرساله بعض الجواري كان لعين الهدف المتقدم. كما نلاحظ أن الإمام قد كتب في رسالة منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي يقول: (وأما ما طلبت من الأذن علي، فإن الدخول إليّ صعب، وهؤلاء قد ضيقوا عليّ في ذلك، فلست تقدر عليه الآن…)[27].
- وحيث إن الجو العام كان يعلم أن الخلافة مغتصبة، وأن أهل البيت أحق الناس بها، فقد أراد المأمون بعمله هذا إضفاء الشرعية على خلافته وخلافة من سبقه، فوجود الإمام في الخلافة المأمونية يعني شرعيتها، وبالتالي شرعية الحكومات السابقة التي انبثقت منها خلافة المأمون، وفي هذا الصدد نلاحظ المأمون يقول: قد كان هذا الرجل مستترًا عنا يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتتنون به أنه ليس مما دعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا من دونه[28]… وحينئذٍ يكون المأمون – وفي تصوره بالطبع –قد استطاع أن يدحض ركيزتين قد ارتكز عليهما الأتباع والموالون في دعوتهم للحق، وهما المظلومية المتمثلة بسلب الخلافة عن أئمة أهل البيت (ع) والقداسة المتمثلة بزهدهم وورعهم وتقواهم وابتعادهم عن العمل في الحكومات الظالمة، وحينما يرى الناس أن الإمام يتولى عهد سلطان قاهر طليق اليد في أمور البلاد فسوف ينكشف لهم أنه لم يكن مظلومًا ولا مقدّسًا، خصوصًا وأن الإمام كان يكبر المأمون بـ22 عامًا مما قد يوحي في الأذهان أنه كان من محبي التسلط فإن الوضع الطبيعي أن يكون ولي العهد أصغر من الخليفة بكثير، ولا أقل أن يكون مقاربًا له في العمر، أما أن يكون أكبر من الخليفة، بهذا الفارق ومع ذلك يقبل بتولي العهد فقد يعني الشيء الكثير، ولذا نلاحظ أن رفض الإمام كان قاطعًا غير قابل لأدنى مناقشة، وقد تقدمت النصوص على ذلك فلا نعيد.
- القضاء على نضال التشيع الذي زلزل الأرض تحت أقدام المأمون، فقد تفجرت عليه الثورات من كل حدب وصوب، في وقت كانت حكومته بأمس الحاجة إلى الأنصار والأعوان، بعد الانقسام الحاصل في البيت العباسي والحروب الدامية التي جرت بينه وبين أخيه الأمين، فأراد أن يجعل من الإمام الرضا ورقة سياسية يساوم بها العلويين، ويتخلص من المد الثوري المستمر الذي كاد أن يقض أركان مملكته، فعند تولي الإمام الرضا لولاية العهد يكون العلويون قد هدأت ثائرتهم، إذ لا يمكنهم القيام ضد حكومة يكون الإمام أحد أفرادها، ونلاحظ في رسالة المأمون إلى العباسيين ما يشير إلى هذا الهدف، فقد جاء في رسالته وهو يتحدث عن ولاية العهد: (فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامة المودة بيننا وبينهم… وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم، وأنتم ساهون لاهون تائهون في غمرة تعمهون لا تعلمون ما يراد بكم…).
وهذه الفقرة من الرسالة إن دلت فإنما تدل على أن المأمون كان يشعر بمواطن الخطر، وأن الخلافة العباسية مهددة بالزوال، فأراد تثبيت أركانها ودفع السوء عنها، ولم يجد المأمون سبيلًا للحفاظ على مملكته وحقن دماء أبناء عمومته، إلا بالصلح مع العلويين ومهادنتهم، فقام بإعطاء ولاية العهد للإمام (ع)، ونستطيع القول إن المأمون قد نجح في إيقاف المد الثوري العلوي بلعبته هذه، ولم يحدثنا التأريخ بأن هناك ثورات قد انطلقت في فترة تولي الإمام لولاية العهد.
- إن المأمون لم يكن ليتمكن من الوصول إلى السلطة لولا سيوف الخراسانيين الذين كانوا يتمتعون بميول إلى أهل البيت (ع)، فكان عليه أن يعمل عملًا يُرضي فيه العرب الذين قتل رجالهم وخرب بلادهم، ويحافظ فيه على أنصاره الخراسانيين، فكانت فكرة ولاية العهد، وبالطبع فإن الخراسانيين عندما يرون أن ولي عهد المأمون هو الإمام الرضا (ع) سوف يشعرون بصدقه وقداسته، كما أن العرب سوف يرون بأم أعينهم بأن قتالهم لم يكن من أجل الحكم والسلطان، بل من أجل خدمة الأمة والنظر في مصالحها، وأن المأمون وإن اتخذ من مرو عاصمة له إلا أنه لا يفرق بين فارسي وغيره، وحينما رأى أن الإصلاح يتحقق في إخراج الأمر من بني العباس أخرجه وخالف في ذلك سيرة آبائه وأسلافه.
- حيث إن أم المأمون هي مراجل الفارسية ومؤدبه الفضل بن سهل الفارسي، وعاصمته مرو، كما أنه قام بقتل الكثير من العرب وقتل زعيمهم الأمين (أخيه) وخرب بلادهم، فقد كان مقامه الاجتماعي متدنيًا وسمعته سيئة جدًّا، وكان مرفوضًا عند العرب والعباسيين، بل وعند سائر الناس أيضًا، حتى أن المأمون جلس مرة يستاك على دجلة من وراء ستر، فمرّ ملّاح وهو يقول بأعلى صوته: (أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني وقد قتل أخاه؟!) والشواهد على تدني مقام المأمون الاجتماعي، سواء من جهة أمه أو من جهة قتاله العرب وقتل أخيه كثيرة، والغرض أن المأمون أراد بخطته تلك – إعطاء ولاية العهد للإمام (ع) – إعادة مقامه الاجتماعي، وحاول أن يكسب معنوية وشهرة عظيمة، إذ كان من الطبيعي أن يثني عليه الأكثر إن لم يكن الجميع؛ لكونه قد انتخب شخصية مرموقة ومقدسة ومن نسل النبي محمد (ص) لتولي هذا المنصب الخطير، وقد حرم إخوته وأبناءه من هذا الامتياز.
- كان في تصور المأمون أنه يستطيع من خلال هذا العمل أن يجعل من الإمام مستشارًا لنظام خلافته، وبالتالي يتمكن من القضاء على أي تمرد أو حركة مناوئة تحاول الإطاحة بعرشه؛ وذلك من خلال الشرف والاحترام الكبير الذي يتمتع به الإمام أولًا، والحنكة والعلم ومعرفة توجيه الأحداث بصورة صحيحة ثانيًا، ولذا نرى المأمون يقول للإمام: يا أبا الحسن لو كتبت إلى بعض من يطيعك في هذه النواحي التي فسدت علينا...[29] وقد رفض الإمام ذلك الطلب.
وقد تلخص من مجموع ما ذكرنا أن جل هدف المأمون كان الحفاظ على ملكه وسلطانه وأنه لم يكن يرد نقل الخلافة بل العكس هو الصحيح.
حوارات الإمام الرضا (ع) لولاية العهد
بعد أن فشلت المفاوضات حول منصب الخلافة، وحسم الأمر برفض الإمام لتولي ذلك المنصب، لمعرفته بمناورات المأمون وخططه السياسية قام المأمون بعرض ولاية العهد قائلًا: (فإن لم تقبل الخلافة ولم تجب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة من بعدي…)[30]، وقد رفض الإمام هذا الطلب أيضًا رفضًا قاطعًا لأنه كان عالمًا بأغراض المأمون من وراء ذلك، وأن غاية ما يريده هو تثبيت أركان سلطنته على ما يأتي بيانه عند ذكر أسباب إعطاء ولاية العهد، وإن النصوص التي دلت على رفض الإمام كثيرة جدًّا، فقد جاء في إرشاد المفيد بعد أن نقل عرض الخلافة على الإمام ورفض الإمام لها: فردّ عليه الرسالة – أي المأمون: فإذا أبيت ما عرضتُ عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي، فأبى عليه الرضا إباءً شديدًا، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم وقال له: إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك، فقال له الرضا (ع): (الله الله – يا أمير المؤمنين – إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه) قال له: فإني موليك العهد من بعدي… فقال له: (اعفني من ذلك يا أمير المؤمنين)، فقال له المأمون كلامًا كالتهديد على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم أن تضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك فإنني لا أجد محيصًا عنه، فقال له الرضا (ع): (فإني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى، ولا أفتي ولا أقضي، ولا أُولي ولا أعزل، ولا أغير شيئًا مما هو قائم) فأجابه المأمون إلى ذلك كله[31].
وجاء في مقاتل الطالبيين: (فأرسلهما – يعني الفضل بن سهل وأخاه الحسن – إلى علي بن موسى فعرضا عليه ذلك فأبى، فلم يزالا به وهو يأبى ذلك ويمتنع منه، إلى أن قال له أحدهما: إن فعلت وإلا فعلنا بك وضعنا، وتهدده، ثم قال له أحدهما: والله أمرني بضرب عنقك إذا خالفت ما يريد، ثم دعا به المأمون فخاطبه في ذلك فامتنع، فقال له قولًا شبيهًا بالتهديد ثم قال له: إن عمر جعل الشورى في ستة أحدهم جدك، وقال: من خالف فاضربوا عنقه ولا بد من قبول ذلك، فأجابه علي بن موسى إلى ما التمس[32]…. وجاء في الأمالي والعيون وغيرهما أن الإمام الرضا (ع) قال للمأمون: والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله (ص) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولًا بالسم، مظلومًا تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأُدفن في أرض غربة إلى جانب هارون الرشيد، فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن ذا الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حي، فقال الرضا (ع) أما إني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت، فقال المأمون يا ابن رسول الله، إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس أنك زاهد في الدنيا، فقال الرضا (ع) والله ما كذبت منذُ خلقني ربي عز وجل وما زهدتُ في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد قال: الأمان على الصدق، قال لك الأمان، قال: تريد بذلك أن يقول الناس أن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعًا في الخلافة؟ فغضب المأمون، ثم قال: إنك تتلقاني أبدًا بما أكرهه وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلا ضربت عنقك، فقال الرضا (ع): قد نهاني الله عز وجل أن ألقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أني لا أولي أحدًا ولا أعزل أحدًا ولا أنقضُ رسمًا ولا سنة وأكون في الأمر من بعيد مشيرًا، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (ع) لذلك[33]….. كما حدث أبو الصلت الهروي أنه دخل على الإمام الرضا (ع) فقال له: يا ابن رسول الله إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا، فقال (ع): قد علم الله كراهتي لذلك فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترتُ القبول على القتل… إلى أن قال: ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان[34]….. إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة والتي يتلخص منها عدة أمور تؤكد عقلانية الإمام الرضا ومنهجه الرسالي القائم على رفض الخلافة والسلطان بقبول السلطة ممن سفك الدماء وقتل الأبرياء منها:
- إن الإمام رفض الدخول في ولاية العهد رفضًا قاطعًا.
- إن المأمون ألزمه بذلك وأجبره عليه بل وهدده بالقتل إن رفض ذلك.
- إن الإمام ومن منطلق الحفاظ على نفسه من القتل قبل الدخول في ولاية العهد، لكنه اشترط شروطًا تجعل من دخوله في ولاية العهد رمزيًّا لا أكثر، وتبين للملأ أن الإمام غير راضٍ عن الدخول في هذا الأمر، وهذه الشروط هي:
أ. أن لا يعزل ولا يوحي أحدًا.
ب. أن لا يأمر ولا ينهى ولا يفتي ولا يقضي.
د. أن لا ينقض رسمًا ولا سنة.
هـ. أن لا يغيّر شيئًا مما هو قائم.
و. أن يكون مشيرًا من بعيد في شؤون الدولة[35].
هذا وإن رفض الإمام لولاية العهد لم يكن تقصيًا عن الخلافة وهروبًا منها، كيف وإن الأئمة كان جل همهم إقامة حكومة إسلامية عادلة في الأرض، وبذلوا الجهد الكبير في تهيئة الأرضية المناسبة لذلك؟ لكن الإمام كان عالمًا وعارفًا بمآرب المأمون ومخططاته، وأن ولاية العهد ليست إلا ألعوبة أراد المأمون تمريرها على عامة الناس، ذكر المدائني عن رجاله قال: لما جلس الرضا علي بن موسى (ع) في الخلع بولاية العهد، قام بين يديه الخطباء والشعراء وخفقت الألوية على رأسه، فذكر عن بعض من حضر ممن كان يختص بالرضا (ع) أنه قال: كنتُ بين يديه في ذلك اليوم، فنظر إليّ وأنا مستبشر بما جرى، فأومأ إليّ أن ادنُ مني فدنوت منه: فقال لي من حيث لا يسمعه غيري: (لا تشغل قلبك بهذا الأمر ولا تستبشر به، فإنه شيء لا يتم)[36].
وبالفعل لم يتم الأمر، واستشهد الإمام الرضا، ولكن تبقى سيرته السياسية نبراسًا لكل من يريد السياسة على أصولها السياسية، ولذلك نكتب نظرات حول حياته السياسية.
المحور الرابع
نظرة حول حياة الإمام الرضا السياسية
لتوضيح هذا الجانب من حياة الإمام الرضا نستعرض بعض المقدمات[37]:
أولًا: للحكم والسلطة دورٌ مهم في حياة الناس، فكلما كانت السلطة صالحةً رشيدة كانت حياة الناس أسعد وأسلم في مختلف الجوانب، أما إذا كان هناك انحراف في مجال السلطة والحكم فإن ذلك يؤثر على مختلف جوانب حياة الناس. يقول الإمام علي: “إذا تغير السلطان، تغير الزمان” وقديمًا قيل: الناس على دين ملوكهم.
ثانيًا: نحن نعتقد بمنصب الإمامة، وهي تختلف عن منصب الحكم والخلافة. والإمامة هي منصب إلهي لشؤون الدنيا والدين، بينما يرى سائر المسلمين أن الخلافة تفويض اجتماعي.
كان رسول الله يقود المسلمين، ويقوم بمهمتين رئيسيتين في قيادته:
المهمة الأولى: التبليغ.
المهمة الثانية: إدارة شؤون المجتمع في مختلف مجالات الحياة.
وبعد فقد رسول الله أصبح هناك فراغ في هاتين المهمتين، سائر المسلمين قالوا: بالنسبة لمهمة التبليغ، يكفي وجود كتاب الله تعالى ولا تحتاج الأمة إلى من يواصل مهمة التبليغ، وتبقى مهمة إدارة شؤون الناس وهي تتم من خلال التفويض الاجتماعي. بينما أتباع أهل البيت (ع) يعتقدون أن مهمة التبليغ لا تنتهي بفقد رسول الله، بل تمتد وتستمر عبر الأئمة المعصومين، وغاية ما هناك أن الرسول كان يتلقى الوحي، والأئمة يواصلون المهمة بما تلقوه من رسول الله، لأن حاجة الأمة إلى التبليغ والتوجيه لم تنته، فهناك قضايا غير واضحة، وهناك أمور مستجدة، فلا بدّ من مرجعٍ يرجع إليه الناس في أمور دينهم، ولا بدّ أن تكون هناك ثقة بأن هذا المرجع ينقل أوامر الله القطعية والواقعية، وليس بشكلٍ ظني وحسب اجتهاده وإدراكه. ولذلك نعتقد بأنه لا بدّ أن يكون هناك اختيارٌ من قبل الله تعالى لتعيين هذه المرجعية، والقرآن الكريم حينما يتحدث عن الإمامة يتحدث عنها بمنطق الجعل: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[38].
وهذا الأمر قد تحقق حيث إن رسول الله نص على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في أحاديث كثيرة وأبرزها حديث الغدير، ونص على الأئمة الإثني عشر أيضًا بشكلٍ عام، وكل إمام نص على الإمام الذي بعده. ففي صحيح البخاري عن جابر بن سمرة قال: كنت وأبي عند رسول الله، فقال: يكون اثنا عشر أميرًا. ثم قال كلمة لم أسمعها، فقال: إنه قال كلهم من قريش.
أحد العلماء وهو: محمد سعيد السندي ألّف كتابًا تتبّع فيه الروايات التي نصت على الرقم (اثنا عشر إمامًا) وسمى كتابه: مواهب سيد البشر في أحاديث الأئمة الاثني عشر. ولا يُمكن تطبيق هذا الرقم إلا على أئمة أهل البيت، فالإمامة منصب إلهي ولا تكون إلا بجعل واختيار من قبل الله تعالى، والأئمة الإثنا عشر منصوص عليهم من قبل الله عبر رسول الله (ص)، كما ينص الواحد منهم على الآخر.
ثالثًا: يعتبر الأئمة أن منصب القيادة والحكم نوع من التكليف الشرعي لهم، ولم يكن للأئمة رغبة ذاتية في الحكم والسلطة. ولذلك قال الإمام علي (ع): “اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا طمعًا في سلطان ولا رغبةً للحصول على شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودك”. وغيرها من الكلمات التي تؤكد هذه الحقيقة.
إذن ما الطريق في رأي الأئمة لتولي السلطة والحكم؟ يرى الأئمة (ع) أن هناك طريقًا واحدًا فقط وهو رضا الناس وخضوعهم، وهو نفس الطريق للأنبياء (ع). ويقول في ذلك أمير المؤمنين : “عهد إلي رسول الله (ص) عهدًا، قال لي: يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك أمرهم في عافية وأجمعوا على الرضا عليك فقم بشؤونهم وإن أعرضوا عنك دعهم وما اختاروا لأنفسهم”. وهذه كانت هي سيرة الأئمة.
وما حصل في تاريخ الأمة أن آخرين تولو الحكم، ولم تتح الفرصة للأئمة للقيام بدورهم الشرعي، وقد خسرت الأمة نتيجة ما حدث.
ما هو موقف الأئمة تجاه هؤلاء الحاكمين؟
أولًا: كان الأئمة يبذلون كل جهدهم لإصلاح ما يُمكن إصلاحه.
ثانيًا: كان الأئمة يُشجعون أصحابهم ذوي الكفاءات من أجل أن يكون لهم دور في مساعدة الأمة لإصلاح ما يُمكن إصلاحه، وفي تخفيف الضغط على إخوانهم المؤمنين، ومن أبرز الشخصيات وزير هارون الرشيد (علي بن يقطين) وهو من تلامذة الإمام الكاظم (ع) وقد كانت له منزلة خاصة عند الإمام (ع)، يقول الإمام الكاظم (ع) لعلي بن يقطين: يا علي اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاث، اضمن لي أن لا يأتيك أحد من موالينا في حاجة إلا قضيت حاجته، وأضمن لك أن لا يمس جمسك الحديد أبدًا، ولا يدخل بيتك الفقر أبدًا، ولا يظلك ظل سجن أبدًا.
وفي بحار الأنوار باب عنوانه: رفع الظلم عن المظلومين وإبلاغ حاجات المؤمنين إلى السلاطين، وهذه إحدى الروايات عن علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر (ع) قال: قال رسول الله: أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغ حاجته فإنه من أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيامة[39].
كان الظرف السياسي في حياة الإمام الرضا ظرفًا مميزًا، فقد كان المأمون العباسي في حالة ضعف بعد صراعه مع أخيه الأمين فأصبح العباسيون على غير رضا على المأمون، إضافةً إلى أن العلويين كان لهم نفوذهم البارز، هنا وجد المأمون نفسه في موقفٍ ضعيف، ففكر في استقطاب الإمام الرضا، حتى يأمن جانب العلويين، ويتقوى بهم على العباسيين.
أمر المأمون الإمام الرضا أن يقدم إليه من المدينة، وطلب منه أن يقبل الخلافة بعد أن يتنازل المأمون عنها، لكن الإمام لا يريد خلافةً تأتي عن هذا الطريق، وإنما طريقه رضا الناس وخضوعهم، فرفض هذا الأمر وقال للمأمون: إن كانت الخلافة ثوبًا ألبسك الله إياه، فلم تنزعه عن نفسك وتلبسنيه، وإن كانت الخلافة لغيرك فكيف تعطيني ما ليس لك. فطرح المأمون على الإمام أن يُصبح وليًّا للعهد، رفض الإمام ذلك، ولكن المأمون أصر وهدد الإمام، والمسألة لا تقف عند حدود التهديد لأن الإمام لا يخاف التهديد فأهل البيت (ع) شعارهم: وكرامتنا من الله الشهادة. وهو يعلم أنه مقتول على يدي المأمون قَبِل بولاية العهد أم لم يقبل.
ولكن الإمام رأى أن من مصلحة خط أهل البيت (ع) في تلك الظروف أن يقبل بولاية العهد، لأن أتباع أهل البيت (ع) كانوا يعيشون حالةً ضنكة وصعبة خصوصًا في عهد هارون الرشيد، وهم بحاجة لأن يعيشوا أجواءً هادئة وقبول الإمام بولاية العهد يُحقق هذا الهدف. إضافةً إلى ذلك فإن فضائل الإمام الرضا (ع) ظهرت بشكلٍ واسع مما دعى المأمون لتنفيذ خططه والتي كان يتحين الفرص للقيام بها فأقدم على قتل الإمام بذلك السم الذي قدمه للإمام في عنب ورمان، فراح شهيدًا ككل الأئمة ليثبتوا أن الشهيد هو محور التاريخ ومحور الكمال الإنساني، وقدوة البشرية في صراعها ضد الشر وقواه المختلفة.
خاتمة
من العرض السابق يتبين بوضوح كافي أن الإمام الرضا (ع) سار على النهج الرسالي المحمدي، رفض الظلم، لأن سياسة العترة الطاهرة هي سياسة بنّاءة تعمل على إيجاد الوسائل السليمة لرقي المجتمع وبلوغ أهدافه في الحياة الحرة الكريمة، سياسة تسعى لتحقيق المساواة في ربوعه، والفرص المتكافئة بين أبنائه لوقايتهم من الظلم والحرمان. سياسة تبنت العدل الخالص، والحق المحض، ومثلت وجهة الإسلام الصحيحة وأهدافه الإنسانية في عالم السياسة والحكم والإدارة هي أرقى سياسة عرفها التاريخ وأجدرها بتحقيق العدل السياسي والعدل الاجتماعي بين الناس لأنها تنشد الاطمئنان لا يشوبه قلق، والأمن لا يشوبه خوف، والعدل لا يشوبه ظلم. سياسة صريحة واضحة في جميع معالمها وجميع أهدافها. ولصلابة منفذيها في الحق الصريح، وصرامتها في العدل السليم ثار عليها النفعيون والمنحرفون وطالبوهم أن ينهجوا منهجًا يلبي مصالحهم وأطماعهم، ولو أنهم استجابوا لهم لما آلت الخلافة إلى غيرهم ولكنهم سلام الله عليهم آثروا رضا الله عز وجل وسلكوا الطريق الواضح الذي يقره الدين الحنيف، وهي سياسة الحق والعدل والعقل والنقل على السواء… سياسة تقوم على أسس الحوارات الهادئة والسياسة العاقلة التي تتميز بها سير الأنبياء والأوصياء…
[1] علي أبو الخير، في رحاب كربلاء، (القاهرة: مركز يافا للدراسات، 2000)، الصفحة 7.
[2] الثورات السياسيّة في عصر الإمام الرضا، موقع: //www.imamreza.net
[3] المصدر السابق.
[4] جلال الدين السيوطي، تاريخ الخلفاء، (القاهرة: مكتبة البابي الحلبي، 164)، الصفحة 134.
[5] المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، مؤسسة الأعلمي، وتاريخ الطبرسي، أحداث سنة 186، الأخبار الطوالج3، الصفحة 387.
[6] الكراع: الخيل والدواب الماشية.
[7] المسعودي، مروج الذهب، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 386.
[8] سيد جعفر مرتضى العاملي، الحياة السياسية للإمام الرضا (ع)، (قم المقدسىة: جماعة المدرسين، 1403هــ)، الصفحة 222.
[9] ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، (القاهرة: دار الريان للنشر، 1987)، أحداث سنة 198.
[10] المصدر السابق، أحداث سنة 198.
[11] ابن بابويه القمي، عيون أخبار الرضا (ع)، (قم المقدسة: دار العلم، 2016)، الجزء 2، الصفحة151.
[12] عبد الكريم الرافعي الشافعي، التدوين، نسخة كمبيوترية، تصرف من الكتاب ونقلًا عنه.
[13] عيون أخبار الرضا (ع)، مصدر سابق، الجزء2، باب40، الجزء3.
[14]المصدر نفسه، باب40، الجزء21.
[15] بهاء الدين علي بن عيسى الأردبيلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، (بيروت: دار الأضواء، 1403 هــ)، الجزء2، الصفحة 799.
[16] أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، نسخة مصرية قديمة، الصفحة454، والفصول المهمة، الصفحة255، وبحار الأنوار للمجلسي، الجزء49، الصفحة 145.
[17] الشيخ باقر شريف القرشي، حياة الإمام الرضا (ع) موقع: http://shiaonlinelibrary.com، الحديث2.
[18] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، (طهران: وزارة الإرشاد الإسلامي، 1986)، الجزء48، الصفحة 315.
[19] السيد محسن الأمين العاملي، أعيان الشيعة4، (دمشق: مطبعة ابن زيدون، نسخة قديمة 1359 هــ)، الصفحة 581.
[20] الحياة السياسية للإمام الرضا، مصدر سابق، الصفحة 428.
[21] مقاتل الطالبيين، مصدر سابق، الصفحات 498- 500.
[22] عيون أخبار الرضا (ع)، مصدر سابق، الجزء2، ت40، الحديث4.
[23] البحار، الجزء 49، الصفحة 139.
[24] عيون أخبار الرضا (ع)، مصدر سابق، الجزء2، ت41، الحديث 1.
[25] البحار، الجزء49، الصفحة 164.
[26] انظر حياة الإمام الرضا، مصدر سابق، الصفحة 213.
[27] عيون أخبار الرضا (ع)، الجزء 2، ت47، الحديث 18.
[28] عيون أخبار الرضا (ع)، الجزء2، ت41، الحديث1.
[29] البحار، الجزء 49، الصفحة 155.
[30] عيون أخبار الرضا (ع)، الجزء2، ت40، الحديث 3. وأمالي الصدوق، الصفحة65.
[31] الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، (النجف الأشرف: المطبعة الحيدرية، 1962)، الحديث 2، الصفحة 259.
[32] مقاتل الطالبين، مصدر سابق، الصفحة 454.
[33] عيون أخبار الرضا، الجزء2، ت40.
[34] البحار، الجزء 49، الصفحة 130.
[35] الإرشاد، الجزء2، الصفحة 259.
[36] الإرشاد، الجزء 2، الصفحة263، تحقيق مؤسسة آل البيت.
[37] الشيخ حسن الصفار، الإمام الرضا (ع) وموقفه السياسي، موقع: http://www.saffar.org
[38] سورة السجدة، الآية 24.
[39] حسن الصفار، مصدر سابق.
المقالات المرتبطة
المسلمون في الهند بين التهديدات والتأثير (5) التحديات
تهتم أكثر التحديات بالحديث عن جوانب الاحتكاك الفكري بين المسلمين والهندوس. ولا ريب أن التواصل العلمي بين المجتمعين الدينيين كان يلعب دورًا تاريخيًّا للتفاهم، يحسّن العلاقات متسامحة.
الفكر العربي الحديث والمعاصر | أركون قارئًا للتراث الإسلامي
عَمِل أركون على تطبيق منهجيته على التراث الإسلامي عبر الاستراتيجية التفكيكية التاريخية، التي تعمل على إعادة النظر في العناصر المقدسة،
تأمّلات بشرية في حمل ومولد الكلمة المقدّسة السلام على الأرض والمسرّة للناس
في عيد ميلاد السيد المسيح، نذكّر أنفسنا والناس جميعًا، بالسلام والمحبة، والتي هي خلاصة دعوة المسيح عيسى(ع)، وهي نفس دعوات كل الأنبياء، وكل المصلحين، وكل الأديان السماوية، اليهودية والمسيحية والإسلام