الشيطان وتكامل الإنسان(3)

الشيطان وتكامل الإنسان(3)

أهداف إبليس وكيفية إضلاله الناس

عرّف القرآن إبليس بوصفه عدوًّا مبينًا للإنسان ﴿اَلَمْ اَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ اَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾. (سورة يس، الآية 60). وبعد أن أمهله الله إلى يوم الوقت المعلوم، أقسم بعزة الله أن يضل جميع بني آدم إلا المخلصين ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاُغْوِيَنَّهُمْ اَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾. (سورة ص، الآيتان 82- 83). وبدأت محاولات إبليس مع آدم وحواء ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ﴾. (سورة الأعراف، الآية 20)، الذي تسبّب في إخراجهما من الجنة وهبوطهما إلى الأرض وحياة المشقة والصراع في الدنيا ﴿فَاَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾. (سورة البقرة، الآية 36).

وقد أوضح الله سبحانه هدف إبليس المتمثل في إضلال الناس في قوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ اَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾. (سورة النساء، الآية 60)، والمتمثل أيضًا في سوقهم إلى نار جهنم ﴿إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ اَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾. (سورة فاطر، الآية 6)، ﴿اَوَ لَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَي عَذَابِ السَّعِيرِ﴾. (سورة لقمان، الآية 21). ولعلّ من أنسب وأدق الصفات التي يمكن وصف الشيطان بها من خلال إضلاله للإنسان صفة قاطع الطريق، يقول الإمام الخميني (قده): “فالسالك في سلوكه بقدم المعارف إلى الله بمنزلة مسافر يسافر في الطريق الموحش المظلم إلى حبيبه. والشيطان قاطع طريق في هذا المسلك، والله تعالى هو الحافظ باسمه الجامع المحيط”[1].    

إذن، فوظيفة الشيطان الأساسية كما حددها القرآن هي الإضلال والإغواء للصدّ عن سبيل الحق والخير، لكن لا بالجبر والإكراه، كما أوضحنا سابقًا، بل بالوسوسة والتزيين وبالإغواء والتمويه. ومن الضروري الالتفات إلى أن “أي شيء يزيّن للإنسان عمل السوء، ويرغّبه في الشر والفساد عن طريق المغريات والمشوّقات، فهو شيطان رجيم وإبليس اللعين، سواء أكان هذا الشيء المزين المضلل إنسانًا أم مالًا أم جاهًا أم كتابًا أم صحيفة أم وسوسة وحديث نفس أم شيئًا آخر يُرى أو لا يُرى”[2]. فالقاعدة العامة إذن، هي أن الشيطان يمثّل في حقيقته البعد عن الله ويجسّد كل ما من شأنه إبعاد الإنسان عن ذكر الله، وعن جعل الله تعالى حاضرًا دائمًا في حياة الإنسان، وعلى هذا الأساس وبناءً على وظيفته وحقيقته فإن إبليس لا يتورّع عن الاستفادة من جميع الوسائل لأجل إبعاد الإنسان عن الله.

وللشيطان حيل لا تُحصى في ساحتي الفكر والعمل، ويسعى دائمًا لجعل الإنسان ينحرف عن الطريق القويم في مختلف الأبعاد الفردية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ولأجل تحقيق أهم أهدافه المتمثل في انحطاط الإنسان وانحرافه عن الصراط المستقيم، فإن الشيطان يسعى لتحقيق مجموعة من الأهداف البينية التي تؤدي إلى الغاية والهدف النهائي. وقد بيّن القرآن بعض الحيل والوسائل التي يتوسل بها الشيطان من أجل أن يدفع الإنسان إلى السقوط في هاوية البعد عن الله:

  1. النفوذ إلى الإنسان من جميع الجهات ليصدّه عن شكر الله.

﴿قَالَ فَبِمَا اَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ اَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ اَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ اَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾. (سورة الأعراف، الآيتان 16- 17).

  1. تطويق الإنسان والسيطرة الكاملة عليه.

﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً﴾. (سورة الإسراء، الآية 62).

فإبليس هنا كراكب أمسك بلجام مركبه يوجهه إلى حيث يشاء من غير أن يكون للمركب أية مقاومة، وهكذا يكون حال الإنسان حين يستسلم لإغواء الشيطان، بحيث يصير بلا إرادة تحول بينه وبين اتباع الشيطان.

  1. الصدّ عن ذكر الله وخاصةً الصلاة.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ اَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ﴾. (سورة المائدة، الآية 91).

  1. الدعوة إلى الكفر والارتداد.

﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ﴾. (سورة الحشر، الآية 16).

﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلـٰى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾. (سورة محمد، الآية 25).

  1. الإيقاع في الحيرة والتردد.

أثناء اختيار الإنسان بين طريق الحق وطريق الباطل، فإن إبليس يوقعه في الحيرة والتردد: ﴿كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الاَرْضِ حَيْرَانَ﴾. (سورة الأنعام، الآية 71).

  1. الابتداع في الدين.

من الأمور التي يقوم بها إبليس الالتقاطية، وتحريف الدين الإلهي، وتحريم حلال الله وتحليل حرامه، وإسناد ذلك إلى الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَاْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَاَن تَقُولُواْ عَلـٰى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾. (سورة البقرة، الآية 169).

  1. تسهيل ارتكاب الذنوب.

من حيل إبليس تسهيل ارتكاب الإنسان للذنوب، وتصغير كبائر الذنوب، وتهيئة الأجواء لارتكابها إما من خلال تزيين الأعمال السيئة وجعلها تبدو في الظاهر جميلة مغرية في أعين مرتكبيها، أو من خلال تطويل آمال الإنسان. ﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَاَمْلَى لَهُمْ﴾. (سورة محمد، الآية 25). ﴿تَاللهِ لَقَدْ اَرْسَلْنَا إِلَى اُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾. (سورة النحل، الآية 63). ﴿وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾. (سورة العنكبوت، الآية 38).

  1. سلسلة من المخططات وردت في قوله تعالى: ﴿إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لاَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الاَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ﴾. (سورة النساء، الآيات 117- 119). وتذكر الآية أن الشيطان قد عزم على تنفيذ التالي[3]:

أ. أقسم أن يأخذ من عباد الله نصيبًا معينًا، فالشيطان يعلم بعجزه عن إغواء جميع عباد الله، لأن من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.

ب. خطط الشيطان وغايته الأساسية تلخّصها الآية بعبارة: ﴿وَلاُضِلَّنَّهُمْ﴾.

ج. أقسم على إشغال الناس بالأماني العريضة وطول الأمل: ﴿وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ﴾.

د. وفيها يدعو الشيطان أتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، كقطع آذان الحيوانات أو خرقها، وهذه إشارة إلى واحدة من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها المشركون في الجاهلية؛ حيث كانوا يقطعون آذان بعض المواشي أو يخرقونها، وكانوا يحرّمون على أنفسهم ركوبها، بل ويحرّمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.

هـ. أقسم على تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله.

  1. نشر الفساد وترويج الفحشاء والمنكر.

﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَاْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾. (سورة النور، الآية 21).

﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَاْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء﴾. (سورة البقرة، الآية 268).

وعلى هذا الأساس يسعى الشيطان ليدفع الإنسان نحو الوقوع في شرب الخمر وعبادة الأصنام وارتكاب الميسر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَنصَابُ وَالاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (سورة المائدة، الآية 90).

إن السعي لترويج التعرّي يعد أحد أنجح الوسائل التي ينتهجها إبليس وأزلامه، وقد حذّر الله تعالى بني آدم من السقوط في هذا الأمر: ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا اَخْرَجَ اَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا﴾. (سورة الأعراف، الآية 27). وهذا من أخطر حيل إبليس، تعرية الإنسان من لباس الرحمة والحياء، ونزع لباس العلم والإيمان والإنسانية منه.

  1. نشر الكآبة والغم والحزن في المجتمع الإسلامي.

وذلك من خلال النجوى التي هي من إلقاءات الشيطان: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾. (سورة المجادلة، الآية 10). وهذه النجوى يزيّنها الشيطان في قلوب مرضى القلوب ليتوسل بها إلى حزنهم ويشوّش قلوبهم، ليوهمهم أنها في نائبة حلّت بهم وبلية أصابتهم[4].  

  1. إيقاع العداوة بين أفراد المجتمع المسلم.

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ اَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء﴾. (سورة المائدة، الآية 91).

  1. تهيئة الأجواء للنزاع والفرقة بين أبناء الأمة.

حين قام نبي الله موسى (ع) بوكز أحد أعدائه يومًا مما تسبب بوفاته – وهو الأمر الذي لم يكن يقصده موسى (ع) –  صرّح القرآن على لسان موسى (ع) بأن ذلك من عمل الشيطان: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ﴾. (سورة القصص، الآية 15).

كما تذكر الروايات التي وردت في مقام تفسير قوله تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ﴾. (سورة المائدة، الآية 30) أن إبليس أشعل نار النزاع بين أبناء آدم، الأمر الذي قاد أحدهما إلى قتل أخيه[5]. ولذلك يحث القرآن أتباعه على الحديث الحسن والكلام الطيب في وجه الآخرين حتى لا يتمكن الشيطان من إيقاع نير العداوة والبغضاء: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِى هِيَ اَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾. (سورة الإسراء، الآية 53).

كما يذكر القرآن أن الشيطان يسعى لإيقاع العداوة والبغضاء من خلال الخمر والميسر: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ اَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾. (سورة المائدة، الآية 91).

  1. إشعال فتيل الجدال مع أتباع الحق.

إن الشياطين يسعون دائمًا من خلال أوليائهم لحرف المؤمنين ممن يتبعون الحق، وذلك من خلال السعي لفتح قنوات من الجدال والنزاع الفكري يمرون عبرها إلى العقائد والأفكار التي يعتنقها ويؤمن بها هؤلاء المؤمنون بهدف زلزلتها وإحداث الشك فيها: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ اَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾. (سورة الأنعام، الآية 121)، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾. (سورة الحج، الآية 3). وعلى هذا الأساس يلجأ الشيطان إلى العديد من الحيل الفكرية والنظرية لتحقيق غايته، من هذه الحيل المغالطة، والسفسطة، وسوء الفهم، وإيجاد الشبهات، واللجوء إلى المتشابه من دون الإرجاع إلى المحكم، وغير ذلك. ولعل السرّ في لجوء الشيطان إلى الجدال يكمن في أن الجدال في المسائل الفكرية يعد من المقدمات الوهمية والخيالية، وفي المسائل العملية يكون منشؤه التعصب والحمية الجاهلية، وكلا الأمرين من أدوات الشيطان[6]. وعلى هذا الأساس فإن أساس الجدال الباطل من إلقاءات الشيطان.

  1. إلقاء الأحاديث الجميلة والخادعة في أوساط أعداء الأنبياء ﴿شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾. (سورة الأنعام، الآية 112).
  2. الأهواء.

ورد عن السري السقطي: إن إبليس قال: زينت لأمة محمد (ص) الذنوب فقطعوا ظهري بالاستغفار، فغويتهم بالأهواء فإنها ذنوب يقاتلون عليها ولا يستغفرون منها[7].

  1. التزيين.

من أخطر الحيل التي يلجأ إليها إبليس تزيين الذنوب وتجميل الأفكار والأعمال الباطلة في نظر مرتكبيها: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لاُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الاَرْضِ وَلاُغْوِيَنَّهُمْ اَجْمَعِينَ﴾. (سورة الحجر، الآية 39).

﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾. (سورة الأنفال، الآية 48).  

﴿تَاللهِ لَقَدْ اَرْسَلْنَا إِلَى اُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ﴾. (سورة النحل، الآية 63).

﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَاْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾. (سورة الأنعام، الآية 43).

﴿وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ﴾. (سورة النمل، الآية 24).

﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾. (سورة العنكبوت، الآية 38).

وقد أشار القرآن إلى مسألة تزيين الدنيا وملذاتها في سورة البقرة: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾. (سورة البقرة، الآية 212)، كما أشار في موضع آخر إلى تزيين حب النساء والأبناء والأموال الكثيرة: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالاَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾. (سورة آل عمران، الآية 14).

  1. يمنّي الناس بالآمال العريضة.

أحد أخطر الوسائل التي يلجأ إليها الشيطان لإضلال الناس هو إلقاء الأماني والوعود كطول العمر وغيرها من الأماني الكاذبة: ﴿وَلاُضِلَّنَّهُمْ وَلاُمَنِّيَنَّهُمْ﴾. (سورة النساء، الآية 119)، ﴿يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً﴾. (سورة النساء، الآية 120).

  1. التخويف.

من وسائل إبليس الأخرى زرع الخوف: ﴿إِنَّمَا ذٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ اَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. (سورة آل عمران، الآية 175)؛ وذلك من خلال وساوس الشيطان التي تؤثر في أتباع الشيطان وأوليائه خاصة، وأما المؤمنون الثابتون فلا تزلّ أقدامهم لهذه الوساوس مطلقًا، ولن يرعبوا ولن يخافوا أبدًا. ويستفاد من ذلك أن الإيمان أينما كان، كانت معه الشجاعة والشهامة، فهما توأمان لا يفترقان[8]

  1. يُنسي الناس ما عليهم فعله.

من أساليب إبليس في النفوذ والتغلغل بين الناس أنه يسعى ليشغلهم بالمسائل الفرعية ويلفت انتباههم إليها، وذلك ينسيهم المسائل والقضايا الأساسية المتعلقة بذكر الله وأداء التكاليف والوظائف الخاصة بهم: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ اُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾. (سورة المجادلة، الآية 19). وعلى هذا الأساس يُعدّ كل من نسيان الحوت في قصة سفر موسى وتابعه يوشع: ﴿وَمَا اَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ﴾. (سورة الكهف، الآية 63)، وكذلك نسيان الدفاع عن مظلومية يوسف عند عزيز مصر: ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾. (سورة يوسف، الآية 42)، يُعدّ كلا الموردين من إقدامات إبليس اللعين.

  1. تعليم السحر.

ذكر القرآن أن تعليم الناس السحر هو من أعمال الشياطين الكفرة: ﴿وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾. (سورة البقرة، الآية 102).

  1. تجويز الربا.

إن الشيطان ومن خلال الجنون والمس في نفس المرابي يدفعه إلى الخبط واختلال الموازين الطبيعية عنده، فلا يعود يفرّق بين البيع والربا: ﴿الَّذِينَ يَاْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾. (سورة البقرة، الآية 275).

  1. دعوة الناس للتحاكم إلى الطاغوت.

﴿اَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ اَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا اُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا اُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ اَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ اُمِرُواْ اَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ اَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾. (سورة النساء، الآية 60). والآية تنهى المسلمين عن أن يترافعوا في الحكم والقضاء إلى الحكام الطواغيت ممن يتجاوزون حدود الله، ويتعدون على قوانين الحق والعدل، وهذا التحاكم إلى الطاغوت هو فخ الشيطان ليضل المؤمنين عن الصراط المستقيم[9].

  1. إفشاء الأخبار المتعلقة بالنواحي الأمنية والعسكرية للأمة.

﴿وَإِذَا جَاءهُمْ اَمْرٌ مِّنَ الاَمْنِ اَوِ الْخَوْفِ اَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى اُوْلِي الاَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾. (سورة النساء، الآية 83). وتشير الآية إلى مسألة في غاية الخطورة على سلامة المجتمع الإسلامي تتعلق بنشر وإشاعة الأخبار وخصوصًا تلك المتعلقة بالمسائل الأمنية والعسكرية من دون تروٍ وتدقيق وتثبّت من تلك الأخبار، وبث ذلك بين الناس في كل مكان، من دون الرجوع في تلقف تلك الأخبار أولًا، ومراعاة المصلحة الاجتماعية والنفسية في نشرها ثانيًا إلى قادتهم المتولين زمام الأمور؛ وهم النبي (ص)، وخلفاؤه من أئمة أهل البيت (ع) بالدرجة الأولى، والفقهاء الذين يتولون قيادة الأمة من بعدهم في عصر الغيبة الكبرى بالنيابة. والأثر السلبي الخطير لنشر هذا النوع من الأخبار بهذه الطريقة هو ما يقصده الشيطان من خلال دفع أوليائه من المنافقين وضعاف الإيمان إلى القيام بهذه المهمة.

  1. الوعد بالفقر.

وذلك ليتجنب الناس الإنفاق والتكافل والتعاون فيما بينهم: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ﴾. (سورة البقرة، الآية 268).

  1. التسويف.

وهو من أساليب إبليس في الصدّ عن الصراط المستقيم، وذلك من خلال دفع الناس إلى التكاسل وإيكال أداء الأعمال إلى المستقبل. وقد ورد ذلك في الروايات الشريفة، ومنها ما جاء في كلام أمير المؤمنين (ع) في إحدى خطبه الواردة في نهج البلاغة: “فاتّقى عبدٌ ربه، نصح نفسه، وقدّم توبته، وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، حتى إذا هجمت منيّته عليه أغفل ما يكون عنها”[10]؛ أي إن الشيطان يمنّي الإنسان بطول العمر والأمل ليؤخر التوبة ويؤجلها، ولا يزال الشيطان يزين له المعصية ويمنّيه بالتوبة أن تكون في مستقبل العمر، ليسوّفها حتى يفاجئه الموت وهو في أشد الغفلة عنه.

وللشيخ محمد جواد مغنية كلام لطيف حول حيل الشيطان، وطرق نفوذه أوردها في تفسيره الكاشف، ونحن نذكرها هنا: “للشيطان أسماء كثيرة، منها اللعين والرجيم، والغاوي والغَرور، ويمكن تسميته بالشحاذ المتسوّل، لأنه يقف على باب القلب يستعطف، ويقرعه برفق ولين طالبًا الإذن بالدخول. فإذا أبطأت عليه تضرّع وتملّق بكلمات معسولة. ويكتفي منك أن توارب الباب، ولو قليلًا. فإذا فعلت دخل، وأخرج من محفظته الغواية والخداع، والوهم والإغراء، وشرع بتمويه الحقائق وتشويهها، وتزيين القبائح وتحسينها، وصوّر عمل الخير شرًّا، وجهاد المبطلين كفرًا، وسلم المحقين حربًا، والمنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، وألبس الخائن ثوب المصلح، والمخلص ثوب المفسد، إلى غير ذلك من حيله وأضاليله. وأجدى وسيلة يتوصل بها إلى مآربه تجسيم الخوف من قوة أوليائه الذين يقضون لُباناته [حاجاته]، ويحققون غاياته. إن الشيطان مهندس ومشرّع، أما قوته المنفذة فهم شيعته الذين ينشرون في الأرض الفساد والضلال. ومن أجل هذا يضخّم من شأنهم، ويمهد لهم سبيل السيطرة والنفوذ، ويلبسهم لباس العزة والقدرة، كي لا يرتفع في وجوههم صوت، أو يفكر في الانتقاض عليهم أحد، فيضعف سلطانه بضعفهم، وينقطع رجاؤه من الشر والفساد بانقطاع آثارهم.

والخلاصة أن من خاف أهل الفساد والضلال، وهادن واحدًا منهم، فقد هادن الفساد والضلال بالذات، ووقّع معاهدة الحب والإخاء بينه وبين الشيطان. وهذا مقياس لا يخطئ أبدًا في الفصل والتمييز بين من يدّعي الإيمان بالله والخوف منه، وبين من يوالي الشيطان، ويؤثر طاعته على طاعة الله. ولا شيء أدلّ على هذه الحقيقة من قوله سبحانه: ﴿ولا تخافوهم وخافون ِإن كنتم مؤمنين﴾، فإن معناه من ترك جهاد أهل الفساد والضلال خوفًا منهم فهو من أولياء الشيطان، وليس من الله في شيء”[11].   

وللعرفاء المسلمين مباحث نفيسة في كيفية إضلال الشيطان الإنسان، منها ما أورده الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه الإنسان الكامل، حيث تعرّض فيه لمظاهر إبليس في الوجود، وتطرّق في ثنايا هذا البحث إلى تنوع ظهوراته لإضلال الناس. ونذكر هنا ما أورده الشيخ بنوع من التصرف. يقول الشيخ الجيلي: إن لإبليس في الوجود تسعة وتسعون مظهرًا على عدد أسماء الله تعالى الحسنى، وله تنوعات وتشكّلات في تلك المظاهر لا يُحصى عدّها ويطول استيفاء شرح مظاهره جميعها. ونكتفي هنا بذكر بعض المظاهر هي أمهات جميع تلك المظاهر.

فمن تلك المظاهر الأساسية:

المظهر الأول: ما يظهر في الطبيعة والشهوات واللذات، فيظهر فيها للمسلمين العوام، فيغويهم أولًا بمحبة الأمور الشهوانية والرغبة إلى اللذات الحيوانية مما اقتضته الطبيعة الظلمانية حتى يعميهم، فعند ذلك يظهر لهم في الدنيا ويخبرهم بأن هذه الأمور المطلوبة لا تحصل لهم إلا بالدنيا، فينهمكون في حبها ويستمرون في طلبها، فإذا فعل بهم هذا تركهم، فإنه لا يُحتاج معهم بعد هذا إلى علاج، فإذا صاروا أتباعه فلا يعصونه في شيء يأمرهم به لمقارنة الجهل بحب الدنيا، فلو أمرهم بالكفر فكفروا، فحينئذ يدخل عليهم بالشك والوسواس في الأمور المغيبة التي أخبر الله عنها، فيوقعهم في الإلحاد، وتمّ الأمر.

المظهر الثاني: ويظهر في الأعمال للصالحين، فيزيّن لهم ما يصنعونه ليدخل عليهم العُجب، فإذا أدخل عليهم العُجب بنفوسهم وأعمالهم غرّهم بما هم عليه فلا يقبلون من عالِمٍ نصيحة، فإذا صاروا عنده بهذه المثابة قال لهم: يكفي، لو عمل غيركم عشر معشار ما تعملونه لنجا، فقلّلوا في الأعمال وأخذوا في الاستراحات واستعظموا أنفسهم واستخفّوا بالناس، ثم إذا أكسبهم هذه الأشياء مع بؤس ما كانوا عليه من سوء الخلق وسوء الظن بالغير انتقلوا إلى الغِيبة، وربما يُدخل عليهم المعاصي واحدة بعد واحدة. ويقول لهم: افعلوا ما شئتم فإن الله غفور رحيم، والله لا يعذب أحدًا، إن الله يستحي من ذي شيبة، إن الله كريم، حاشا الكريم أن يطالب بحقه، وأمثال ذلك، حتى ينقلهم مما كانوا عليه من الصلاح إلى الفسق. فعند ذلك يحلّ عليهم البلاء والعياذ بالله منه.

المظهر الثالث: ويظهر في النيّات والتفاضل بالأعمال ويظهر فيها على الشهداء، فيفسد نيّاتهم لتفسد أعمالهم. فبينما العامل منهم يعمل لله تعالى يدسّ عليه شيطانًا في خاطره يقول له: أحسن أعمالك فالناس يرونك لعلهم يقتدون بك، هذا إذا لم يقدر أن يجعله رياءً وسمعة ليقال فلان كذا وكذا، فإنه يدخل عليه من حيث الخبر، ثم يأتي عليه وهو في عمل مثلًا كقراءة القرآن، يقول له: هلا تحج إلى بيت الله الحرام وتقرأ في طريقك ما شئت، فتجمع بين أجري الحج والقراءة، حتى يخرجه إلى الطريق، فيقول له: كن مثل الناس أنت الآن مسافر ما عليك القراءة، فيترك القراءة وبشؤمه ذلك قد فوّت عليه الفرائض المفروضة المكتوبة، وقد لا يبلغ الحج، وقد يشغله عن جميع مناسكه بطلب القوت، وقد يورثه ذلك البخل وسوء الخلق وضيق الصدر، وأمثال ذلك من هذا كثير، فإنه من لا يقدر أن يفسد عليه عمله يدخل عليه عملًا أفضل مما هو عليه حتى يخرجه من العمل الأول ولا يتركه في الثاني.

المظهر الرابع: ويظهر في العلم، ويظهر فيه للعلماء. وأسهل ما على إبليس أن يغويهم بالعلم. قيل إنه يقول: والله لألفُ عالم عندي أسهل من أمّيّ قوي الإيمان، فإنه يتحير في إغوائه، بخلاف العالم فإنه يقول له ويستدل عليه بما يعلمه العالم أنه حق فيتبعه فيُغوى بذلك؛ مثلًا يأتي إليه بالعلم في محل شهوته فيقول له: اعقد بهذه المرأة على مذهب داوود وهو حنفي، أو على مذهب أبي حنيفة بغير وليّ وهو شافعي، حتى إذا فعل ذلك وطالبته الزوجة بالمهر والنفقة والكسوة، فإنه يجوز للرجل أن يحلف لامرأته حتى يرضيها ولو كذبًا، فإذا طالت المدة ورفعته إلى الحاكم يقول له إبليس: أنكر أنها زوجتك فإن هذا العقد فاسد غير جائز في مذهبك، فليست لك بزوجة فلا تحتاج إلى نفقة ولا إلى غيرها، فيحلف ويمضي. وأنواع ذلك كثيرة جدًّا لا تحصى وليس لها حدّ، بل لا يسلم منها إلا آحاد الرجال الأفراد.

المظهر الخامس: ويظهر في العادات وطلب الراحات على المريدين الصادقين، فيأخذهم إلى ظلمة الطبع من حيث العادة وطلب الراحة حتى يسلبهم قوة الهمم في الطلب، وشدة الرغبة في العبادة، فإذا عُدموا ذلك رجعوا إلى نفوسهم، فصنع بهم ما هو صانع بغيرهم ممن ليست له إرادة، فلا يُخشى على المريدين من شيء أعظم مما يُخشى عليهم من طلب الراحات والركون إلى العادات.

المظهر السادس: ويظهر في المعارف الإلهية، يظهر فيها على الصدّيقين والأولياء والعارفين إلا من حفظه الله تعالى، وأما المقرّبون فليس عليهم من سبيل. فأول ما يظهر به عليهم في الحقيقة الإلهية فيقول لهم: أليس أن الله حقيقة الوجود جميعه وأنتم من جملة الوجود والحق حقيقتكم؟ فيقولون: نعم، فيقول: لم تتعبون أنفسكم بهذه الأعمال التي يعملها هؤلاء المقلّدة؟ فيتركون الأعمال الصالحة، فإذا تركوا الأعمال قال لهم افعلوا ما شئتم لأن الله تعالى حقيقتكم، فأنتم هو، وهو لا يُسأل عما يفعل، فيزنون ويسرقون ويشربون الخمر حتى يؤول بهم ذلك إلى أن يخلعوا ربقة الإسلام والإيمان من أعناقهم بالزندقة والإلحاد، فمنهم من يقول بالاتحاد، ومنهم من يدّعي في ذلك الإفراد، ثم إذا طولبوا بالقصاص وسُئلوا عن منكراتهم التي فعلوها يقول لهم: أنكروا ولا تمكّنوا من أنفسكم، فإنكم ما فعلتم شيئًا وما كان الفاعل إلا الله وأنتم لستم هو على اعتقاد الناس واليمين على نية المستحلِف، فيحلفون أنهم لم يصنعوا شيئًا. قد يناجيهم في لباس الحق فيقول لأحدهم: إني أنا الله وقد أبحت لك المحرمات فاصنع ما شئت، أو فاصنع كذا وكذا من المحرمات فلا إثم عليك، وكل هذا لا يكون غلطًا إلا إذا كان إبليس هو الظاهر عليهم، وإلا فالحق سبحانه وتعالى بينه وبين عباده من الخصوصيات والأسرار ما هو أعظم من ذلك، ولمواجيد الحق علامات عند أهله غير منكورة، وإنما تتلبّس الأشياء على من لا معرفة له بها مع عدم العلم بالوصول. انتهى ما أورده الشيخ الجيلي، قد ذكرناه بتصرف[12].

[1] الإمام الخميني، شرح دعاء السحر، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1416 هـ، الصفحة 9.

[2] محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، الجزء 4، الصفحة 439.

[3] العلامة الطباطبائي، الميزان، الجزء 3، الصفحتان 311-312.

[4] الميزان، مصدر سابق، الجزء 9، الصفحتان 194-195.

[5] هاشمي رفسنجاني وآخرون، تفسير راهنما (فارسي)، الصفحة 344.

[6] جوادي الآملي، تفسير موضوعى قرآن كريم (فارسي)، الجزء 8، الصفحات 65-68.

[7] أحمد فريد المزيدي، الإمام الجنيد سيد الطائفتين، الصفحة 18.

[8] ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الجزء 2، الصفحتان 508-509.

[9] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، الجزء 3، الصفحة 184.

[10] نهج البلاغة، الخطبة 64.

[11] محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، الجزء 2، الصفحتان 207-208.

[12] عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، الصفحات 201-203 (بتصرف).



المقالات المرتبطة

تاريخ علم الكلام | الدرس الخامس عشر

بانَ في الدرس السابق أنّ مدينة الحلّة باتت، مع نهاية القرن السادس للهجرة، وعبر استقبالها لسديد الدين الحمِّصي الرازي – متكلّم عصره -، مركزًا للأفكار الكلاميّة

الفكر العربي الحديث والمعاصر | منهجية الجابري في قراءة التراث الإسلاميّ

قدم الجابري رؤية خاصة للتراث العربيّ – الإسلاميّ، واعتبره يمتلك خصوصية ذاتية كونه حاضر فينا، فهو: “جزء من انشغال الإنسان

رؤية فلسفية للكمال السماوي والنقص البشري

الكمال في معناه العام هو الوصول إلى الكمال الروحي والعقلي والخلقي، وهو غاية الإنسان عبر الدهور، ومفهوم الكمال في اللغة يأتي من مصدر كمل ويعني التمام

لا يوجد تعليقات

أكتب تعليقًا
لا يوجد تعليقات! تستطيع أن تكون الأوّل في التعليق على هذا المقال!

أكتب تعليقًا

<